المَبْحَثُ الخامِسُ: توجيهُ النَّهيِ الواردِ في التفضيلِ بين الأنبياءِ عليهم السَّلامُ
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: بيْنَما رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالِسٌ جاءَ يَهُودِيٌّ، فقالَ: يا أبا القاسِمِ ضَرَبَ وجْهِي رَجُلٌ مِن أصْحابِكَ، فقالَ: مَنْ؟ قالَ: رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ، قالَ: ادْعُوهُ، فقالَ: أضَرَبْتَهُ؟، قالَ: سَمِعْتُهُ بالسُّوقِ يَحْلِفُ: والذي اصْطَفَى مُوسَى علَى البَشَرِ، قُلتُ: أيْ خَبِيثُ، علَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فأخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وجْهَهُ، فقالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تُخَيِّرُوا بيْنَ الأنْبِياءِ، فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَومَ القِيامَةِ، فأكُونُ أوَّلَ مَن تَنْشَقُّ عنْه الأرْضُ، فإذا أنا بمُوسَى آخِذٌ بقائِمَةٍ مِن قَوائِمِ العَرْشِ، فلا أدْرِي أكانَ فِيمَن صَعِقَ، أمْ حُوسِبَ بصَعْقَةِ الأُولَى )) [618] رواه البخاري (2412) واللَّفظُ له، ومسلم (2374). ، وفي روايةٍ:
((لا تُفَضِّلوا بين أنبياءِ اللهِ)) [619] رواها البخاري (3414)، ومسلم (2373) مُطَوَّلًا مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وروى أبو هُرَيرةَ القِصَّةَ بنَحْوِه، إلَّا أنَّه قال:
((لا تُخَيِّروني على موسى)) [620] رواه البخاري (2411)، ومسلم (2373) مُطَوَّلًا. ، وفي حديثٍ آخَرَ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى )) [621] رواه البخاري (3395) واللَّفظُ له، ومسلم (2377) مِن حَديثِ عبد الله بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
فالنهيُ في هذا الحديثِ الأخيرِ يحتَمِلُ التأويلَ على وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أن يَكونَ المرادُ بقَولِه (أنا): رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفْسُه.
قال
الخطَّابي: (هذا أَولى الوَجهَينِ وأشبَهُهما بمعنى الحديثِ؛ فقد جاء من غيرِ هذا الطَّريقِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما ينبغي لنبيٍّ أن يقولَ: أنا خيرٌ من يُونُسَ بنِ مَتَّى)) [622] رواه أبو داود (4670)، وأحمد (1757) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ جَعفرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4670)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1757)، وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/196). والحديثُ رُوي بلفظ: ((لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ من يونُسَ بنِ مَتَّى)). أخرجه البخاري (3395) واللَّفظُ له، ومسلم (2377) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، فعَمَّ الأنبياءَ كُلَّهم، فدخل هو في جملتِهم)
[623] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/311). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/267). .
الثَّاني: أن يَكونَ إنما أراد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه:
((لا ينبغي لعبدٍ)): مَن سِواه من النَّاسِ، أي: لا ينبغي للعَبدِ القائِلِ أن يقولَ ذلك
[624] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/311)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/267). . ومِمَّا يُقَوِّي الاحتمالَ الثَّانيَ ورودُ جملةٍ مِن ألفاظِ الحديثِ في عَدَدٍ مِن رواياتِه في الصَّحيحينِ؛ ففي روايةٍ:
((لا أقولُ: إنَّ أحدًا أفضَلُ من يُونُسَ بنِ متَّى)) [625] رواها البخاري (3415)، ومسلم (2373) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي روايةٍ:
((من قال: أنا خيرٌ من يونُسَ بنِ متَّى، فقد كَذَب )) [626] أخرجها البخاري (4604) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. فلا يصِحُّ مع قولِه:
((فقد كذب)) أن يَكونَ المرادُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وفي روايةٍ يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قال -يعني اللهَ تبارك وتعالى- لا ينبغي لعبدٍ لي (وفي لفظ: لعَبْدِي) أن يقولَ: أنا خيرٌ من يُونُسَ بنِ مَتَّى)) [627] أخرجها مسلم (2376) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. . فقوله:
((لعبدٍ لي)) يمنع أن يَكونَ المرادُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً.
والحاصِلُ أنَّ في الحديثينِ نَهْيَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التفضيلِ بين الأنبياءِ، وعن تفضيلِه على موسى ويونُسَ خاصَّةً -على حملِ الحديثِ في يونُسَ على أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المرادُ- وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ منهما ومن سائِرِ الأنبياءِ قَطعًا، كما تقدَّمت الدَّلائِلُ عليه من الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وفي هذا إشكالٌ ظاهِرٌ، وقد وجَّه العُلَماءُ ذلك النَّهيَ لإزالةِ الإشكالِ في أقوالٍ مُتعَدِّدةٍ، مِن أقواها:
1- أنَّ المرادَ بالنَّهيِ المنعُ مِن التفضيلِ مِن جِهةِ النُّبُوَّةِ التي هي خَصلةٌ واحِدةٌ لا تفاضُلَ فيها، فهم متساوون فيها، وإنما التفاضُلُ بالخصائِصِ والمحَنِ ونَحوِها
[628] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (1/227)، ((تفسير القرطبي)) (3/262). .
قال
القُرطُبيُّ: (هذا قَولٌ حَسَنٌ؛ فإنَّه جمَعَ بين الآياتِ والأحاديثِ من غيرِ نَسْخٍ، والقَولُ بتفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ إنما هو بما مُنِح من الفضائِلِ وأُعطِيَ من الوسائِلِ)
[629] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/263). .
وقال
ابنُ قُتَيبةَ في حديثِ:
((لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى )): (يجوُز أن يريدَ لا تُفَضِّلوني عليه في العَمَلِ، فلعَلَّه أكثَرُ عَمَلًا منِّي، ولا في البلوى والامتحانِ؛ فإنَّه أعظَمُ مني محنةً)
[630] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 183). .
2- أنَّ المرادَ بالنَّهيِ مَنعُ التفضيلِ مِن عندِ أنفُسِنا؛ لأنَّ مقامَ التفضيلِ إنما هو إلى اللهِ تعالى وَحْدَه.
قال
ابنُ كثيرٍ في أوجُهِ الجوابِ عن هذا الإشكالِ: (ليس مقامُ التفضيلِ إليكم، وإنما هو إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعليكم الانقيادُ والتسليمُ له والإيمانُ به)
[631] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/671). .
3- أنَّ المرادَ بالنهيِ مَنعُ التفضيلِ الذي يؤدِّي إلى الخُصومةِ والتشاجُرِ
[632] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/671). .
قال
النوويُّ: (إنما نهى عن تفضيلٍ يؤدِّي إلى الخُصومةِ والفِتنةِ، كما هو المشهورُ في سبَبِ الحديثِ)
[633] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 38). . أي: في مِثْلِ الحالِ التي تحاكَمَ فيها اليهوديُّ مع الأنصاريِّ عند النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما في حديثِ أبي سَعيدٍ وأبي هُرَيرةَ، فهذا التوجيهُ ملائمٌ لسَبَبِ وُرودِ الحديثِ.
4- أنَّ المرادَ بالنَّهيِ مَنعُ التفضيلِ الذي يؤدِّي إلى توَهُّمِ النَّقصِ في المفضولِ، أو الغضِّ منه، والإزْراءِ به
[634] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (1/227)، ((تفسير القرطبي)) (3/262)، ((شرح مسلم)) للنووي (15/37). .
قال
الخطَّابي في النهيِ الواردِ: (معنى هذا تركُ التخييرِ بينهم على وجهِ الإزراءِ ببَعضِهم؛ فإنَّه ربَّما أدَّى ذلك إلى فسادِ الاعتقادِ فيهم والإخلالِ بالواجِبِ مِن حُقوقِهم، وبفَرْضِ الإيمانِ بهم، وليس معناه أن يُعتَقَدَ التَّسويةُ بينهم في درَجاتِهم؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه قد أخبر أنَّه قد فاضل بينهم)
[635] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 309). .
وذكر
ابنُ تَيمِيَّةَ أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى "أن يُفضَّلَ بين الأنبياءِ التفضيلَ الذي فيه انتقاصُ المفضولِ والغَضُّ منه"
[636] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (14/436). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قيل: خُصَّ يُونُسُ بالذِّكرِ؛ لِما يُخشى على من سمع قِصَّتَه أن يقَعَ في نَفْسِه تنقيصٌ له، فبالغ في ذِكْرِ فَضْلِه؛ لسَدِّ هذه الذَّريعةِ)
[637] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/452). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/432). .