المَبْحَثُ الرَّابعُ: تفضيلُ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أفضَلُ الأنبياءِ على الإطلاقِ.
قال اللهُ تعالى:
تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة: 253] . فقيل: المعنيُّ بقَولِه:
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا مرويٌّ عن
ابنِ عَبَّاسٍ والشَّعبيِّ ومجاهدٍ وغَيرِهم
[575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/520)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/165). .
قال
الزَّمخشريُّ: (الظَّاهِرُ أنَّه أراد مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه هو المفَضَّلُ عليهم حيث أُوتيَ ما لم يُؤتَه أحَدٌ مِن الآياتِ المُتكاثِرةِ المُرتَقِيةِ إلى ألفِ آيةٍ أو أكثَرَ. ولو لم يؤتَ إلَّا القُرآنَ وَحْدَه لكفى به فضلًا مَنفِيًّا على سائِرِ ما أُوتيَ الأنبياءُ؛ لأنَّه المُعْجِزةُ الباقيةُ على وَجهِ الدَّهرِ دونَ سائِرِ المُعْجِزاتِ. وفي هذا الإبهامِ مِن تفخيمِ فَضْلِه وإعلاءِ قَدْرِه ما لا يخفى؛ لِما فيه من الشَّهادةِ على أنَّه العَلَمُ الذي لا يَشتَبِهُ، والمتمَيِّزُ الذي لا يلتَبِسُ! ويقالُ للرَّجُلِ: من فعل هذا؟ فيقولُ: أحَدُكم أو بَعضُكم، يريدُ به الذي تُعورِفَ واشتَهَر بنَحْوِه من الأفعالِ، فيَكونُ أفخَمَ مِن التصريحِ به وأنوَهَ بصاحِبِه)
[576] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/297). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55] .
وقد احتجَّ العُلَماءُ بقَولِه تعالى:
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] لكونِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلَ الأنبياءِ؛ لأنَّ ما تفَرَّق في الأنبياءِ مِن خِصالِ الفَضلِ اجتمعت فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال الخازن: (احتجَّ العُلَماءُ بهذه الآيةِ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ من جميعِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. بيانُه أنَّ جميعَ خِصالِ الكَمالِ وصِفاتِ الشَّرفِ، وكانت متفَرِّقةً فيهم؛ فكان نوحٌ صاحِبَ احتِمالٍ على أذى قَومِه، وكان إبراهيمُ صاحِبَ كَرمٍ وبَذلِ مجاهدةٍ في اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكان إسحاقُ ويعقوبُ مِن أصحابِ الصَّبرِ على البلاءِ والمحَنِ، وكان داودُ عليه السَّلامُ وسُلَيمانُ مِن أصحابِ الشُّكرِ على النِّعمةِ، قال اللهُ فيهم:
اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وكان أيوبُ صاحِبَ صَبرٍ على البلاءِ، قال اللهُ فيه:
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وكان يوسُفُ قد جمع بين الحالتينِ، يعني: الصَّبرَ والشُّكرَ، وكان موسى صاحِبَ الشَّريعةِ الظَّاهِرةِ والمُعْجِزاتِ الباهِرةِ، وكان زكريَّا ويحيى وعيسى وإلياسَ مِن أصحابِ الزُّهدِ في الدُّنيا، وكان إسماعيلُ صاحِبَ صِدْقٍ، وكان يونُسُ صاحِبَ تضَرُّعٍ وإخباتٍ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تعالى أمر نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقتدِيَ بهم، وجمع له جميعَ الخِصالِ المحمودةِ المتفَرِّقةِ فيهم، فثبت بهذا البيانِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أفضَلَ الأنبياءِ؛ لِما اجتمع فيه من هذه الخِصالِ التي كانت متفَرِّقةً في جميعِهم. واللهُ أعلَمُ)
[577] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/133). .
والأحاديثُ في فَضلِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سائِرِ الأنبياءِ كَثيرةٌ؛ منها:1- عن
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أُعطِيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحَدٌ مِنَ الأنبياءِ قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، وأيُّما رجُلٍ مِن أُمَّتي أدركَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائِمُ، وكان النَّبِيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً، وأُعطِيتُ الشَّفاعةَ )) [578] رواه البخاري (438) واللَّفظُ له، ومسلم (521). .
قال
البغوي: (قوله:
((نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ))، معناه: أنَّ العدوَّ يخافُني وبيني وبينه مسافةُ شهرٍ، وذلك من نَصرِ اللهِ إيَّاه.
وقوله:
((جُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا))، أراد أنَّ أهلَ الكِتابِ ما أُبيحَت لهم الصَّلاةُ إلَّا في بِيَعِهم وكنائِسِهم، وأباح اللهُ عَزَّ وجَلَّ لهذه الأُمَّةِ الصَّلاةَ حيث كانوا؛ تخفيفًا عليهم وتيسيرًا، ثُمَّ خَصَّ منها المقبرةَ والحَمَّامَ والمكانَ النَّجِسَ، فنُهُوا عن الصَّلاةِ فيها.
وقَولُه:
((وطَهُورًا))، أراد به الترابَ، كما بَيَّنه في حديثِ حُذيفةَ:
((جُعِلَت لنا الأرضُ كُلُّها مَسجِدًا، وجُعِلَت تُربَتُها لنا طَهورًا )) [579] أخرجه مسلم (522). .
وقَولُه:
((وأُحِلَّت لي المغانمُ))، أراد أنَّ الأُمَمَ المتقَدِّمةَ منهم من لم يَكُنْ أُبيحَ لهم جهادُ الكُفَّارِ، فلم يَكُنْ لهم مغانمُ، ومنهم من أُبيحَ لهم الجِهادُ، ولكن لم تُبَحْ لهم الغنائِمُ، فكانت غنائِمُهم توضَعُ، فتأتي نارٌ فتَحرِقُها، وأباحها اللهُ سُبحانَه وتعالى لهذه الأُمَّةِ.
وقَولُه:
((أُعطِيتُ الشَّفاعةَ))، فهي الفضيلةُ العُظمى التي لا يشاركُه فيها أحدٌ يومَ القيامةِ، وبها ساد الخَلقَ كُلَّهم، حتى قال:
((أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ)) [580] أخرجه مسلم (2278) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)) ، وهو المقامُ المحمودُ الذي أعطاه اللهُ عَزَّ وجَلَّ)
[581] يُنظر: ((شرح السنة)) (13/ 197). .
وفي روايةٍ مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ:
((فُضِّلتُ على الأنبياءِ بسِتٍّ)) [582] أخرجها مسلم (523) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون)) . فذكر أربعًا من الخَمسِ المتقَدِّمةِ إلَّا الشفاعةَ، وزاد خَصلتينِ هما:
((أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِمِ)) و
((خُتِمَ بي النَّبِيُّون)) فتحصَّل من الروايتينِ سَبعُ خِصالٍ.
ومن حديثِ حُذيفةَ:
((فُضِّلْنا على النَّاسِ بثَلاثٍ )) [583] رواه مسلم (522) عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء)). . وفي رواياتٍ أنَّ الخصائِصَ أربَعٌ
[584] أخرجه مسلم (2278) بلفظِ: ((أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ القيامةِ، وأوَّلُ من ينشَقُّ عنه القبرُ، وأوَّلُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشَفَّعٍ)). وفي رواياتٍ أنَّها اثنتانِ
[585] رواه مسلم (523) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. بلفظ: ((نُصِرتُ بالرُّعبِ، وأُوتيتُ جوامِعَ الكَلِمِ)). ، ويتحصَّلُ من مجموعِ الرِّواياتِ جملةٌ مِن خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي فُضِّلَ بها على الأنبياءِ، تزيدُ على ما حُدِّد في كُلِّ روايةٍ مِن عَدَدٍ.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (فينتَظِمُ بهذا سَبْعَ عَشْرةَ خَصلةً، ويمكِنُ أن يُوجَدَ أكثَرُ من ذلك لمن أمعن التتَبُّعَ... وقد ذكر أبو سعيدٍ النيسابوريُّ في كِتابِ «شرف المصطفى» أنَّ عدَدَ الذي اختصَّ به نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الأنبياءِ سِتُّون خَصلةً)
[586] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/439). .
وأما اختلافُ الرِّواياتِ في تحديدِ العَدَدِ فإنَّه لا تعارُضَ فيه.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (طريقُ الجَمعِ أن يقالَ: لعَلَّه اطَّلع أولًا على بعضِ ما اختَصَّ به، ثُمَّ اطَّلع على الباقي، ومن لا يرى مفهومَ العَدَدِ حُجَّةً يَدفَعُ هذا الإشكالَ مِن أصلِه)
[587] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/436). .
2- عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنْتُ في المَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قَرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا علَى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلتُ: إنَّ هذا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عليه، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ، فأمَرَهُما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَرَآ، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ في نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ، وَلَا إذْ كُنْتُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قدْ غَشِيَنِي، ضَرَبَ في صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأنَّما أَنْظُرُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا
[588] الفَرَقُ: الخَوفُ والفَزَعُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 438). ! فَقالَ لِي:
((يا أُبَيُّ أُرْسِلَ إلَيَّ أَنِ اقْرَأِ القُرْآنَ علَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ علَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ علَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ علَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ علَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَلَكَ بكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَومٍ يَرْغَبُ إلَيَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ، حتَّى إبْرَاهِيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [589] رواه مسلم (820). .
قال
علي القاري: (فيه دليلٌ على رِفعةِ إبراهيمَ على سائرِ الأنبياءِ، وتفضيلِ نبيِّنا على الكُلِّ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أجمعينَ)
[590] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (4/ 1511). .
3- عن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((آتي بابَ الجَنَّةِ يومَ القيامةِ فأستفتِحُ فيَقولُ الخازِنُ: من أنت؟ فأقولُ: مُحَمَّدٌ، فيقولُ: بك أُمِرْتُ لا أفتَحُ لأحدٍ قَبْلَك )) [591] رواه مسلم (197). .
قال المظهري: (
((فأستفتِحُ))... هو طَلَبُ الفَتحِ.
((الخازن)): واحِدُ الخَزَنةِ، وهو مَلَكٌ مُوكَّلٌ بحِفظِ الجنَّةِ، سُمِّيَ خازِنًا؛ لأنَّ الجنَّةَ خِزانةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى، أعَدَّها للمُؤمِنين، وهو حافِظُها...
((بك أُمِرْتُ))؛ أي: أمِرْتُ بفَتحِ بابِك، يعني: أُمِرتُ بأنَّ أفتحَ لك بابَ الجنَّةِ أوَّلُ، ثُمَّ لغيرِك من الأنبياءِ والمُرْسَلين)
[592] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (6/ 87). .
4- عن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أنا أكثَرُ الأنبياءِ تَبَعًا )) [593] رواه مسلم (196) مطولاً. .
قال المظهري: ( (تَبَعًا) نصبٌ على التمييزِ، أي: تبعي أكثَرُ من أتباعِ الأنبياءِ، يعني: أمَّتي أكثَرُ من أُمَمِ جميعِ الأنبياءِ صَلَواتُ اللهِ عليهم)
[594] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (6/ 86). .
5- عن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لم يُصَدَّقْ نَبيٌّ من الأنبياءِ ما صُدِّقْتُ، وإنَّ من الأنبياءِ نَبِيًّا ما يُصَدِّقُه من أمَّتِه إلَّا رجُلٌ واحِدٌ! )) [595] رواه مسلم (196). .
قال الطِّيبي: (
((ما)) في
((ما صُدِّقْتُ)) مصدريَّةٌ، وهذا كنايةٌ عن أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثَرُ الأنبياءِ أُمَّةً)
[596] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (11/ 3633). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يومَ القيامةِ، وأوَّلُ من ينشَقُّ عنه القبرُ، وأوَّلُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشَفَّعٍ )) [597] رواه مسلم (2278). .
قال النووي: (قال
الهرويُّ: السَّيِّدُ: هو الذي يفوقُ قَومَه في الخيرِ. وقال غيرُه: هو الذي يُفزَعُ إليه في النَّوائِبِ والشَّدائِدِ، فيقومُ بأَمْرِهم ويتحَمَّلُ عنهم مكارِهَهم ويَدفَعُها عنهم.
وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يومَ القيامةِ)) مع أنَّه سَيِّدُهم في الدُّنيا والآخرةِ، فسَبَبُ التقييدِ أنَّ في يومِ القيامةِ يَظهَرُ سُؤدُدُه لكُلِّ أحدٍ، ولا يبقى منازِعٌ ولا معاندٌ ونحوُه، بخِلافِ الدُّنيا فقد نازعه ذلك فيها مُلوكُ الكُفَّارِ وزُعَماءُ المُشرِكين، وهذا التقييدُ قريبٌ مِن معنى قَولِه تعالى:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ مع أنَّ المُلْكَ له سُبحانَه قبل ذلك، لكِنْ كان في الدُّنيا من يدَّعي المُلْكَ، أو من يُضافُ إليه مجازًا، فانقطع كُلُّ ذلك في الآخِرةِ.
قال العُلَماءُ: وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ)) لم يَقُلْه فَخرًا، بل صَرَّح بنفيِ الفَخرِ في غيرِ مُسلِم في الحديثِ المشهورِ:
((أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ)) [598] أخرجه مُطَوَّلًا: الترمذي (3148)، وابن ماجه (4308) واللَّفظُ له، وأحمد (10987) مِن حَديثِ أبي سعيد الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الترمذي، وابن تيمية في ((التوسل والوسيلة)) (126)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3148)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10987)، وحَسَّنه لغيره الوادعي في ((الشفاعة)) (42). وإنما قاله لوجهَينِ: أحدُهما: امتِثالُ قَولِه تعالى:
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. والثَّاني: أنَّه من البيانِ الذي يَجِبُ عليه تبليغُه إلى أمَّتِه؛ لِيَعرِفوه ويعتَقِدوه ويَعمَلوا بمُقتَضاه، ويُوَقِّروه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما تقتضي مرتبتُه، كما أمرهم اللهُ تعالى.
وهذا الحديثُ دليلٌ لتفضيلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الخَلْقِ كُلِّهم؛ لأنَّ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الآدميِّينَ أفضَلُ مِنَ الملائِكةِ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الآدميِّينَ وغَيرِهم... قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((وأوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مُشَفَّعٍ)) إنما ذَكَر الثَّانيَ؛ لأنَّه قد يَشفَعُ اثنانِ فيَشفَعُ الثَّاني منهما قبل الأوَّلِ. واللهُ أعلَمُ)
[599] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 37). .
ومن حديثِ
أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في الشَّفاعةِ أنَّ عيسى عليه السَّلامُ يقولُ للنَّاسِ إذا أتوه يستشفِعونه:
((انطَلِقوا إلى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ )).
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ، ولا فَخْرَ)) [600] أخرجه مُطَوَّلًا: الترمذي (3148)، وابن ماجه (4308) واللَّفظُ له، وأحمد (10987) مِن حَديثِ أبي سعيد الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الترمذي، وابن تيمية في ((التوسل والوسيلة)) (126)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3148)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10987)، وحَسَّنه لغيره الوادعي في ((الشفاعة)) (42). .
وفي معنى
((ولا فَخْرَ)) قال
ابنُ الجوزي: (قال ابنُ الأنباريِّ: المعنى: لا أتبجَّحُ بهذه الأوصافِ، وإنما أقولها شُكرًا لربِّي ومُنَبِّهًا أمَّتي على إنعامِه عَلَيَّ، وقال
ابنُ عَقيلٍ: إنما نفى الفَخرَ الذي هو الكِبرُ الواقِعُ في النَّفسِ المنهيُّ عنه الذي قيل فيه:
لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] ولم يَنْفِ فَخْرَ التجَمُّلِ بما ذكَرَه مِنَ النِّعَمِ التي بمِثْلِها يُفتَخَرُ، ومِثلُه قَولُه:
لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] يعني الأشِرِينَ، ولم يُرِدِ الفَرَحَ بنِعمةِ اللهِ تعالى)
[601] يُنظر: ((صفة الصفوة)) (1/72). ، وقد قال سُبحانَه:
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] ؛ فأمر سُبحانَه بالفَرَحِ بفَضْلِه.
قال
ابنُ باز: (قد خَصَّ اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخصائِصَ عظيمةٍ، وحباه بصِفاتٍ كريمةٍ؛ فبعَثَه إلى النَّاسِ عامَّةً، وجعله رحمةً للعالَمِينَ، واتَّخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيمَ خليلًا، ورفع منزلتَه في أعلى الجنَّةِ وهي الوسيلةُ، وجعله سيِّدَ أولادِ آدَمَ كُلِّهم، وأعطاه المقامَ المحمودَ والشَّفاعةَ العُظمى يومَ القيامةِ، ونصره بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وشرح له صَدْرَه، وغفر له ذَنْبَه، ووضع عنه وِزْرَه، ورفع له ذِكْرَه، فلا يُذكَرُ سُبحانَه إلَّا ذُكِرَ معه، كما في الخُطَبِ والتشَهُّدِ والإقامةِ والتأذينِ. وخصائِصُه وشمائلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كثيرةٌ جِدًّا)
[602] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 259). .
وأجمعت الأُمَّةُ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الأنبياءِ وأكرَمُ البَشَرِ وأفضَلُ الخَلقِ وأعظَمُهم جاهًا عند اللهِ تعالى.
قال عِياضٌ: (تقرَّر من دليلِ القُرآنِ وصحيحِ الأثَرِ وإجماعِ الأُمَّةِ كَونُه أكرَمَ البشَرِ وأفضَلَ الأنبياءِ)
[603] يُنظر: ((الشفا)) (1/225). .
وقال الشروانيُّ: (قد حكى
الرازي الإجماعَ على أنَّه مُفَضَّلٌ على جميعِ العالَمِينَ)
[604] يُنظر: ((تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي)) (1/27). .
وقال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (قد اتَّفَق المُسلِمون على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعظَمُ الخَلقِ جاهًا عندَ اللهِ، لا جاهَ لمخلوقٍ عندَ اللهِ أعظَمُ مِن جاهِه، ولا شفاعةَ أعظَمُ من شفاعتِه)
[605] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/145). .
وقال أيضًا: (الأنبياءُ أفضَلُ الخلقِ باتِّفاقِ المُسلِمين)
[606] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (2/417). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلْمِ في ذلك:1- قال
الشافعي: (النَّاسُ عِبادُ اللهِ، فأولاهم أن يَكونَ مُقَدَّمًا أقرَبُهم بخِيرةِ اللهِ لرسالتِه ومُستودَعِ أمانتِه، وخاتَمُ النَّبِيِّينَ، وخيرُ خَلقِ رَبِّ العالَمِينَ؛ مُحَمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ)
[607] يُنظر: ((الأم)) (5/360). .
2- عَقَد
الآجُريُّ بابًا في كِتابه (الشَّريعة) فقال: (باب ذِكْرِ ما فضَّل اللهُ عَزَّ وجَلَّ به نبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا من الكراماتِ على جميعِ الأنبياءِ)
[608] يُنظر: (3/1552). .
3- قال
عبد الغنيِّ المقدسيُّ في عقيدتِه: (نعتقِدُ أنَّ مُحَمَّدًا المصطفى خيرُ الخلائِقِ وأفضَلُهم وأكرَمُهم على اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأعلاهم درجةً وأقرَبُهم إلى اللهِ وَسيلةً)
[609] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 196). .
4- عقد النوويُّ في شَرحِ صَحيحِ مُسلِمٍ بابًا فقال: (بابُ تفضيلِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على جميعِ الخلائِقِ)
[610] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/37). .
5- قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الخَلقِ وأكرَمُهم على رَبِّه عَزَّ وجَلَّ، وله من الفضائِلِ التي ميَّزه اللهُ بها على سائِرِ النَّبِيِّينَ ما يَضيقُ هذا الموضِعُ عن بَسْطِه)
[611] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/313). .
6- قال
ابنُ كثيرٍ: (هو أفضَلُ مِن جميعِ الخَلْقِ وسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ في الدُّنيا والآخرةِ، صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى إخوانِه من الأنبياءِ والمُرْسَلين)
[612] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/255). .
7- قال
السيوطيُّ: (نعتقِدُ أنَّ أفضَلَ الخَلقِ على الإطلاقِ حبيبُ اللهِ المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[613] يُنظر: ((إتمام الدراية)) (ص: 17). .
8- قال السفارينيُّ: (نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الخَلقِ، ولا شَكَّ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيرُ الخلائِقِ تفصيلًا وجُملًا)
[614] يُنظر: ((غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب)) (1/22). .
وينبغي أن يُعلَمَ أنَّ ما اختصَّ به بعضُ الأنبياءِ من الفضائِلِ لا يقتضي أفضلِيَّتَه على صاحِبِ المقامِ المحمودِ الذي يَغبِطُه به الأوَّلون والآخِرون صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهم، فإنَّ المفضولَ يجوزُ أن يختَصَّ بما ليس للفاضِلِ من غيرِ أن يَفضُلَه بما اختَصَّ به، وقد وقع نحوُ هذا في نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبعضِ أتباعِه من الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وهم دونَ الأنبياءِ في الفَضلِ؛ فهذا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه أخبره النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ
الشيطانَ يَنفِرُ منه، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نفسي بيَدِه، ما لَقِيَك الشَّيطانُ قَطُّ سالكًا فجًّا إلَّا سلك فجًّا غيرَ فَجِّك! )) [615] رواه البخاري (3294)، ومسلم (2396) مُطَوَّلًا مِن حَديثِ سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقد عرض
الشيطانُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صلاتِه ولم يَنفِرْ منه
[616] الحديث رواه البخاري (3423) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ عِفرِيتًا من الجِنِّ تفَلَّت البارحةَ لِيَقطَعَ عليَّ صلاتي، فأمكَنني اللهُ منه فأخَذْتُه، فأردتُ أن أربِطَه على ساريةٍ مِن سواري المسجِدِ حتى تنظُروا إليه كُلُّكم، فذكرتُ دعوةَ أخي سليمانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرَدَدْتُه خاسِئًا)). .
قال القَرافيُّ: (وأين عُمَرُ مِنَ النَّبِيِّ عليه السَّلامُ؟ غيرَ أنَّه يجوزُ أن يحصُلَ للمفضولِ ما لا يحصُلُ للفاضِلِ، ومن ذلك أنَّ الأنبياءَ صَلواتُ اللهِ عليهم أفضَلُ من المَلائكةِ على الصَّحيحِ، وقد حصل للملائكةِ المواظَبةُ على العبادةِ مع جميعِ الأنفاسِ، يُلهَمُ أحَدُهم التسبيحَ كما يُلهَمُ أحَدُنا النَّفَسَ، إلى غيرِ ذلك من الفضائِلِ والمزايا التي لم تحصُلْ للبَشَرِ، ومع ذلك فالأنبياءُ أفضَلُ منهم؛ لأنَّ المجموعَ الحاصِلَ للأنبياءِ من المزايا والمحاسِنِ أعظَمُ من المجموعِ الحاصِلِ للمَلائكةِ، فمن استقرى هذا وجده كثيرًا... فعلى هذه القاعدةِ تخَرَّجت الإقامةُ والأذانُ، وأنَّ من خواصِّهما التي جعل اللهُ تعالى لهما أنَّ
الشَّيطانَ ينفِرُ منهما دونَ الصَّلاةِ، وأنَّ الصلاةَ أفضَلُ منهما، ولا تناقُضَ في ذلك بسَبَبِ أنَّ المفضولَ يجوزُ أن يختَصَّ بما ليس للفاضِلِ)
[617] يُنظر: ((الفروق)) (2/145). .