هو الإمامُ العلَّامة الحافِظُ الكَبيرُ، الصادِقُ القدوة، العابد الأثَري المتَّبع، عالِم الحفاظ: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف المشهورة، ولد سنة 541 بجماعيل, وهي قرية من أعمال نابلس وكان أكبَرَ مِن الشيخ موفق الدين أحمد بن قدامة المقدسي بأربعة أشهر، وهما ابنا خالة، كان إمامًا حافظًا متقنًا مصنفًا ثقة، سمع الكثير ورحل إلى البلاد وكتب الكثير، وسيرته مذكورة في جزأين، ألفها الحافظ ضياء الدين أبي عبد الله المقدسي. كان الحافظ عبد الغني ليس بالأبيض بل يميل إلى السمرة، حسن الشَّعر، كثَّ اللحية، واسِعَ الجبين، عظيمَ الخَلقِ، تامَّ القامة، كأنَّ النور يخرج من وجهه. هاجر صغيرًا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع بها ثم ارتحَلَ إلى بغداد فالإسكندرية ثم أصبهان. قال ابن كثير: " كان قدوم الحافظِ وابن خالته الموفَّق مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجِدِ أبي صالح أولًا بدمشق، ثم انتقلوا إلى السفح فعُرِفَت المحلة بهم، فقيل لها الصالحية، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن، وسمع الحديث" قال السبط ابن الجوزي: "كان عبد الغني ورعًا زاهدًا عابدًا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة، كَوِردِ الإمامِ أحمد بن حنبل، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريمًا جوادًا لا يدَّخِرُ شيئا، ويتصَدَّقُ على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يُرَقِّعُ ثوبه ويؤثِرُ بثَمَن الجديد، وكان قد ضَعُف بصره من كثرة المطالعة والبكاءِ، وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ", وهو أحد أكابر أهل الحديث وأعيان حُفَّاظهم، قال ضياء الدين: "كان شيخُنا الحافظ لا يكاد يُسألُ عن حديث إلا ذكَرَه وبينه، وذكَرَ صِحَّته أو سَقَمَه، ولا يُسأل عن رجلٍ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكُرُ نَسَبَه، فكان أميرَ المؤمنين في الحديث، سمعته يقول: كنتُ عند الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين رجلٍ منازعة في حديث، فقال: هو في صحيح البخاري. فقلتُ: ليس هو فيه. قال: فكَتَبَه في رقعة، ورفَعَها إلى أبي موسى المديني يسألُه، قال: فناولني أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخَجِلَ الرجُل" وقال ابنه عبد الرحمن: "سمعت بعضَ أهلنا يقول: إنَّ الحافِظَ سُئل: لم لا تقرأُ مِن غير كتاب؟ قال: أخاف العُجبَ". كان مجتهدًا على الطلب، يُكرِم الطلبة، ويُحسِنُ إليهم، وإذا صار عنده طالبٌ يفهَمُ، أمَرَه بالرِّحلةِ، ويفرح لهم بسماع ما يحَصِّلونه. وقَعَت له محن على الاعتقادِ ونُفِيَ إلى مصر بسَبَبِ ذلك فاستقبله فيها أهلُ الحديث وأكرموه. قال ابن كثير: "رحل إلى أصبهان فسَمِعَ بها الكثير، ووقف على مصَنَّف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته في أماكِنَ مِن الكتاب في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فأبَغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في إزار. ولما دخلَ في طريقه إلى الموصل سَمِع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفيَّةُ بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفًا يترقَّبُ، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديثَ بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلةِ مِن جامع دمشق، فاجتمعَ الناس عليه وإليه، وكان رقيقَ القلب سريع الدمعة، فحصل له قَبولٌ مِن الناس جدًّا، فحَسَده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشِقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجَهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكَلَّم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهَرَ بصَوتِه مهما أمكنه، حتى يشَوِّشَ عليه، فحَوَّل عبد الغني ميعادَه إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدتَه على الكرسيِّ، فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين. وتكلموا معه في مسألةِ العلو ومسألة النزول، ومسألة الحَرفِ والصوت، وطال الكلامُ وظهر عليهم بالحُجَّة، فقال له برغش نائب القلعة: كلُّ هؤلاء على الضلالةِ وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغَضِبَ برغش من ذلك وأمره بالخروجِ من البلد، فارتحل بعد ثلاثٍ إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديثَ بها فثار عليه الفُقَهاءُ بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودُفِنَ بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق". قال تاج الدين الكندي: هو أعلم من الدارقطني والحافظ أبي موسى المديني" ولعبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال، وكتاب أشراط الساعة، وغير ذلك. قال ابن كثير: "وقد هَذَّب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي كتابه الكمال في أسماء الرجال- رجال الكتب الستة- بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوًا من ألف موضع، وذلك الإمام المِزِّي الذي لا يُمارى ولا يُجارى، وكتابه التهذيب لم يُسبَق إلى مثله، ولا يُلحَق في شكله فرحمهما الله، فلقد كانا نادِرَين في زمانهما في أسماء الرجال حِفظًا وإتقانًا، وسماعًا وإسماعًا وسَردًا للمتون وأسماء الرجال، والحاسِدُ لا يُفلحُ ولا ينال منالًا طائلًا." قال الذهبي: " ولم يَزَل يطلب ويسمَع، ويكتب ويسهر، ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتقي الله ويتعبد ويصوم، ويتهجد وينشر العلم، إلى أن مات. رحل إلى بغداد مرتين، وإلى مصر مرتين، سافر إلى بغدادَ هو وابن خاله الشيخ الموفق في أول سنة إحدى وستين، فكانا يخرجان معًا، ويذهب أحدهما في صحبة رفيقِه إلى درسه وسماعه، كانا شابَّين مختطَّين- يعني: أول ظهور الشعر في وجهيهما- وخوَّفهما الناس من أهل بغداد، وكان الحافظ مَيلُه إلى الحديث، والموفَّق يريد الفقه، فتفَقَّه الحافظ، وسَمِعَ الموفَّق معه الكثير، فلما رآهما العُقَلاء على التصَوُّن وقلة المخالطة أحبوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا عِلمًا جَمًّا، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، ونزلا أولًا عند الشيخ عبد القادر الجيلي- وكان لا يترك أحدًا ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما النجابة- فأحسن إليهما، ثم مات بعد قدومهما بخمسين ليلة، ثم اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المني". قال موفق الدين: "كان الحافظ عبد الغني جامعًا للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، ورفيقي في طلب العلم، وما كنا نستَبِقُ إلى خير إلَّا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورُزِقَ العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّر, وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيتُ أحدًا أشد محافظة على وقته من أخي". قال الحافظ: "أضافني رجلٌ بأصبهان، فلما تعشَّينا، كان عنده رجلٌ أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يُصَلِّ، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجلٌ شمسي- أي من عبدة الشمس- فضاق صدري، وقلتُ للرجل: ما أضفتَني إلا مع كافر! قال: إنَّه كاتبٌ، ولنا عنده راحة، ثم قمتُ بالليل أصلي، وذاك يستَمِعُ، فلما سمع القرآن تزفَّرَ، ثم أسلَمَ بعد أيَّام، وقال: لَمَّا سمعتك تقرأ، وقع الإسلامُ في قلبي". كان لا يرى منكرًا إلَّا غَيَّرَه بيده أو بلسانه، وكان لا تأخُذُه في الله لومة لائم. أهرق مرةً خَمرًا، فجَبَذ صاحِبُه السيفَ فلم يَخَف عبد الغني منه، وأخذ السيفَ مِن يده، وكان قويًّا في بدنه، وكثيرًا ما كان بدمشق يُنكِرُ ويكسِرُ الطنابير والشبَّابات, فقد كان لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. قال الضياء قال الحافظ: "كنت يومًا مع عبد الهادي عند حمام كافور، إذا قومٌ كثيرٌ معهم عِصِيٌّ، فخفَّفتُ المشي، وجعلت أقولُ: حسبي الله ونعم الوكيل، فلمَّا صرت على الجسر، لحقوا صاحبي، فقال: أنا ما كَسَرتُ لكم شيئًا، هذا هو الذي كسر. قال: فإذا فارسٌ يركض، فترجَّلَ، وقبَّل يدي، وقال: الصبيانُ ما عرفوك, وكان قد وضع اللهُ له هيبةً في النفوس". دخل الحافظ على العادل، فقام له، فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ، فقالوا: آمَنَّا بكراماتِك يا حافظ. وذكروا أن العادِلَ قال: ما خِفتُ مِن أحد ما خِفتُ من هذا. فقلنا: أيُّها الملك، هذا رجلٌ فقيه. قال: لَمَّا دخل ما خُيِّلَ إليَّ إلا أنَّه سَبُع. قال الضياء: رأيتُ بخط الحافظ: "والملك العادِلُ اجتمعْتُ به، وما رأيتُ منه إلا الجميل، فأقبل عليَّ وقام لي والتزمني، ودعوتُ له، ثم قلت: عندنا قصورٌ هو الذي يوجِبُ التقصير. فقال: ما عندك لا تقصيرٌ ولا قصورٌ، وذكَرَ أمْرَ السُّنَّة، فقال: ما عندك شيءٌ تعاب به لا في الدين ولا الدنيا، ولا بُدَّ للناس من حاسِدينَ.
وبلغني بعدُ عنه- قاله الضياء- أن العادل قال: ما رأيتُ بالشامِ ولا مصر مثلَ الحافظ؛ دخَلَ عليَّ فخُيِّلَ إليَّ أنه أسد، وهذا ببركة دعائِكم ودعاء الأصحاب. ثم قال الضياء: كانوا قد وغروا عليه صدر العادل، وتكَلَّموا فيه، وكان بعضُهم أرسل إلى العادل يبذُلُ في قتل الحافِظِ خمسة آلاف دينار. قلتُ-الضياء: جرَّ هذه الفتنةَ نَشرُ الحافظ أحاديث النزول والصفات، فقاموا عليه، ورموه بالتجسيم، فما دارى كما كان يداريهم الشيخُ الموفَّق". قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن الطحان، يقول: كان في دولة الأفضَلِ جعلوا الملاهيَ عند الدَّرَج، فجاء الحافِظُ فكسَّرَ شيئًا كثيرا، ثم صَعِدَ يقرأ الحديث، فجاء رسولُ القاضي يأمره بالمشيِ إليه ليناظره في الدفِّ والشبابة، فقال: ذاك عندي حرامٌ، ولا أمشي إليه، ثم قرأ الحديث. فعاد الرَّسولُ، فقال: لا بدَّ مِن المشي إليه، أنت قد بَطَّلتَ هذه الأشياء على السلطان. فقال الحافظ: ضَرَبَ الله رقبَتَه ورقبة السلطان. فمضى الرسولُ وخفنا، فما جاء أحدٌ". مات عبد الغني يوم الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة.