تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (بَعثةُ الأنبياءِ إلى النَّاسِ مِمَّا لا يَستغنون عنه) [686] يُنظر: ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (4/232). . وقال ابنُ تَيمِيَّةَ: (الرِّسالةُ ضَروريَّةٌ للعِبادِ لا بُدَّ لهم منها، وحاجتُهم إليها فوق حاجتِهم إلى كُلِّ شيءٍ، والرِّسالةُ رُوحُ العالَمِ ونورُه وحياتُه، فأيُّ صلاحٍ للعالَمِ إذا عُدِمَ الرُّوحُ والحياةُ والنُّورُ؟ والدُّنيا مُظلِمةٌ مَلعونةٌ إلَّا ما طلعت عليه شمسُ الرِّسالةِ، وكذلك العبدُ ما لم تُشرِقْ في قَلْبِه شمسُ الرِّسالةِ وينالُه من حياتِها ورُوحِها، فهو في ظُلمةٍ وهو من الأمواتِ؛ قال اللهُ تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122] ، فهذا وَصفُ المُؤمِنِ؛ كان مَيِّتًا في ظُلمةِ الجَهلِ، فأحياه اللهُ برُوحِ الرِّسالةِ ونورِ الإيمانِ، وجعل له نورًا يمشي به في النَّاسِ، وأمَّا الكافِرُ فمَيِّتُ القَلبِ في الظُّلُماتِ. وسمَّى اللهُ تعالى رسالتَه روحًا، والرُّوحُ إذا عُدِمَ فقد فُقِدَت الحياةُ؛ قال اللهُ تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى: 52] ، فذكر هنا الأصلينِ، وهما: الرُّوحُ والنُّورُ؛ فالرُّوحُ الحياةُ، والنُّورُ النُّورُ) [687] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (19/93). . وقال أيضًا: (أمَّا الكافِرُ ففي ظُلُماتِ الكُفْرِ والشِّرْكِ غيرُ حَيٍّ وإن كانت حياتُه حياةً بهيميَّةً، فهو عادِمُ الحياةِ الرُّوحانيَّةِ العُلويَّةِ التي سَبَبُها سَبَبُ الإيمانِ، وبها يحصُلُ للعَبدِ السَّعادةُ والفلاحُ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه جعل الرُّسُلَ وسائِطَ بينه وبين عبادِه في تعريفِهم ما ينفَعُهم وما يضُرُّهم، وتكميلِ ما يُصلِحُهم في معاشِهم ومَعادِهم، وبُعِثوا جميعًا بالدَّعوةِ إلى اللهِ وتعريفِ الطريقِ الموصِلِ إليه، وبيانِ حالِهم بعد الوصولِ إليه... وحاجةُ العبدِ إلى الرِّسالةِ أعظَمُ بكثيرٍ من حاجةِ المريضِ إلى الطِّبِّ؛ فإنَّ آخِرَ ما يُقَدَّرُ بعَدَمِ الطَّبيبِ مَوتُ الأبدانِ، وأمَّا إذا لم يحصُلْ للعَبدِ نورُ الرِّسالةِ وحياتُها مات قلُبُه موتًا لا تُرجى الحياةُ معه أبدًا، أو شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ معها أبدًا) [688] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (19/95). ! وقال ابنُ القَيِّمِ: (مِن هاهنا تَعلَمُ اضطِرارَ العِبادِ فوق كُلِّ ضَرورةٍ إلى معرفةِ الرَّسولِ وما جاء به، وتصديقِه فيما أخبر به، وطاعتِه فيما أمر، فإنَّه لا سبيلَ إلى السَّعادةِ والفلاحِ لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ إلَّا على أيدي الرُّسُلِ، ولا سبيلَ إلى مَعرِفةِ الطَّيِّبِ والخبيثِ على التفصيلِ إلَّا من جِهَتِهم، ولا يُنالُ رِضا اللهِ البتَّةَ إلَّا على أيديهم، فالطَّيِّبُ من الأعمالِ والأقوالِ والأخلاقِ ليس إلَّا هَدْيَهم وما جاؤوا به، فهم الميزانُ الرَّاجِحُ الذي على أقوالِهم وأعمالِهم وأخلاقِهم توزَنُ الأقوالُ والأخلاقُ والأعمالُ، وبمتابعتِهم يتميَّزُ أهلُ الهدى من أهلِ الضَّلالِ، فالضَّرورةُ إليهم أعظَمُ من ضرورةِ البَدَنِ إلى رُوحِه، والعَينِ إلى نورِها، والرُّوحِ إلى حياتِها، فأيُّ ضَرورةٍ وحاجةٍ فُرِضت فضرورةُ العَبدِ وحاجتُه إلى الرُّسُلِ فوقها بكثيرٍ. وما ظنُّك بمن إذا غاب عنك هَدْيُه وما جاء به طرفةَ عَينٍ فسَد قَلبُك، وصار كالحوتِ إذا فارق الماءَ ووُضِعَ في المِقلاةِ؟! فحالُ العبدِ عند مفارقةِ قلبِه لِما جاء به الرُّسُلُ كهذه الحالِ بل أعظَمُ، ولكِنْ لا يُحِسُّ بهذا إلَّا قَلبٌ حَيٌّ، وما لجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ [689] عَجُزُ بيتٍ للمتنبي، وصَدْرُه: مَن يَهُنْ يَسهُلِ الهوانُ عليه. وهو في ديوانه: (4/277) من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري الخراساني. ! وإذا كانت سعادةُ العَبدِ في الدَّارينِ مُعَلَّقةً بهَدْيِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَجِبُ على كُلِّ من نصح نَفْسَه، وأحبَّ نجاتَها وسعادتَها أن يَعرِفَ مِن هَدْيِه وسِيرتِه وشَأنِه ما يخرجُ به عن الجاهِلين، ويدخُلُ به في عِدادِ أتباعِه وشِيعَتِه وحِزبِه، والنَّاسُ في هذا بين مُستقِلٍّ ومُستكثِرٍ، ومحرومٍ، والفَضلُ بيَدِ اللهِ يُؤتيه من يشاءُ، واللهُ ذو فَضلٍ عَظيمٍ) [690] يُنظر: ((زاد المعاد)) (1/68). . وقال أيضًا: (حاجةُ النَّاسِ إلى الشَّريعةِ ضَروريَّةٌ فوقَ حاجَتِهم إلى كُلِّ شَيءٍ، ولا نِسبةَ لحاجَتِهم إلى عِلمِ الطِّبِّ إليها، ألا ترى أنَّ أكثَرَ العالَمِ يعيشون بغيرِ طَبيبٍ، ولا يَكونُ الطَّبيبُ إلَّا في بعضِ المدُنِ الجامِعةِ، وأمَّا أهلُ البَدْوِ كُلُّهم، وأهلُ الكُفورِ كُلُّهم، وعامَّةُ بني آدم لا يحتاجون إلى طبيبٍ، وهم أصحُّ أبدانًا، وأقوى طبيعةً ممَّن هو متقَيِّدٌ بالطبيبِ! ولعَلَّ أعمارَهم متقاربةٌ، وقد فطر اللهُ بني آدم على تناوُلِ ما ينفعُهم، واجتنابِ ما يضُرُّهم، وجعل لكلِّ قَومٍ عادةً وعُرفًا في استخراجِ أدويةِ ما يَهجُمُ عليهم من الأدواءِ، حتى إنَّ كثيرًا من أصولِ الطِّبِّ إنما أُخِذَت من عوائِدِ النَّاسِ وعُرْفِهم وتجارِبِهم. وأمَّا الشَّريعةُ فمبناها على تعريفِ مواقعِ رِضا اللهِ وسخَطِه في حركاتِ العِبادِ الاختياريَّةِ، فمبناها على الوَحيِ المحضِ، والحاجةُ إليها أشَدُّ من الحاجةِ إلى التنفُّسِ فضلًا عن الطعامِ والشَّرابِ؛ لأنَّ غايةَ ما يُقَدَّرُ في عَدَمِ التنَفُّسِ والطعامِ والشَّرابِ موتُ البَدَنِ، وتعَطُّلُ الروحِ عنه، وأمَّا ما يُقَدَّرُ عند عدَمِ الشَّريعةِ ففَسادُ الرُّوح ِوالقَلبِ جملةً، وهلاكُ الأبَدِ، وشَتَّانَ بين هذا وهلاكِ البَدَنِ بالموتِ؛ فليس النَّاسُ قَطُّ إلى شيءٍ أحوَجَ منهم إلى معرفةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والقيامِ به، والدَّعوةِ إليه، والصَّبرِ عليه، وجهادِ من خرج عنه حتى يرجِعَ إليه، وليس للعالَمِ صلاحٌ بدون ذلك البتَّةَ، ولا سبيلَ إلى الوصولِ إلى السَّعادةِ والفَوزِ الأكبَرِ إلَّا بالعبورِ على هذا الجِسْرِ) [691] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/863). . وقال مُحَمَّد رشيد رضا: (لا سبيلَ إلى إنقاذِ البَشَرِ في هذا العَصرِ إلَّا إثباتُ الوَحيِ المُحَمَّديِّ الموحِّدِ لإنسانيَّتِهم، المزكِّي لأنفُسِهم، والمكَمِّلِ لفِطرتِهم، الذي فيه السَّعادةُ الدُّنيويَّةُ والأُخرويَّةُ لهم في جُملتِهم. وقد بيَّنَّا في هذا الكِتابِ أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ وخاتَمُ النَّبِيِّينَ، وهو المُرْسَلُ إلى كافَّةِ النَّاسِ رحمةً للعالَمِينَ، وأنَّه هو الذي أكمل اللهُ به الدِّينَ، وأزال العَصَبيَّاتِ الجِنسيَّةَ والوطنيَّةَ لتوحيدِ الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ، فاتِّباعُه هو التِّرياقُ المجرَّبُ لهذه السُّمومِ الرُّوحيةِ الاجتماعيَّةِ القاتلةِ، راجين أن يفتحَ اللهُ تعالى به أبوابَ الهدى لكُلِّ من يعقِلُه ويتدَبَّرُه من مستقِلِّي الفِكرِ، وطالبي معرفةِ الحَقِّ وإصلاحِ الخَلْقِ، المعنيِّينَ بقولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16]) [692] يُنظر: ((الوحي المحمدي)) (ص: 36). .