المَطْلَبُ الأوَّلُ: الكمالُ في الخِلقةِ الظَّاهِرةِ
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69] .
وقد بَيَّن النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ إيذاءَ بني إسرائيلَ لموسى عليه السَّلامُ كان باتهامِهم إيَّاه بعَيبٍ خَلْقيٍّ في جَسَدِه.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ موسى كان رجلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لا يُرى مِن جِلْدِه شَيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيلَ، فقالوا: ما يستَتِرُ هذا التسَتُّرَ إلَّا مِن عيبٍ بجِلْدِه: إمَّا بَرَصٌ، وإمَّا أُدْرَةٌ [797] قال ابن رجب: (الأُدْرة: انتفاخُ الخُصْيةِ) ((فتح الباري)) (1/ 332). ويُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 31). ، وإمَّا آفَةٌ، وإنَّ اللهَ أراد أن يُبَرِّئَه مِمَّا قالوا لموسى، فخلا يومًا وَحْدَه، فوضع ثيابَه على الحَجَرِ، ثمَّ اغتسل، فلمَّا فَرَغ أقبل إلى ثيابِه ليأخُذَها، وإنَّ الحَجَرَ عدا بثوبِه، فأخذ موسى عصاه وطَلَب الحَجَرَ، فجعل يقول: ثوبي حَجَرُ! ثوبي حَجَرُ! حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيلَ فرأوه عُريانًا أحسَنَ ما خلق اللهُ، وأبرَأَه مِمَّا يقولون، وقام الحَجَرُ، فأخذ بثَوبِه فلَبِسَه، وطَفِقَ بالحَجَرِ ضَربًا بعصاه، فواللهِ إنَّ بالحَجَرِ لنَدَبًا [798] قال ابنُ الأثيرِ: (النَّدَبُ، بالتحريك: أثَرُ الجَرحِ إذا لم يرتَفِعْ عن الجِلْدِ، فشُبِّه به أثَرُ الضَّربِ في الحَجَرِ) ((النهاية)) (5/ 34). من أثرِ ضَرْبِه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قَولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69] )) [799] رواه البخاري (3404) واللَّفظُ له، ومسلم (339). .
قال عِياضٌ: (الأنبياءُ مُنَزَّهون عن النَّقائِصِ في الخَلْقِ والخُلُقِ، سالِمون من المعايبِ، ولا يُلتَفَتُ إلى ما قاله من لا تحقيقَ عنده في هذا البابِ مِن أصحابِ التواريخِ في صِفاتِ بَعْضِهم، وإضافةِ بَعضِ العاهاتِ إليهم؛ فاللهُ تعالى قد نزَّههم عن ذلك، ورفعهم عن كُلِّ ما هو عيبٌ ونقصٌ مِمَّا يَغُضُّ العُيونَ ويُنَفِّرُ القُلوبَ)
[800] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (7/ 349). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ مُعَقِّبًا على الحديثِ: (فيه أنَّ الأنبياءَ في خَلْقِهم وخُلُقِهم على غايةِ الكَمالِ، وأنَّ من نَسَب نبيًّا من الأنبياءِ إلى نَقصٍ في خِلقَتِه فقد آذاه، ويُخشى على فاعِلِه الكُفْرُ)
[801] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/438). .
وقال اللهُ تعالى في قِصَّةِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ:
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ: قُلْنَ ما هذا بشَرًا؛ لأنهنَّ لم يَرَينَ في حُسنِ صُورتِه من البَشَرِ أحدًا، فقلن: لو كان من البَشَرِ لكان كبَعضِ ما رأينا من صورةِ البَشَرِ، ولكِنَّه من المَلائكةِ لا من البَشَرِ!)
[802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/140). .
وفي حديثِ المِعراجِ قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِى بِخَيْرٍ )) [803] أخرجه مسلم (162) مُطَوَّلًا مِن حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
وليس معنى كونِ الرُّسُلِ أكمَلَ النَّاسِ خِلْقةً أنَّهم على صفةٍ واحدةٍ وصُورةٍ واحدةٍ، فالكمالُ الذي يُدهِشُ ويُعجِبُ مُتنوِّعٌ، وذلك من بديعِ صُنعِ الواحِدِ الأحدِ، وكمالِ قُدرتِه سُبحانَه.
وقد وصف النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ جميعًا، ومنهم عيسى عليه السَّلامُ.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((رأيتُ عيسى فإذا هو رجُلٌ رَبعةٌ أحمَرُ، كأنما خرجَ مِن ديماسٍ )) [804] أخرجه مُطَوَّلًا البخاري (3394) واللَّفظُ له، ومسلم (168). .
قال
ابنُ الملَقِّنِ: (قَولُه في عيسى:
((كأنما خرجَ مِن ديماسٍ)) قيل: هو السَّرَبُ، وقيل: الحَمَّامُ، وأراد إشراقَ لَونِه ونَضارَتَه. وقيل: لم يَكُنْ لهم يومئذٍ ديماسٌ، وإنما هو من علاماتِ نُبُوَّتِه)
[805] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (19/458). .
وقد وصف الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمن ذلك قولُهم: (كان ربعةً
[806] قال ابنُ الأثير: (هو بين الطَّويلِ والقصيرِ) ((النهاية)) (2/ 190). من القَومِ، ليس بالطَّويلِ البائِنِ ولا بالقصيرِ، أزهَرَ اللَّونِ، ليس بأبيَضَ أمهَقَ، ولا بالآدَمِ
[807] قال النوويُّ: (الأمهَقُ بالميمِ هو شديدُ البياضِ كلَونِ الجِصِّ، وهو كريهُ المنظرِ، وربَّما توهَّمه الناظِرُ أبرَصَ، والآدَمُ الأسمَرُ، معناه ليس بأسمرَ ولا بأبيضَ كريهِ البياضِ، بل أبيضُ بياضًا نيرًا) ((شرح مسلم)) (15/ 100). ، ليس بجَعدٍ قَطَطٍ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ
[808] قال ابن الأثيرِ: (السَّبطُ من الشَّعرِ: المنبَسِطُ المسترسِلُ، والقَطَطُ: الشَّديدُ الجُعودةِ: أي كان شَعرُه وسَطًا بينهما) ((النهاية)) (2/ 334). [809] رواه مُطَوَّلًا البخاري (3547) واللَّفظُ له، ومسلم (2347) مِن حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. .
وسُئِلَ الْبَرَاءُ رَضِيَ اللهُ عنه أَكَانَ وَجْهُ النَّبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: (لَا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ)
[810] رواه البخاري (3552). !
وسأل رجلٌ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه وهو يَصِفُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكانَ مُسْتَدِيرًا
[811] رواه مسلم (2344). .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (قَولُه: «كان وَجْهُه مِثلَ السَّيفِ» يحتَمِلُ هذا التشبيهُ وجهينِ:
أحَدُهما: أنَّ السيوفَ كانت عندهم مُستحسَنةً محبوبةً يتجَمَّلون بها، ولا يفارقونها، فشَبَّه وَجْهَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم به؛ لأنَّه مستحسَنٌ محبوبٌ يُتجمَّلُ به حين المجالَسةِ، ولا يُستغنى عنه.
وثانيهما: أنَّه كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزهَرَ صافيَ البياضِ، يَبرُقُ وَجْهُه... فشَبَّه وَجْهَه بالسَّيفِ في صفاءِ بياضِه وبريقِه. واللهُ تعالى أعلَمُ.
وقولُه: (لا، بل مِثلَ الشَّمسِ والقَمَرِ) هذا نفيٌ لتشبيهِ وَجهِه بالسَّيفِ، لِما في السَّيفِ من الطُّولِ، فقد يحتَمِلُ أنَّ وَجْهَه كان طويلًا، وإنما كان مستديرًا في تمامِ خَلْقٍ، ولأنَّه تقصيرٌ في التشبيهِ، فأضرب عن ذلك، وذكر من التشبيهِ ما هو أوقَعُ وأبلَغُ، فقال: (بل، مِثلَ الشَّمسِ والقَمَرِ)، وهذا التشبيهُ هو الغايةُ في الحُسنِ؛ إذ ليس فيما نشاهِدُه من هذه الوُجوهِ أحسَنُ ولا أرفَعُ ولا أنفَعُ منهما، وهما اللذان جرت عادةُ الشُّعَراءِ والبُلَغاءِ بأن يُشَبِّهوا بهما ما يستحسِنونه)
[812] يُنظر: ((المفهم)) (19/57). .
وكان النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشبَهَ النَّاسِ بنبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كما أخبر هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك
[813] رواه البخاري (3394)، ومسلم (168) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ مسلم: ((..ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به..)) .