المَبحَثُ الرَّابِعُ: الفَرْقُ بينَ المُعجِزةِ والكَرامةِ
مِنَ الفُروقِ بينَ المُعجِزةِ والكرامةِ: أنَّ المُعجِزةَ تَكونُ مَقرونةً بدَعوى النُّبوَّةِ، بخِلافِ الكرامةِ؛ فإنَّ صاحِبَها لا يَدَّعي النُّبوَّةَ، وإنَّما حَصَلَت له الكرامةُ باتِّباعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والِاستِقامةِ على شَرعِه.
قال أبو الفَضلِ عَبدُ الواحِدِ بن عَبدِ العَزيزِ التَّميميُّ -ضِمنَ ذِكرِه لجُملةِ اعتِقادِ
الإمامِ أحمَدَ بنِ حَنبلٍ الذي كانَ يَذهَبُ إليه- في بيانِ الفَرقِ بينَ المُعجِزةِ وكراماتِ الأولياءِ: (وكانَ يَذهَبُ إلى جَوازِ الكراماتِ للأولياءِ، ويُفرِّقُ بينَها وبينَ المُعجِزةِ، وذلك أنَّ المُعجِزةَ توجِبُ التَّحَرِّيَ إلى صِدقِ من جَرَت على يَدِه، فإن جَرَت على يَدَيْ وَليٍّ كتمَها وأسَرَّها، وهذه الكرامةُ، وتلك المُعجِزةُ، ويُنكِرُ على من رَدَّ الكراماتِ ويُضَلِّلُه)
[1241] يُنظر: ((اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل)) لأبي الفضل التميمي في آخر كتاب ((طبقات الحنابلة)) (2/306). .
وقال أبو مَنصورٍ البَغداديُّ: (اعلَمْ أنَّ المُعجِزاتِ والكراماتِ مُتَساويةٌ في كونِها ناقِضةً للعاداتِ، غيرَ أنَّ الفرقَ بينَهما من وجهينِ:
أحَدُهما: تَسميةُ ما يَدُلُّ على صِدقِ الأنبياءِ مُعجِزةً، وتَسميةُ ما يَظهَرُ على الأولياءِ كرامةً؛ للتَّمييزِ بينَهما.
والوَجهُ الثَّاني: أنَّ صاحِبَ المُعجِزةِ لا يَكتُمُ مُعجِزَتَه، بَل يُظهِرُها، ويَتَحَدَّى بها خُصومَه، ويَقولُ: إنْ لم تُصدِّقوني فعارِضوني بمِثلِها. وصاحِبُ الكرامةِ يَجتَهِدُ في كِتمانِها، ولا يَدَّعي فيها، فإنْ أطلَعَ اللهُ عليها بَعضَ عِبَادِه، كانَ ذلك تَنبيهًا لِما أطلَعَه اللهُ تعالى عليها على حُسْنِ مَنزِلةِ صاحِبِ الكرامةِ عِندَه، أو على صِدقِ دَعواه فيما يَدَّعيه من الحالِ.
وفرقٌ ثالِثٌ: وهو أنَّ صاحِبَ المُعجِزةِ مَأمونُ التَّبديلِ، مَعصومٌ عَنِ الكُفرِ والمَعصيَةِ بَعدَ ظُهورِ المُعجِزةِ عليه، وصاحِبُ الكرامةِ لا يُؤمَنُ تَبَدُّلُ حالِه)
[1242] يُنظر: ((أصول الإيمان)) (ص: 141). .
وقال أبو المُعينِ النَّسفيُّ في رَدِّه على
المُعتَزِلةِ: (ما ظَنُّوا أنَّه يُؤَدِّي إلى انسِدادِ طَريقِ الوُصولِ إلى مَعرِفةِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ، فظَنٌّ باطِلٌ، بَل كُلُّ كرامةٍ للوليِّ تَكونُ مُعجِزةً للرَّسولِ؛ فإنَّ بظُهورِها يُعلَمُ أنَّه وَليٌّ، ولَن يَكونَ وليًّا إلَّا أن يَكونَ مُحِقًّا في ديانَتِه؛ إذِ المُعتَقِدُ دينًا باطِلًا عَدوٌّ للهِ تعالى لا وَلِيُّه، وكونُه مُحِقًّا في ديانَتِه، وديانَتُه الإقرارُ برِسالةِ رَسولِه، واتِّباعُه إيَّاه في دينِه؛ دَليلُ صِحَّةِ رِسالةِ رَسولِه، فمَن جَعلَ ما هو مُعجِزةٌ للرَسولِ ودَلالةُ صِدْقِه مُبطِلًا للمُعجِزةِ وسادًّا لطَريقِ الوُصولِ إلى مَعرِفتِها؛ فقد وقَعَ في غَلطٍ فاحِشٍ وخَطَأٍ بيِّنٍ.
ثُمَّ كيف يُؤَدِّي ذلك إلى التِباسِ الكرامةِ بالمُعجِزةِ، والمُعجِزةُ تَظهَرُ على إثرِ الدَّعوى، والوَليُّ لوِ ادَّعى الرِّسالةَ لكَفرَ من ساعَتِه، وصارَ عَدوًّا للهِ تعالى، ولا يُتَصَوَّرُ بَعدَ ذلك ظُهورُ الكرامةِ على يَدِه.
وكذا صاحِبُ المُعجِزةِ لا يَكتُمُ مُعجِزَتَه بَل يُظهِرُها، وصاحِبُ الكرامةِ يَجتَهِدُ في كِتْمانِها، ويَخافُ أنَّها من قَبيلِ الِاستِدراجِ له دونَ المُعجِزةِ، ويَخافُ الِاغتِرارَ لدى الِاشتِهارِ)
[1243] يُنظر: ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 83). .
وقال أبو الوَليدِ ابنُ رُشدٍ القُرطَبيُّ: (الفرقُ بينَ المُعجِزةِ والكرامةِ: أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ يَعلمُ إذا خَرَقَ اللهُ له العادةَ أنَّه خَرَقَها له لتَكونَ مُعجِزةً له، ومُصدِّقةً لرِسالَتِه، بإعلامِه إيَّاه بذلك، فهو يَتَحَدى النَّاسَ بها، ويَعلمُ أيضًا أنَّه إذا أرسَلَه رَسولًا أنَّه سيَفعَلُ ذلك له قَبلَ أن يَفعَلَ له ليُصَدِّقَ رِسالَتَه، ومَن أكرَمَه اللهُ من أوليائِه بخَرقِ عادةٍ لا يَعلمُ بها قَبلَ أن تَكونَ، ولا يَعلمُ إن كانَتِ الكرامةُ له أو لغيرِه؛ لأنَّ ذلك عِلمُ غَيبٍ، لا يَعلمُه إلَّا من أطلَعَه اللهُ عليه من رَسولٍ، قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26-27] ، فهو إذا ظَهَرَت له يَرجو أن تَكونَ له، ويُخفيها ويَستُرُها، واللهُ تعالى يُظهِرُها إذا شاءَ، لا إلَهَ إلَّا هو، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ، وبِه التَّوفيقُ لا شَريكَ له)
[1244] يُنظر: ((مسائل أبي الوليد ابن رشد)) (1/513). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (الأولياءُ دونَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ، فلا تَبلُغُ كراماتُ أحَدٍ قَطُّ إلى مِثلِ مُعجِزاتِ المُرسَلينَ، كما أنَّهم لا يَبلُغونَ في الفضيلةِ والثَّوابِ إلى دَرَجاتِهم، ولَكِن قد يُشارِكونَهم في بَعضِها، كما قد يُشارِكونَهم في بَعضِ أعمالِهم، وكراماتُ الصَّالِحينَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الدِّينِ الذي جاءَ به الرَّسولُ، لا تَدُلُّ على أنَّ الوَليَّ مَعصومٌ، ولا على أنَّه يَجِبُ طاعَتُه في كُلِّ ما يَقولُه)
[1245] يُنظر: ((النبوات)) (1/142). .
وقال أيضًا: (وأمَّا كراماتُ الأولياءِ فهي أيضًا من آياتِ الأنبياءِ؛ فإنَّها إنَّما تَكونُ لِما يَشهَدُ لهم بالرِّسالةِ، فهي دَليلٌ على صِدقِ الشَّاهدِ لهم بالنُّبوَّةِ.
وأيضًا: فإنَّ كراماتِ الأولياءِ مُعتادةٌ من الصَّالِحينَ، ومُعجِزاتِ الأنبياءِ فوقَ ذلك؛ فانشِقاقُ القَمَرِ، والإتيانُ بالقُرآنِ، وانقِلابُ العَصا حيَّةً، وخُروجُ الدَّابَّةِ من صَخرةٍ؛ لم يَكُنْ مِثلُه للأولياءِ)
[1246] يُنظر: ((النبوات)) (1/801). .
وقال صُنعُ اللهِ الحَلبيُّ: (الفَصلُ الثَّالِثُ: في كراماتِ الأولياءِ: وهم المُتَّقونَ من المُؤمِنينَ، العارِفونَ باللهِ وبِصِفاتِه، المُقبِلونَ على الطَّاعاتِ، المُعرِضونَ عَنِ اللَّذَّاتِ، فهؤلاء قد يَقَعُ لهم كراماتٌ يُكرِمُهم اللهُ بها؛ تَأييدًا لتَقواهمِ، لحِكمةٍ؛ منها: حُجَّةً للدِّينِ أو لحاجةِ المُسْلِمينَ.
وما حَصَلَ لهم هَذا الإكرامُ إلَّا ببَركةِ اتِّباعِ خيرِ الأنامِ عليه من اللهِ أفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ.
وهي أمرٌ خارِقٌ للعادةِ كالمُعجِزةِ، غيرَ أنَّها لا تَقتَرِنُ بدَعوى ولا بتَحَدٍّ، ولا فيها قَصدٌ، بحيثُ كُلَّما أرادَ جَرَت؛ لأنَّها من الآياتِ، وهي على وَفقِ إرادَتِه تعالى، قال جَلَّ ذِكرُه:
إنَّما الآياتُ عِندَ اللهِ، وليسَ لمَخلوقٍ فيها تَصَرُّفٌ بما أرادَ ومَتى ما أرادَ، وأنْ لا تَكونَ مُصادِرةً للشَّريعةِ الغَرَّاءِ...
وبِالصِّفاتِ المَذكورةِ تَميَّزت عَنِ المُعجِزةِ، وعَن الِاستِدراجِ، كما يَقَعُ لبَعضِ الظَّلَمةِ والفُسَّاقِ والجُهَّالِ، بَل والكَفَرةِ أحيانًا؛ استِدراجًا لهم وزيادةً في غَيِّهم... وعَن ما تَفعَلُه الشَّياطينُ مَعَ أربابِ الرِّياضاتِ بِجَرِّ الأسماءِ؛ فمنهم مَن يُحمَلُ في الهَواءِ، ومنهم مَن يُؤتى بالأموالِ المَسروقةِ، ومنهم مَن يَدُلُّ على السَّرِقةِ برقاةٍ ليَحتالَ على أخذِ أموالِ النَّاسِ بالوَلايةِ، وما هو نَحوُ ذلك من الشَّعْوذاتِ، فيُسَمونَها كراماتٍ، وعَنِ الإخبارِ بالغَيبِ المُستَقبَلِ ونَحوِه مِمَّا يُصادِرُ الشَّريعةَ الغَرَّاءَ في التَّكذيبِ، فلا يَكونُ مِثلُه كرامةً، بَل هو من إخبارِ الشَّياطينِ ووَساوِسهم)
[1247] يُنظر: ((سيف الله على من كذب على أولياء الله)) (ص: 115-117). .
وقال السَّفارينيُّ: (الحاصِلُ أنَّ الأمرَ الخارِقَ للعادةِ فهو بالنِّسبةِ إلى النَّبيِّ مُعجِزةٌ، سَواءٌ ظَهَرَ من قِبَلِه أو من قِبَلِ آحادِ أمَّتِه، وهو بالنِّسبةِ للوَليِّ كرامةٌ لخُلُوِّه عَن دَعوى نُبوَّةِ من ظَهرَ ذلك من قِبَلِه، فالنَّبيُّ لا بُدَّ من عِلمِه بكونِه نَبيًّا، ومِن قَصْدِ إظهارِ خَوارِقِ العاداتِ وظُهورِ المُعجِزاتِ، وأمَّا الوَليُّ فلا يَلزَمُ أن يُعلَمَ بوَلايَتِه، ويَستُرُ كرامَتَه ويُسِرُّها، ويَجتَهِدُ على إخفاءِ أمرِه)
[1248] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/396). .
وقال مُحَمَّد خَليل هرَّاس: (يُفرَّقُ بينَها وبينَ المُعجِزةِ بأنَّ المُعجِزةَ تَكونُ مَقرونةً بدَعوى الرِّسالةِ، بخِلافِ الكَرامةِ)
[1249] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 253). .
وقال
ابنُ عُثيمينَ في الكرامةِ: (الفرقُ بينَها وبينَ المُعجِزةِ أنَّها تَحصُلُ للوَليِّ، والمُعجِزةُ تَحصُلُ للنَّبيِّ)
[1250] يُنظر: ((مذكرة على العقيدة الواسطية)) (ص: 87). .
وذَهَبَ بَعضُ العُلماءِ إلى أنَّ كراماتِ الأولياءِ في الحَقيقةِ تَدخُلُ في مُعجِزاتِ الأنبياءِ؛ لأنَّ الكراماتِ إنَّما حَصَلَت للوَليِّ باتِّباعِ الرَّسولِ، فكُلُّ كرامةٍ لوليٍّ هي من مُعجِزاتِ رَسولِه الذي يَعبُدُ اللهَ بشَرعِه.
قال
النَّوَويُّ في قِصَّةِ كرامةِ سارةَ عليها السَّلامُ مَعَ المَلكِ الظَّالِمِ، السَّابِقةِ آنِفًا: (وفي هَذا الحَديثِ مُعجِزةٌ ظاهرةٌ لإبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1251] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 126). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (كراماتُ الصَّالِحينَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الدِّينِ الذي جاءَ به الرَّسولُ)
[1252] يُنظر: ((النبوات)) (1/ 143). .
وقال أيضًا: (كراماتُ أولياءِ اللهِ إنَّما حَصَلَت ببَركةِ اتِّباعِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فهي في الحَقيقةِ تَدخُلُ في مُعجِزاتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1253] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 155). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (أمَّا كراماتُ الأولياءِ: فهي أيضًا من آياتِ الأنبياءِ؛ فإنَّها إنَّما تَكونُ لمَن يَشهَدُ لهم بالرِّسالةِ، فهي دَليلٌ على صِدقِ الشَّاهدِ لهم بالنُّبوَّةِ)
[1254] يُنظر: ((النبوات)) (2/ 801). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (ذَكَر غيرُ واحِدٍ من العُلماءِ أنَّ كراماتِ الأولياءِ مُعجِزاتٌ للأنبياءِ؛ لأنَّ الوَليَّ إنَّما نالَ ذلك ببَركةِ مُتابَعَتِه لنَبيِّه، وثَوابِ إيمانِه به)
[1255] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (9/ 307). .
وقال مُحَمَّد خَليل هرَّاس: (وُقوعُ كراماتِ الأولياءِ هو في الحَقيقةِ مُعجِزةٌ للأنبياءِ؛ لأنَّ تلك الكراماتِ لم تَحصُلْ لهم إلَّا ببَركةِ مُتابَعَتِهم لأنبيائِهم، وسيَرِهم على هَدْيِهم)
[1256] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 253). .
وقال
ابنُ عُثيمينَ في كِراماتِ الأولياءِ: (وفوائِدُها:... أنَّها مُعجِزةٌ للرَّسولِ الذي تَمسَّكَ الوَليُّ بدِينِه؛ لأنَّها كالشَّهادةِ للوَليِّ بأنَّه على حَقٍّ)
[1257] يُنظر: ((مذكرة على العقيدة الواسطية)) (ص: 87). .
وإطلاقُ المُعجِزةِ على خَوارِقِ الأنبياءِ، والكرامةِ على خَوارِقِ الأولياءِ، مَعنيانِ اصطِلاحيانِ ليسا مَوجودينِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّما اصطَلَحَ عليهما العُلماءُ فيما بَعدُ، وإن كانا في مَدلولِهما يَرجِعانِ إلى ما تَقَرَّرَ في النُّصوصِ
[1258] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 311)، ((أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة)) لمجموعة من العلماء (ص: 203). .
ومِمَّا يَتَعَلَّقُ بتَمييزِ الكرامةِ عَن غيرِها من خَوارِقِ العاداتِ: التَّمييزُ بينَ الوَليِّ الذي يَجوزُ أن تَحدُثَ له الكرامةُ، وبينَ مَن هو أعلى منه مَنزِلةً، وهو النَّبيُّ.
فمَن ذلك أنَّ النَّبيَّ يَختَصُّ بالعِصْمةِ دونَ الوَليِّ؛ فالمُعجِزةُ للنَّبيِّ دَليلٌ على عِصْمَتِه من الخَطَأِ فيما أُرسِلَ مِن أَجْلِه، وهو التَّشريعُ، أمَّا الوَليُّ فكرامَتُه إنَّما تَدُلُّ على صِدْقِ النَّبيِّ الذي آمَنَ به هَذا الوَليُّ، واتَّبَعَه في شَريعَتِه، ولا تَدُلُّ بحالٍ على عِصْمَتِه هو من أن يُخطِئَ في بَعضِ أعمالِه أو عِباداتِه أو تَوجيهاتِه؛ لأنَّه لم يُرسَلْ ويُصطَفى من اللهِ عزَّ وجَلَّ لهَذا الغَرَضِ كالنَّبيِّ، وإنَّما هو مُجتَهِدٌ فيه، أمَّا النَّبيُّ فقدِ اصطَفاه اللهُ من عِبادِه لهَذا الغَرَضِ
[1259] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/ 140-143)، ((شبهات التصوف)) لعمر بن عبد العزيز قريشي (ص: 134). .
فالكرامةُ تَدُلُّ على الوَلايةِ، لكِنَّها لا تَدُلُّ على العَصمةِ.ومِن هنا وجَبَت طاعةُ النَّبيِّ مُطلَقًا، ولا تَجِبُ طاعةُ الوَليِّ مُطلَقًا، إلَّا فيما عليه دَليلٌ شَرعيٌّ واضِحٌ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (كراماتُ الصَّالِحينَ تَدُلُّ على صِحَّةِ الدِّينِ الذي جاءَ به الرَّسولُ، ولا تَدُلُّ على أنَّ الوَليَّ مَعصومٌ، ولا على أنَّه يَجِبُ طاعَتُه في كُلِّ ما يَقولُه، ومِن هنا ضَلَّ كثيرٌ من النَّاسِ من النَّصارى وغيرِهم؛ فإنَّ الحَواريِّينَ مَثَلًا كانَت لهم كراماتٌ، كما تَكونُ الكراماتُ لصالِحي هذه الأمَّةِ، فظَنُّوا أنَّ ذلك يَستَلزِمُ عِصْمَتَهم، كما يَستَلزِمُ عِصْمةَ الأنبياءِ؛ فصاروا يوجِبونَ موافقَتَهم في كُلِّ ما يَقولونَ، وهَذا غَلَطٌ)
[1260] يُنظر: ((النبوات)) (1/ 143). .
ومِنَ الفُروقِ بينَ المُعجِزةِ والكرامةِ أنَّ الكرامةَ تَحدُثُ بحَسَبِ حاجةِ الوَليِّ، أمَّا المُعجِزةِ فهي لحاجةِ الخَلقِ وهدايَتِهم.
فإذا احتاجَ الوَليُّ إلى الكرامةِ لتَقويةِ إيمانِه جاءَه منها ما يَكفيه لتَقويةِ إيمانِه، أو إذا احتاجَ إليها لفكِّ ضيقٍ عليه، أو على مَن يَدعو له، جاءَه من ذلك ما يُفرِّجُ كُربَتَه ويُجيبُ دُعاءَه.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (مِمَّا يَنبَغي أن يُعرَفَ أنَّ الكراماتِ قد تَكونُ بحَسَبِ حاجةِ الرَّجُلِ، فإذا احتاجَ إليها الضَّعيفُ الإيمانِ أوِ المُحتاجُ، أتاه منها ما يُقَوِّي إيمانَه ويَسُدُّ حاجَتَه، ويَكونُ من هو أكمَلُ وَلايةً للهِ منه مُستَغنيًا عَن ذلك، فلا يَأتيه مِثلُ ذلك؛ لعُلوِّ دَرَجَتِه وغناه عَنها، لنَقْصِ وَلايَتِه.
ولِهَذا كانَت هذه الأمورُ في التَّابِعينَ أكثَرَ منها في الصَّحابةِ، بخِلافِ مَن يَجري على يَديه الخَوارِقُ؛ لهَدْيِ الخَلقِ ولِحاجَتِهم، فهؤلاء أعظَمُ دَرَجةً)
[1261] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 166). .
وقال ابنُ عَجيبةَ: (كثيرٌ من العَوامِّ لا يُقِرُّونَ الوَليَّ حَتى يَرَوا له آيةً أو كرامةً، مَعَ أنَّ الوَليَّ كُلَّما رَسَخت قدَمُه في المَعرِفةِ قَلَّ ظُهورُ الكرامةِ على يَديه؛ لأنَّ الكرامةَ إنَّما هي مَعونةٌ وتَأييدٌ وزيادةُ إيقانٍ)
[1262] يُنظر: ((تفسير ابن عجيبة)) (1/ 150). .
فأعظَمُ الكراماتِ هي الِاستِقامةُ على شَرعِ اللهِ تعالى. قال
القُشيريُّ: (اعلَمْ أنَّ أجَلَّ الكراماتِ الَّتي تَكونُ للأولياءِ: دَوامُ التَّوفيقِ للطَّاعاتِ، والعِصمةُ عَنِ المَعاصي والمُخالَفاتِ)
[1263] يُنظر: ((الرسالة القشيرية)) (2/ 526). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (إنَّما الكرامةُ لُزومُ الِاستِقامةِ)
[1264] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 748). .
وقال أيضًا: (إنَّ اللهَ تعالى لم يُكرِمْ عَبدًا بكرامةٍ أعظَمَ من موافقَتِه فيما يُحِبُّه ويَرضاه، وهو طاعَتُه وطاعةُ رَسولِه، وموالاةُ أوليائِه، ومُعاداةُ أعدائِه)
[1265] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 748). .
وقال ابنُ عَجيبةَ: (لا يُشتَرَطُ في الوَليِّ ظُهورُ الكرامةِ، وإنَّما يُشتَرَطُ فيه كَمالُ الِاستِقامةِ).
ونَقلَ ابنُ عَجيبةَ عَن بَعضِ شُيوخِه قال: (الكرامةُ الحَقيقيَّةُ هي الأخلاقُ النَّبَويَّةُ، والعُلومُ اللَّدُنِّيَّةُ)
[1266] يُنظر: ((تفسير ابن عجيبة)) (1/ 150). .