المَبحَثُ الثَّالِثُ: الفَرْقُ بينَ الكرامةِ والأحوالِ الشَّيطانيَّةِ
بَيْنَ كراماتِ الأولياءِ وبينَ ما يُشبِهُها من الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ فُروقٌ مُتَعَدِّدةٌ؛ منها أنَّ كراماتِ الأولياءِ سَبَبُها الإيمانُ والتَّقوى، والأحوالُ الشَّيطانيَّةُ سَبَبُها إتيانُ ما نَهى اللهُ تعالى عَنه ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال الشَّافِعيُّ: (إذا رَأيتُمُ الرَّجُلَ يَمشي على الماءِ، ويَطيرُ في الهَواءِ، فلا تَغتَرُّوا به، حَتى تَعْرِضوا أمرَه على الكِتابِ والسُّنَّةِ)
[1204] يُنظر: ((طبقات الشافعيين)) لابن كثير (ص: 32). .
وقال ابنُ أبي جَمرةَ: (خَرْقُ العادةِ قد يَكونُ للصِّدِّيقِ والزِّنديقِ، وهي للزَّنديقِ من طَريقِ الإملاءِ والإغواءِ، وإنَّما تَقَعُ التَّفرِقةُ بينَهما -ما هو منها كرامةٌ أو بَلاءٌ وإغواءٌ- بالِاتِّباعِ للكِتابِ والسُّنَّةِ)
[1205] يُنظر ((بهجة النفوس)) (4/ 239). .
قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون [الأعراف: 33] .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (القَولُ على اللهِ بغيرِ عِلمٍ والشِّركُ والظُّلمِ والفواحِشُ، قد حَرَّمَها اللهُ تعالى ورَسولُه، فلا تَكونُ سَبَبًا لكرامةِ اللهِ تعالى بالكراماتِ عليها، فإذا كانَت لا تَحصُلُ بالصَّلاةِ والذِّكرِ وقِراءةِ القُرآنِ، بَل تَحصُلُ بما يُحِبُّه
الشَّيطانُ وبِالأمورِ الَّتي فيها شِرْكٌ، كالِاستِغاثةِ بالمَخلوقاتِ، أو كانَت مِمَّا يُستَعانُ بها على ظُلمِ الخَلقِ وفِعلِ الفواحِشِ؛ فهي من الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ لا من الكراماتِ الرَّحمانيَّةِ)
[1206] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 172). .
وقال أيضًا: (كراماتُ الأولياءِ لا بُدَّ أن يَكونَ سَبَبُها الإيمانَ والتَّقوى، فما كانَ سَبَبُه الكفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، فهو من خوارِقِ أعداءِ اللهِ لا من كراماتِ أولياءِ اللهِ، فمَن كانَت خَوارِقُه لا تَحصُلُ بالصَّلاةِ، والقِراءةِ والذِّكرِ، وقيامِ اللِّيلِ، والدُّعاءِ، وإنَّما تَحصُلُ عِندَ الشِّركِ، مِثلُ دُعاءِ الميِّتِ، والغائِبِ، أو بالفِسقِ والعِصيانِ وأكلِ المُحَرَّماتِ، كالحيَّاتِ، والزَّنابيرِ، والخَنافِسِ، والدَّمِ، وغيرِه من النَّجاساتِ، ومِثلُ الغِناءِ، والرَّقصِ، لا سيَّما مَعَ النِّسوةِ الأجانِبِ والمرْدانِ، وحالةُ خَوارِقِه تَنقُصُ عِندَ سَماعِ القُرآنِ، وتَقوى عِندَ سَماعِ مَزاميرِ
الشَّيطانِ، فيَرقُصُ ليلًا طَويلًا، فإذا جاءَتِ الصَّلاةُ صَلَّى قاعِدًا، أو يَنقُرُ الصَّلاةَ نَقْرَ الدِّيكِ، وهو يُبغِضُ سَماعَ القُرآنِ، ويَنفِرُ عَنه، ويَتَكلَّفُه، ليسَ له فيه مَحَبَّةٌ ولا ذَوقٌ ولا لذَّةٌ عِندَ وَجْدِه، ويُحِبُّ سَماعَ المُكاءِ والتَّصديةِ، ويَجِدُ عِندَه مَواجيدَ؛ فهذه أحوالٌ شيطانيَّةٌ، وهو مِمَّن يَتَناوَلُه قَولُه تعالى:
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] .
فالقُرآنُ هو ذِكرُ الرَّحمَنِ، قال تعالى:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى يَعني تَرَكتَ العَمَلَ بها)
[1207] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 190). .
وقال أيضًا: (كُلُّ من خالَفَ شيئًا مِمَّا جاءَ به الرَّسولُ، مُقَلِّدًا في ذلك لِمَن يَظُنُّ أنَّه وليٌّ للهِ، فإنَّه بَنى أمرَه على أنَّه وَليُّ اللهِ، وأنَّ وَليَّ اللهِ لا يُخالِفُ في شَيءٍ، ولَو كانَ هَذا الرَّجُلُ من أكبَرِ أولياءِ اللهِ؛ كأكابِرِ الصَّحابةِ، والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، لم يُقبَلْ منه ما خالَف الكِتابَ والسُّنَّةَ، فكيف إذا لم يَكُن كذلك؟! وتَجِدُ كثيرًا من هؤلاء عُمدَتُهم في اعتِقادِ كونِه وليًّا للهِ أنَّه قد صَدَرَ عَنه مُكاشَفةٌ في بَعضِ الأمورِ، أو بَعضِ التَّصَرُّفاتِ الخارِقةِ للعادةِ؛ مِثلُ أن يُشيرَ إلى شَخصٍ فيموتَ، أو يَطيرَ في الهَواءِ إلى مَكَّةَ أو غيرِها، أو يَمشيَ على الماءِ أحيانًا، أو يَملَأَ إبريقًا من الهَواءِ، أو يُنفِقَ بَعضَ الأوقاتِ من الغَيبِ، أو يَختَفيَ أحيانًا عَن أعيُنِ النَّاسِ، أو أنَّ بَعضَ النَّاسِ استَغاثَ به وهو غائِبٌ أو ميِّتٌ، فرَآه قد جاءَه، فقَضى حاجَتَه، أو يَخبِرَ النَّاسَ بما سُرِقَ لهم، أو بحالِ غائِبٍ لهم أو مَريضٍ، أو نَحوِ ذلك من الأمورِ، وليسَ في شيءٍ من هذه الأمورِ ما يَدُلُّ على أنَّ صاحِبَها وليُّ اللهِ، بَل قدِ اتَّفقَ أولياءُ اللهِ على أنَّ الرَّجُلَ لو طارَ في الهَواءِ، أو مَشى على الماءِ، لم يُغتَرَّ به حَتى يُنظَرَ مُتابَعَتُه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُوافقَتُه لأمرِه ونَهيِه.
وكراماتُ أولياءِ اللهِ تعالى أعظَمُ من هذه الأمورِ، وهذه الأمورُ الخارِقةُ للعادةِ -وإن كانَ قد يَكونُ صاحِبُها وليًّا للهِ- فقد يَكونُ عَدوًّا للهِ، فإنَّ هذه الخَوارِقَ تَكونُ لكثيرٍ من الكُفَّارِ والمُشرِكينَ وأهلِ الكِتابِ والمُنافِقينَ، وتَكونُ لأهْلِ البِدَع، وتَكونُ من الشَّياطينِ، فلا يَجوزُ أن يُظَنَّ أنَّ كُلَّ من كانَ له شيءٌ من هذه الأمورِ أنَّه وليٌّ، بَل يُعتَبَرُ أولياءُ اللهِ بصِفاتِهم وأفعالِهم وأحوالِهم الَّتي دَلَّ عليها الكِتابُ والسُّنَّةُ، ويُعرَفونَ بنورِ الإيمانِ والقُرآنِ، وبِحَقائِقِ الإيمانِ الباطِنةِ، وشَرائِعِ الإسلامِ الظَّاهرةِ. مِثالُ ذلك أنَّ الأمورَ المَذكورةَ وأمثالَها قد توجَدُ في أشخاصٍ، ويَكونُ أحَدُهم لا يَتَوَضَّأُ ولا يُصَلِّي الصَّلَواتِ المَكتوبةَ، بَل يَكونُ مُلابِسًا للنَّجاساتِ، مُعاشِرًا للكِلابِ، يَأوي إلى الحَمَّاماتِ، والقَمَّامينَ، والمَقابِرِ، والمَزابِلِ، رائِحَتُه خَبيثةٌ، لا يَتَطَهَّرُ الطَّهارةَ الشَّرعيَّةَ، ولا يَتَنَظَّفُ!)
[1208] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 78). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا في شَأنِ أصحابِ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ: (هؤلاء تَقتَرِنُ بهم الشَّياطينُ، وتَنزِلُ عليهم، فيُكاشِفونَ النَّاسَ ببَعضِ الأمورِ، ولهم تَصَرُّفاتٌ خارِقةٌ من جِنسِ السِّحرِ، وهم من جِنسِ الكُهَّانِ والسَّحَرةِ الذينَ تَنزِلُ عليهم الشَّياطينُ، قال تعالى:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223] ، وهؤلاء جَميعًا يَنتَسِبونَ إلى المُكاشَفاتِ، وخَوارِقِ العاداتِ، إذا لم يَكونوا مُتَّبِعينَ للرُّسُلِ، فلا بُدَّ أن يَكذِبوا، وتَكذِبَهم شياطينُهم، ولا بُدَّ أن يَكونَ في أعمالِهم ما هو إثمٌ وفُجورٌ؛ مِثلُ نَوعٍ من الشِّركِ، أوِ الظُّلمِ، أوِ الفواحِشِ، أوِ الغُلُوِّ، أوِ البِدَعِ في العِبادةِ؛ ولِهَذا تَنزَّلَت عليهم الشَّياطينُ، واقتَرَنتْ بهم، فصاروا من أولياءِ
الشَّيطانِ، لا من أولياءِ الرَّحمَنِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] )
[1209] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 23). .
وقال أيضًا: (إن كانَ الرَّجُلُ مَطيعًا للهِ ورَسولِه باطِنًا وظاهرًا، لم يُمكِنهم الدُّخولُ مَعَه في ذلك أو مُسالَمَتُه؛ ولِهَذا لَمَّا كانَت عِبادةُ المُسْلِمينَ المَشروعةُ في المَساجِدِ الَّتي هي بيوتُ اللهِ، كانَ عُمَّارُ المُساجِدِ أبعَدَ عَنِ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ، وكانَ أهلُ الشِّركِ والبِدَع الذينَ يُعَظِّمونَ القُبورَ ومَشاهدَ المَوتى، فيَدْعونَ الميِّتَ أو يَدْعونَ به أو يَعتَقِدونَ أنَّ الدُّعاءَ عِندَه مُستَجابٌ- أقرَبَ إلى الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ)
[1210] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 175). .
وقال أيضًا: (الأسوَدُ العَنسيُّ الذي ادَّعى النُّبوَّةَ كانَ له من الشَّياطينِ من يُخبِرُه ببَعضِ الأمورِ المُغيَّبةِ، فلَمَّا قاتَلَه المُسْلِمونَ كانوا يَخافونَ من الشَّياطينِ أن يُخبِروه بما يَقولونَ فيه، حَتى أعانَتْهم عليه امرَأتُه لَمَّا تَبيَّنَ لها كُفرُه، فقتَلوه. وكذلك مُسيلِمةُ الكَذَّابُ كانَ مَعَه من الشَّياطينِ من يُخبِرُه بالمُغيَّباتِ، ويُعينُه على بَعضِ الأمورِ، وأمثالُ هؤلاء كثيرونَ، مِثلُ: الحارِثِ الدِّمَشقيِّ الذي خَرجَ بالشَّامِ زَمَنَ
عَبدِ المَلكِ بن مَروانٍ، وادَّعى النُّبوَّةَ، وكانَتِ الشَّياطينُ يُخرِجونَ رِجْلَيه من القَيدِ، وتَمنَعُ السَّلاحَ أن يَنفُذَ فيه، وتُسَبِّحُ الرُّخامةُ إذا مَسَحَها بيَدِه، وكانَ يُري النَّاسَ رِجالًا ورُكبانًا على خيلٍ في الهَواءِ، ويَقولُ: هي المَلائِكةُ، وإنَّما كانوا جِنًّا، ولَمَّا أمسَكه المُسْلِمونَ ليَقتُلوه طَعنَه الطَّاعِنُ بالرُّمحِ فلم يَنفُذْ فيه! فقال له
عَبدُ المَلكِ: إنَّك لم تُسَمِّ اللهَ، فسَمَّى اللهَ فطعَنَه فقَتَلَه! وهَكذا أهلُ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ تَنصَرِفُ عَنهم شياطينُهم إذا ذُكِرَ عِندَهم ما يَطرُدُها مِثلُ آيةِ الكُرسيِّ؛ فإنَّه قد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عَنه لَمَّا وكَّلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحِفظِ زَكاةِ الفِطرِ، فسَرقَ منه
الشَّيطانُ ليلةً بَعدَ ليلةٍ، وهو يُمسِكُه فيتوبُ فيُطلِقُه، فيَقولُ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما فَعَلَ أسيرُك البارِحةَ؟! فيَقولُ: زَعَمَ أنَّه لا يَعودُ، فيَقولُ: كذَبَك وإنَّه سيَعودُ! فلَما كانَ في المَرَّةِ الثَّالِثةِ قال: دَعْني حَتى أعلِّمَك ما يَنفَعُك: إذا أويتَ إلى فِراشِك فاقرَأ آيةَ الكُرسيِّ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إلى آخِرِها، فإنَّه لن يَزالَ عليك من اللهِ حافِظٌ، ولا يَقَرَبُك شيطانٌ حَتى تُصبِحَ، فلَما أخبَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: صَدَقَك وهو كذوبٌ))، وأخبَره أنَّه شيطانٌ
[1211] أخرجه مطولاً البخاري معلقًا بصيغة الجزم (2311) واللفظ له، وأخرجه موصولًا النسائي في ((السنن الكبرى)) (10795)، وابن خزيمة (2424). صححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/735)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (11/50)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (610). ؛ ولِهَذا إذا قَرَأها الإنسانُ عِندَ الأحوالِ الشَّيطانيَّةِ بصِدْقٍ أبطَلَتْها، مِثلُ مَن يَدخُلُ النَّارَ بحالٍ شيطانيٍّ أو يَحضُرُ سَماعَ المُكاءِ والتَّصديةِ، فتَنزِلُ عليه الشَّياطينُ وتَتَكلَّمُ على لسانِه كلامًا لا يُعلَمُ، ورُبَّما لا يُفْقَه، ورُبَّما كاشَف بَعضَ الحاضِرينَ بما في قَلبِه، ورُبَّما تَكلَّمَ بألسِنةٍ مُختَلِفةٍ، كما يَتَكلَّمُ
الجِنِّيُّ على لسانِ المَصروعِ، والإنسانُ الذي حَصَلَ له الحالُ لا يَدري بذلك بمَنزِلةِ المَصروعِ الذي يَتَخَبَّطُه
الشَّيطانُ من المَسِّ، ولَبَسَه وتَكلَّمَ على لسانِه، فإذا أفاقَ لم يَشعُرْ بشيءٍ مِمَّا قال؛ ولِهَذا قد يُضرَبُ المَصروعُ وذلك الضَّربُ لا يُؤَثِّرُ في الإنسيِّ، ويُخبِرُ إذا أفاقَ أنَّه لم يَشعُرْ بشيءٍ؛ لأنَّ الضَّربَ كانَ على
الجِنِّيِّ الذي لبَسَه، ومِن هؤلاء مَن يَأتيه
الشَّيطانُ بأطعِمةٍ وفواكِهَ وحَلوى وغيرِ ذلك مِمَّا لا يَكونُ في ذلك المَوضِعِ، ومنهم مَن يَطيرُ بهم
الجِنِّيُّ إلى مَكَّةَ أو بيتِ المَقدِسِ أو غيرِهما، ومنهم مَن يَحمِلُه عَشِيَّةَ عَرَفةَ ثُمَّ يُعيدُه من ليلَتِه، فلا يَحُجُّ حَجًّا شَرعيًّا، بَل يَذهَبُ بثيابِه ولا يُحرِمُ إذا حاذى الميقاتَ ولا يُلبِّي ولا يَقِفُ بمُزدَلِفةَ ولا يَطُوفُ بالبيتِ، ولا يَسعى بينَ الصَّفَا والمَروةِ، ولا يَرمي الجِمارَ، بَل يَقِفُ بعَرفةَ بثيابِه، ثُمَّ يَرجِعُ من ليلَتِه! وهَذا ليسَ بحَجٍّ مَشروعٍ باتِّفاقِ المُسْلِمينَ، بَل هو كمَن يَأتي الجُمُعةَ ويُصَلِّي بغيرِ وُضوءٍ، وإلى غيرِ القِبلةِ)
[1212] يُنظر: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 166 - 171). .
ومِمَّن يَأتي بخَوارِقَ شيطانيَّةٍ عَظيمةٍ في آخِرِ الزَّمانِ المَسيحُ الدَّجَّالُ؛ منها:1- عَن حُذيفةَ رَضيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَعَه جَنةٌ ونارٌ؛ فنارُه جَنَّةٌ، وجَنَّتُه نارٌ)) [1213] رواه مسلم (2934) مطولاً. .
قال عياضٌ: (هَذا كُلُّه مِمَّا امتَحَنَ اللهُ به عِبادَه؛ ليَعلمَ الذينَ آمَنوا منهم ويَعلمَ الصَّابِرينَ، ثُمَّ يَفضَحَه عِندَ الحَقيقةِ، ويَتَبيَّنَ كَذِبُه وعَجْزُه)
[1214] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 478). .
2- عن النَّوَّاسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن الدَّجَّالِ:
((... فيَأتي على القَومِ فيَدعوهم، فيُؤمِنونَ به ويَستَجيبونَ له، فيَأمُرُ السَّماءَ فتُمطِرُ، والأرضَ فتُنبِتُ، فتَروحُ عليهم سارِحَتُهم [1215] قال أبو العباس القرطبي: (السارحةُ: المواشي التي تخرُج للسَّرحِ، وهو الرَّعيُ، كالإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ). ((المفهم)) (7/ 281). أطوَلَ ما كانَت ذُرًا [1216] قال أبو العباس القرطبي: (الذُّرا: جمعُ ذِروةٍ، وهي الأسنِمةُ). ((المفهم)) (7/ 281). ، وأسبَغَه ضُروعًا [1217] قال أبو العباس القرطبي: (أطولُه ضُروعًا لكثرةِ اللَّبنِ). ((المفهم)) (7/ 281). ، وأمَدَّه خواصِرَ [1218] قال أبو العباس القرطبي: (أمَدَّه خواصِرَ: لكثرةِ أكلِها، وخِصْبِ مرعاها). ((المفهم)) (7/ 281). ، ثُمَّ يَأتي القَومَ فيَدعوهم، فيَرُدُّونَ عليه قَولَه، فيَنصَرِفُ عَنهم، فيُصبِحونَ مُمحِلِينَ [1219] قال أبو العباس القرطبي: (قوله: (فيُصبِحون مُمحِلين) وفي بعض الروايات: آزِلِين، والمحْلُ والأزلُ، والقَحطُ، والجَدْبُ، كُلُّها واحِدٌ. والله تعالى أعلم). ((المفهم)) (7/ 281). ليسَ بأيديهم شيءٌ من أموالِهم، ويَمُرُّ بالخَربةِ، فيَقولُ لها: أخرِجي كُنوزَك، فتَتبَعُه كُنوزُها كيَعاسيبِ النَّحلِ [1220] قال أبو العباس القرطبي: (يعاسيبُ النَّحلِ: فُحولُها، واحِدُها: يَعسوبٌ، وقيل: أُمَراؤها، ووَجهُ التشبيهِ أنَّ يعاسيبَ النَّحلِ يَتبَعُ كُلَّ واحدٍ منهم طائفةٌ من النحلِ، فتراها جماعاتٍ في تفرقةٍ، فالكنوزُ تَتْبَعُ الدَّجَّالَ كذلك). ((المفهم)) (7/ 281). ، ثُمَّ يَدعو رَجُلًا مُمتَلِئًا شَبابًا، فيَضرِبُه بالسَّيفِ فيَقطَعُه جَزلَتينِ رَميةَ الغَرَضِ [1221] قال أبو العباس القرطبي: (أي: كرَمْيَةِ الغَرَضِ في السُّرعةِ والإصابةِ). ((المفهم)) (7/ 282). ، ثُمَّ يَدعوه فيُقبِلُ ويَتَهَلَّلُ وَجْهُه، يَضحَّكُ! )) [1222] رواه مسلم (2937). .
قال أبو العَباسِ القُرطُبيُّ في شَرحِ هَذا الحَديثِ: (ما تَضَمَّنَتْه هذه الألفاظُ أمورٌ مُمكِنةُ الوُقوعِ في زَمانِ خَرقِ العاداتِ، كسائِرِ ما جاءَ مِمَّا قد صَحَّ وثَبَتَ من خَوارِقِ العاداتِ الَّتي تَظهَرُ على يَدَيِ الدَّجَّالِ)
[1223] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 281). .
وقال في (تَتمَّةِ المَفاتيحِ في شَرحِ المَصابيحِ): (قيلَ: إنَّما يُريهم ذلك سِحرًا وشَعْبَذةً، ولَو كانَ ذلك على الحَقيقةِ لَما بَعُدَ ذلك أن يَفعَلَ اللهُ سُبحانَه هذه الأفاعيلَ عِندَ حَرَكاتٍ يَتَحَرَّكُ بها الدَّجَّالُ، كما أنَّه خَلقَ الخُوارَ في العِجْلِ الذي صاغَه السَّامِريُّ؛ ابتِلاءً وامتِحانًا لعِبادِه، وللهِ سُبحانَه أن يَمتَحِنَ عَبادَه بما شاءَ)
[1224] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 421). .
قال ابنُ حمدانِ: (لا يَلزَمُ من صِحَّةِ الكراماتِ ووُجودِها صِدْقُ مَن يَدَّعيها بدونِ بيِّنةٍ أو قَرائِنَ حاليَّةٍ تُفيدُ الجَزمَ بذلك، وإن مَشى على الماءِ وفي الهَواءِ، أو سُخِّرَت له
الجِنُّ والسِّباعُ، حَتى يُنظَرَ خاتِمَتُه وموافقَتُه للشَّرعِ في الأمرِ والنَّهيِ؛ فإنْ وُجِدَ ذلك من نَحوِ جاهلٍ فهو مَخرَقةٌ ومَكرٌ من
إبليسَ وإغواءٌ وإضلالٌ)
[1225] يُنظر: ((نهاية المبتدئين)) (ص: 60). .
وقال
الشَّاطِبيُّ: (مِنَ الفوائِدِ في هَذا الأصلِ أن يُنظَرَ إلى كُلِّ خارِقةٍ صَدَرتَ على يَدَيْ أحَدٍ، فإن كانَ لها أصلٌ في كراماتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُعجِزاتِه فهي صَحيحةٌ، وإن لم يَكُن لها أصلٌ فغيرُ صَحيحةٍ، وإن ظَهَرَ ببادِئِ الرَّأيِ أنَّها كرامةٌ؛ إذ ليسَ كُلُّ ما يَظهَرُ على يَديِ الإنسانِ من الخَوارِقِ بكرامةٍ، بَل منها ما يَكونُ كذلك، ومنها ما لا يَكونُ كذلك. وبيانُ ذلك بالمِثالِ أنَّ أربابَ التَّصريفِ بالهمَمِ والتَّقَرُّباتِ بالصِّناعةِ الفلَكيَّةِ، والأحكامِ النُّجوميَّةِ، قد تَصدُرُ عَنهم أفاعيلُ خارِقةٌ، وهي كُلُّها ظُلُماتٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، ليسَ لها في الصِّحَّةِ مَدخَلٌ، ولا يوجَدُ لها من كراماتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنبَعٍ؛ لأنَّه إن كانَ ذلك بدُعاءٍ مَخصوصٍ فدُعاءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ على تلك النِّسبةِ، ولا تَجري فيه تلك الهيئةُ، ولا اعتَمَدَ على قِرانٍ في الكواكِبِ، ولا التَمَس سُعودَها أو نُحوسَها، بَل تَحرَّى مُجَرَّدَ الِاعتِمادِ على مَن إليه يُرجَعُ الأمرُ كُلُّه، والتجَأ إليه، مُعرِضًا عَنِ الكواكِبِ، وناهيًا عَن الِاستِنادِ إليها؛ إذ قال:
((أصبَحَ مِن عِبادي مُؤمِنٌ بي وكافِرٌ... )) الحَديث
[1226] رواه البخاري (846)، ومسلم (71) مطولًا من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. ، وإن تَحرَّى وقتًا، أو دَعا إلى تَحَرِّيه، فلِسَبَبٍ بَريءٍ من هَذا كُلِّه؛ كحَديثِ التَّنَزُّلِ
[1227] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ينزِلُ رَبُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا حين يبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألُني فأعطِيَه، من يَستغفِرُني فأغفِرَ له؟)). أخرجه البخاري (1145) واللَّفظُ له، ومسلم (758). ، وحَديثِ اجتِماعِ المَلائِكةِ طَرَفيِ النَّهارِ
[1228] لفظ الحديث: عن أبي هريرة أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائِكةٌ بالنَّهارِ، ويجتَمِعون في صلاةِ الفَجرِ وصَلاةِ العَصرِ، ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلَمُ بهم: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: ترْكناهم وهم يُصَلُّون، وأتيناهم وهم يُصَلُّون)). أخرجه البخاري (555) واللَّفظُ له، ومسلم (632). ، وأشباهِ ذلك... وهَذا المَوضِعُ مَزلَّةُ قدَمٍ للعَوامِّ، ولِكثيرٍ من الخَواصِّ؛ فلِتَتَنَبَّهْ له)
[1229] يُنظر: ((الموافقات)) (2/444-446). .
وقال أيضًا: (مِن هنا يُعلَمُ أنَّ كُلَّ خارِقةٍ حَدَثَت أو تَحدُثَ إلى يَومِ القيامةِ، فلا يَصِحُّ رَدُّها ولا قَبولُها إلَّا بَعدَ عَرضِها على أحكامِ الشَّريعةِ، فإنْ ساغَت هناك فهي صَحيحةٌ مَقبولةٌ في مَوضِعِها، وإلَّا لم تُقبَلْ إلَّا الخَوارِقُ الصَّادِرةُ على أيدي الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ فإنَّه لا نَظَرَ فيها لأحَدٍ؛ لأنَّها واقِعةٌ على الصِّحَّةِ قَطعًا، فلا يُمكِنُ فيها غيرُ ذلك، ولِأجلِ هَذا حَكمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ في ذَبحِ ولَدِه بمُقتَضى رُؤياه، وقال له ابنُه:
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات: 102] ، وإنَّما النَّظَرُ فيما انخَرَقَ من العاداتِ على يَدِ غيرِ المَعصومِ.
وبيانُ عَرضِها أن تُفرَضَ الخارِقةُ وارِدةً من مَجاريِ العاداتِ، فإنْ ساغَ العَمَلُ بها عادةً وكسبًا، ساغَت في نَفسِها، وإلَّا فلا، كالرَّجُلِ يُكاشِفُ بامرَأةٍ أو عَورةٍ، بحيثُ اطَّلَعَ منها على ما لا يَجوزُ له أن يَطَّلِعَ عليه، وإن لم يَكُن مَقصودًا له، أو رَأى أنَّه يَدخُلُ على فُلانٍ بيتَه وهو يُجامِعُ زوجَتَه ويَراه عليها، أو يُكاشِفُ بمَولودٍ في بَطنِ امرَأةٍ أجنَبيَّةٍ؛ بحيثُ يَقَعُ بصَرُه على بَشَرَتِها، أو شيءٍ من أعضائِها الَّتي لا يَسوغُ النَّظَرُ إليها في الحِسِّ... أو يَرى صورةً مُكيَّفةً مُقَدَّرةً تَقولُ له: «أنا رَبُّكَ»، أو يَرى ويَسمَعُ مَن يَقولُ له: «قد أحلَلْتُ لك المُحَرَّماتِ»، وما أشبَه ذلك من الأمورِ الَّتي لا يَقبَلُها الحُكمُ الشَّرعيُّ على حالٍ، ويُقاسُ على هَذا ما سِواه، وبِالله التَّوفيقُ)
[1230] يُنظر: ((الموافقات)) (2/481). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (اعلَمْ أنَّ عَدَمَ الخَوارِقِ عِلمًا وقُدرةً لا تَضُرُّ المُسْلِمَ في دينِه، فمَن لم يَنكشِفْ له شيءٌ من المُغيَّباتِ، ولم يُسخَّرْ له شيءٌ من الكونيَّاتِ لا يَنقُصُ ذلك في مرتَبَتِه عِندَ اللهِ، بَل قد يَكونُ عَدَمُ ذلك أنفعَ له؛ فإنَّه إنِ اقتَرنَ به الدِّينُ، وإلَّا هَلَك صاحِبُه في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّ الخارِقَ قد يَكونُ مَعَ الدِّينِ، وقد يَكونُ مَعَ عَدَمِه، أو فسادِه، أو نَقصِه)
[1231] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 750). .
وقال
ابن حجر الهيتمي: (أمَّا الفَرْقُ بينَ الكرامةِ والسِّحرِ فهو: أنَّ الخارِقَ غيرَ المُقتَرِنِ بتَحَدِّيِ النُّبوَّةِ، فإنْ ظَهَرَ على يَدِ صالِحٍ، وهو القائِمُ بحُقوقِ اللهِ وحُقوقِ خَلقِه، فهو الكرامةُ، أو على يَدِ من ليسَ كذلك فهو السِّحرُ أو الِاستِدراجُ... وتَمييزُ الصَّالِحِ المَذكورِ عَن غيرِه بيِّنٌ لا خَفاءَ فيه؛ إذ ليسَتِ السِّيما كالسِّيما، ولا الآدابُ كالآدابِ، وغيرُ الصَّالِحِ لو لبسَ ما عَسى أن يَلبسَ لا بُدَّ أن يَرشَحَ من نَتْنِ فِعلِه أو قَولِه ما يُميِّزُه عَنِ الصَّالِحِ)
[1232] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) (1/ 216). .
وقال السُّويديُّ الشَّافِعيُّ: (الحاصِلُ أنَّ هَهنا كراماتٍ تَختَصُّ الأولياءَ، وأحوالًا شيطانيَّةً تَظهَرُ على يَدِ الأشقياءِ؛ فالخَوارِقُ الَّتي للأولياءِ تَظهَرُ بما يُحِبُّه اللهُ تعالى، وتَكونُ مُسَبَّبةً عَن كمالِ الإيمانِ، وفَرطِ التَّقوى والإحسانِ، والأحوالُ الشَّيطانيَّةُ تَحصُلُ باتِّباعِ
الجِنِّ والشَّياطينِ، كما ظَهَرَت في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لابنِ صيَّادٍ، وعُلِمَ أنَّه من جِنسِ الكُهَّانِ الذينَ يَكونُ لأحَدِهم قَرينٌ من
الجِنِّ يُخبِرُه بكثيرٍ من المُغيَّباتِ مِمَّا يَستَرِقُه من السَّمعِ، مَعَ خَلطِ الصِّدقِ والكَذِبِ)
[1233] يُنظر: ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) (ص: 381). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (لا يَجوزُ للوليِّ أن يَعتَقِدَ في كُلِّ ما يَقَعُ له من الواقِعاتِ والمُكاشَفاتِ أنَّ ذلك كرامةٌ من اللهِ سُبحانَه؛ فقد يَكونُ من تَلبيسِ
الشَّيطانِ ومَكْرِه، بَلِ الواجِبُ عليه أن يَعرِضَ أقوالَه وأفعالَه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن كانَت موافِقةً لها فهي حَقٌّ وصِدقٌ وكرامةٌ من اللهِ سُبحانَه، وإن كانَت مُخالِفةً لشيءٍ من ذلك فليَعلمْ أنَّه مَخدوعٌ مَمكورٌ به، قد طَمِعَ منه
الشَّيطانُ، فلَبَّسَ عليه)
[1234] يُنظر: ((ولاية الله والطريق إليها)) (ص: 234). .
وقال
حافِظٌ الحَكميُّ بَعدَ أنْ قَرَّرَ إثباتَ كراماتِ الأولياءِ: (فإنِ اتَّفقَ شيءٌ من الخَوارِقِ لغيرِ مُتَّبِعِ النَّبيِّ، فهي فِتنةٌ وشَعْوذةٌ لا كرامةٌ، وليسَ من اتَّفقَت له من أولياءِ الرَّحمَنِ، بَل من أولياءِ
الشَّيطانِ. والعياذُ باللهِ)
[1235] يُنظر: ((أعلام السنة المنشورة)) (ص: 137). .
وقال مُحَمَّد خَليل هرَّاس بَعدَ أنَّ قَرَّرَ إثباتَ كراماتِ الأولياءِ: (لكِن يَجِبُ التَّنَبُّهُ إلى أنَّ ما يَقومُ به الدَّجاجِلةُ والمُشعوذونَ من أصحابِ الطُّرُقِ المُبتَدَعةِ الذينَ يُسَمُّونَ أنفُسَهم بالمُتَصَوِّفةِ، من أعمالٍ ومَخاريقَ شيطانيَّةٍ؛ كدُخولِ النَّارِ، وضَربِ أنفُسِهم بالسِّلاحِ، والإمساكِ بالثَّعابينِ، والإخبارِ بالغيبِ... إلى غيرِ ذلك- ليسَ من الكراماتِ في شيءٍ؛ فإنَّ الكرامةَ إنَّما تَكونُ لأولياءِ اللهِ بحَقٍّ، وهؤلاء أولياءُ
الشَّيطانِ)
[1236] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 254). .
وقال تَقيُّ الدِّين الهلاليُّ: (مِن هَذا تَعلمُ أنَّ ظُهورَ الخَوارِقِ وما في عالمِ الغَيبِ ليسَ دَليلًا على صَلاحِ من ظَهَرَت له تلك الخَوارِقُ، ولا على وَلايَتِه للهِ البَتَّةَ؛ فإنَّ كُلَّ مُرتاضٍ رياضةً رُوحيَّةً تَظهَرُ له الخَوارِقُ على أيِّ دينٍ كانَ، وقد سَمِعْنا وقَرَأْنا أنَّ العُبَّادَ الوَثنيِّينَ من أهلِ الهندِ تَقَعُ لهم خَوارِقُ عِظامٌ)
[1237] يُنظر: ((الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية)) (ص: 11). .
وقال
ابنُ بازٍ: (الكَراماتُ للأولياءِ ثابِتةٌ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ومِن عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الإيمانُ بكراماتِ الأولياءِ وأنَّها حَقٌّ، وهي خَوارِقُ العاداتِ الَّتي يَخرِقُها اللهُ لبَعضِ أوليائِه إمَّا لحاجةٍ أو لإقامةِ حُجَّةٍ على أعداءِ اللهِ، لنَصرِ الدِّينِ وإقامةِ أمرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، فتَكونُ لأولياءِ اللهِ المُؤمِنينَ، تارةً لحاجَتِهم، كأن يُسَهِّلَ اللهُ له طَعامًا عِندَ جُوعِه، أو شَرابًا عِندَ ظَمَئِه، لا يَدري من أينَ أتى، أو في مَحَلٍّ بَعيدٍ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ أو نَحوِ ذلك، أو برَكةٍ في طَعامٍ تَكونُ واضِحةً، أو غيرِ ذلك من الخَوارِقِ للعادةِ.
والميزانُ في ذلك أن يَكونَ مُستَقيمًا على الكِتابِ والسُّنَّةِ، لا تَكونُ كرامةٌ خارِقةٌ إلَّا إذا كانَ الشَّخصُ مَعروفًا بالِاستِقامةِ على دينِ اللهِ ورَسولِه، أمَّا إذا كانَ مُنحَرِفًا عَنِ الشَّريعةِ فليسَت كرامةً، ولَكِنَّها من خَوارِقِ الشَّياطينِ، ومِن فتَنِ الشَّياطينِ)
[1238] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (2/ 193). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (هناك مَذهَبٌ مُخالِفٌ لمَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ، وهو مَذهَبُ
المُعتَزِلةِ ومَن تَبِعَهم؛ حيثُ إنَّهم يُنكِرونَ الكراماتِ، ويَقولونَ: إنَّك لو أثبَتَّ الكراماتِ لاشتَبَهَ السَّاحِرُ بالوَليِّ والوَليُّ بالنَّبيِّ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهم يَأتي بخارِقٍ! فيقالُ: لا يُمكِنُ الِالتِباسُ؛ لأنَّ الكرامةَ على يَدِ وليٍّ، والوَليُّ لا يُمكِنُ أن يَدَّعيَ النُّبوَّةَ، ولَوِ ادَّعاها لم يَكُن وليًّا، آيةُ النَّبيِّ تَكونُ على يَدِ نَبيٍّ، والشَّعْوَذةُ والسِّحرُ على يَدِ عَدُوٍّ بَعيدٍ من وَلايةِ اللهِ، وتَكونُ بفِعلِه باستِعانَتِه بالشَّياطينِ، فيَنالُها بكسَبِه، بخِلافِ الكرامةِ؛ فهي من اللهِ تعالى، لا يَطلُبُها الوَليُّ بكَسْبِه)
[1239] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 300). .
وقال أيضًا: (ذَكرَ العُلماءُ رَحِمَهم اللهُ أنَّ الخَوارِقَ ثَلاثةُ أقسامٍ:
1 - قِسْمٌ آياتٌ للأنبياءِ.
2 - وقِسمٌ كراماتٌ للأولياءِ.
3- وقِسْمٌ إهاناتٌ من الشَّياطينِ يُجريها اللهُ على خِلافِ العادةِ على أيديِ الشَّياطينِ والعياذُ باللهِ.
وعَلامةُ ذلك أنَّ الذي تَحصُلُ له هذه الخَوارِقُ إمَّا أن يَكونَ نَبيًّا، أو وليًّا للرَّحمَنِ، أو وليًّا للشَّيطانِ، ومِنَ المَعلومِ أنَّه بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُمكِنُ أن تَكونَ كرامةٌ مُعجِزةٌ أبَدًا؛ لأنَّ النُّبوَّةَ انقَطَعَت، وذاك رَسولُ اللهِ وخاتَمُ النَّبيِّينَ، بَقِيَتِ الكراماتُ والأحوالُ الشَّيطانيَّةُ والشَّعْوذاتُ والسِّحْرُ وما أشبَه ذلك.
الكراماتُ عَلامَتُها أن يُجرِيَها اللهُ عزَّ وجَلَّ على يَدِ عَبدٍ صالِحٍ من أولياءِ اللهِ، وأولياءُ اللهِ هم المُؤمِنونَ المُتَّقونَ، كما قال تعالى:
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]، فإذا أُجري شيءٌ خارِقٌ للعادةِ على يَدِ رَجُلٍ صالِحٍ مُؤمِنٍ تَقيٍّ مَعروفٍ بالخَيرِ، قيلَ: هذه كرامةٌ.
القِسمُ الثَّالِثُ: السِّحرُ والأحوالُ الشَّيطانيَّةُ، وهذه تَجري على طَواغيتَ وأولياءِ الشَّياطينِ الذينَ يَدَّعونَ أنَّهم أولياءُ، ويَلعَبونَ بعُقولِ السُّفَهاءِ وعُقولِ العامَّةِ. تَجِدُ الإنسانَ يُكبِّرُ عِمَامَتَه ويُوَسِّعُ كُمَّه ويُطيلُ لحيَتَه ويُعَفِّرُ جَبهَتَه في الأرضِ ليَظهَرَ عليه أثَرُ السُّجودِ، وما أشبَه ذلك من اللَّعِبِ بعُقولِ النَّاسِ، ثُمَّ يَستَخدِمُ الشَّياطينَ لأغراضٍ خاصَّةٍ، فتَقلِبُ له البَعيرَ، ورُبَّما تَحمِلُه في الهَواءِ ويَطيرُ، حَتى إنَّ بَعضَهم شُوهِدَ في أوَّلِ يَومِ عَرَفةَ، ثُمَّ حَملَتْه الشَّياطينُ حَتى أدرَك النَّاسَ في عَرفةَ)
[1240] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (4/ 652). .