المَطلَبُ الثَّاني: الأدِلَّةُ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ على وُقوعِ سَكَراتِ المَوتِ وغَمَراتِه
أوَّلًا: الأدِلَّةُ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:1- قال اللهُ تعالى:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقولُ تعالى ذِكرُه لِنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولَو تَرَى يا مُحمَّدُ حينَ يَغمُرُ المَوتُ بسَكَراتِه هَؤُلاءِ الظَّالِمينَ... فتُعايِنُهم وقَد غَشِيَتْهم سَكَراتُ المَوتِ، ونَزَلَ بهم أمرُ اللَّهِ، وحانَ فَناءُ آجالِهم)
[1365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/ 408). .
وقال
السَّعديُّ: (لَمَّا ذَمَّ الظَّالِمينَ ذَكرَ ما أعَدَّ لَهم مِنَ العُقوبةِ في حالِ
الاحتِضارِ، ويَومَ القيامةِ، فقالَ:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ أي: شَدائِدِه وأهوالِه الفظيعةِ، وكُرَبِه الشَّنيعةِ، لـرأيتَ أمرًا هائِلًا، وحالةً لا يَقْدِرُ الواصِفُ أن يَصِفَها،
وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ إلى أولَئِكَ الظَّالِمينَ المُحتَضَرينَ بالضَّربِ والعَذابِ)
[1366] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 265). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب: 18، 19].
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (من شِدَّةِ الرُّعبِ الَّذي في قُلوبهم يُشبِهونَ المُغمَى عليه وقتَ النَّـزِعِ؛ فإنَّه يَخافُ ويَذهَلُ عَقلُه، ويَشْخَصُ بَصَرُه، ولا يَطرفُ، فكَذلك هَؤُلاءِ؛ لِأنَّهم يَخافونَ القَتْلَ)
[1367] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/456). .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19].
قال
ابنُ جَريرٍ: (في قَولِه:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وجهانِ مِنَ التَّأويلِ؛ أحَدُهما: وجاءَت سَكرةُ المَوتِ، وهيَ شِدَّتُه وغَلَبَتُه على فَهمِ الإنسانِ، كالسَّكرةِ مِنَ النَّومِ أوِ الشَّرابِ.
بِالحَقِّ من أمرِ الآخِرةِ، فتَبَيَّنَه الإنسانُ حَتَّى تَثَبَّتَه وعَرَفَه. والثَّاني: وجاءَت سَكرةُ المَوتِ بحَقيقةِ المَوتِ)
[1368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 427). .
وقال
ابنُ عاشورٍ: (السَّكرةُ: اسمٌ لِما يَعتَري الإنسانَ من ألمٍ أوِ اختِلالٍ في المِزاجِ يَحجُبُ من إدراكِ العَقلِ فيَختَلُّ الإدراكُ ويَعتَري العَقلَ غَيبوبةٌ، وهيَ مُشتَقٌّ مِنَ السَّكْرِ -بفَتحٍ فُسُكونٍ- وهو الغَلقُ؛ لِأنَّه يُغلِقُ العَقلَ، ومِنه جاءَ وصفُ السَّكْرانِ)
[1369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 306). .
4- قال اللهُ تعالى:
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26-30] .
قال
البَغَويُّ: (
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ، يعني النَّفسُ كِنايةً عَن غَيرِ مَذكورٍ
التَّرَاقِيَ، فحَشرَجَ بها عِندَ المَوتِ، والتَّراقي جَمعُ التَّرْقُوَةِ، وهيَ العِظامُ بَينَ ثُغرةِ النَّحرِ والعاتِقِ، ويُكنَّى ببُلوغِ النَّفسِ التَّراقيَ عَنِ الإشرافِ على المَوتِ.
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، أي: قال مَن حَضَرَه المَوتُ: هَل من طَبيبٍ يَرقيه ويُداويه فيَشفيه بِرُقْيَتِه أو دَوائِه، وقال قَتادةُ: التَمَسوا لَه الأطبَّاءَ فلَم يُغْنُوا عَنه من قِضاءِ اللهِ شَيئًا. وقال سُلَيمانُ التَّيميُّ ومُقاتِلُ بن سُلَيمانَ: هَذا من قَولِ المَلائِكةِ، يَقولُ بَعضُهم لِبَعضٍ مَن يَرقَى برُوحِه فتَصعَدُ بها مَلائِكةُ الرَّحمةِ أو مَلائِكةُ العَذاب.
وظَنَّ أيقَنَ الَّذي بَلَغَت رُوحُه التَّراقيَ،
أَنَّهُ الْفِرَاقُ مِنَ الدُّنيا.
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، قال قَتادةُ: الشِّدَّةُ بالشِّدَّةِ. قال عَطاءٌ: شِدَّةُ المَوتِ بشِدَّةِ الآخِرةِ، قال سَعيدُ بْنُ جُبَيرٍ: تَتابَعتْ عليه الشَّدائِدُ. وقال السُّدِّيُّ: لا يَخرُجُ من كَربٍ إلَّا جاءَه أشَدُّ مِنه. قال
ابنُ عَبَّاسٍ: أمْرُ الدُّنيا بأمرِ الآخِرةِ، فكانَ في آخِرِ يَومٍ من أيَّامِ الدُّنيا وأوَّلِ يَومٍ من أيَّامِ الآخِرةِ. وقال مُجاهِدٌ: اجتَمَعَ فيه الحَياةُ والمَوتُ. وقال الضَّحَّاكُ: النَّاسُ يُجهِّزونَ جَسَدَه والمَلائِكةُ يُجهِّزونَ رُوحَه. وقال الحَسَنُ: هما ساقاه إذا التَفَّا في الكَفَنِ. وقال الشَّعبيُّ: هما ساقاه إذا التَفَّا عِندَ المَوتِ)
[1370] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 186). .
وقال
السَّعديُّ: (يَعِظُ تعالى عِبادَه بذِكرِ المُحتَضَرِ حالَ السِّياقِ، وأنَّه إذا بَلَغَت روحُه التَّراقيَ، وهيَ العِظامُ المُكتَنِفةُ لِثُغرةِ النَّحرِ، فحينَئِذٍ يَشتَدُّ الكَربُ، ويَطلُبُ كُلَّ وسيلةٍ وسَبَبٍ يَظُنُّ أن يَحصُلَ به الشِّفاءُ والرَّاحةُ؛ ولِهَذا قال:
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أي: مَن يَرقِيه، مِنَ الرُّقْيَةِ؛ لِأنَّهم انقَطَعَت آمالُهم مِنَ الأسباب العاديَّةِ، فتَعَلَّقوا بالأسبابِ الإلهيَّةِ، ولَكِنَّ القَضاءَ والقَدَرَ إذا حَتمَ وجاءَ فلا مَرَدَّ لَه،
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ لِلدُّنيا،
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، أي: اجتَمَعَتِ الشَّدائِدُ، والتَفَّتْ، وعَظُمَ الأمرُ، وصَعُبَ الكَرْبُ، وأُريدَ أن تَخرُجَ الرُّوحُ مِنَ البَدَنِ، الَّذي ألِفَتْه، ولَم تَزَلْ مَعَه، فتُساقُ إلَى اللَّهِ تعالى؛ حَتَّى يُجازيَها بأعمالِها ويُقَرِّرَها بفِعالِها، فهَذا الزَّجْرُ الَّذي ذَكَرَه اللَّهُ يَسوقُ القُلوبَ إلَى ما فيه نَجاتُها، ويَزجُرُها عَمَّا فيه هَلاكُها، ولَكِنَّ المُعانِدَ الَّذي لا تَنفَعُ فيه الآياتُ لا يَزالُ مُستَمِرًّا على بَغْيِه وكُفْرِه وعِنادِه)
[1371] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 900). .
ثانيًا: الأدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ:1- عَن
عائِشةَ رَضيَ اللَّهُ عَنها أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((كانَ بَينَ يَدَيه رَكوةٌ -أو عُلبةٌ فيها ماءٌ- فجَعلَ يُدخِلُ يَدَيه في الماءِ، فيَمسَحُ بهما وَجْهَه ويَقولُ: لا إلَه إلَّا اللَّهُ، إنَّ لِلمَوتِ سَكَراتٍ. ثُمَّ نَصَبَ يَدَه فجَعَلَ يَقولُ: في الرَّفيقِ الأعلَى. حَتَّى قُبِضَ ومالَت يَدُه )) [1372] أخرجه البخاري (6510). .
قال الكرمانيُّ: («سَكْرَةُ الموتِ»: شِدَّتُه وغَمُّه وغَشْيَتُه. و
((في الرَّفيقِ)) أي: أدخِلْني في جُملتِهم، أي: اخترْتُ الموتَ)
[1373] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (23/27). .
2- عَن
أنسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنه قال:
((لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَعَلَ يَتَغَشَّاه، فقالت فاطِمةُ عليها السَّلامُ: واكَرْبَ أباهَ! فقال لَها: لَيسَ على أبيكَ كَربٌ بَعدَ اليَومِ. فلَما ماتَ قالت: يا أبتاه، أجابَ رَبًّا دَعاه، يا أبتاه، من جَنَّةِ الفِردَوسِ مأواه، يا أبتاه، إلَى جِبريلَ نَنْعاه. فلَمَّا دُفِنَ قالت فاطِمةُ عليها السَّلامُ: يا أنسُ، أطابَت أنفُسُكُم أن تَحثُوا على رَسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التُّرابَ؟! )) [1374] أخرجه البخاري (4462). .
قال
الخَطابيُّ: (
((لَيسَ على أبيكَ كَرْبٌ بَعدَ اليَومِ))... إنَّما هو ما كانَ يَجِدُه من كُرَبِ المَوتِ وعلزِه، وكانَ بَشَرًا يَنالُه الوَصَبُ، فيَجِدُ لَه مِنَ الألمِ مِثلَ ما يَجِدُه النَّاسُ أو أكثَرَ وإن كانَ صَبرُه عليه واحتِمالُه لَه أحسَنَ، وقَد رُويَ عَن
عَبد اللهِ بنِ مَسعودٍ قال:
((دَخَلتُ على رَسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مَحمومٌ، فقَلتُ: يا رَسولَ اللَّه: إنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَديدًا! فقال: أجَل، إنَّا مَعْشَرَ الأنبياءِ يُضاعَفُ علينا البَلاءُ، كَما يُضاعَفُ لَنا الأجرُ )) [1375] أخرجه البخاري (5648)، ومسلم (2571) بمعناه. ولفظ البخاري: عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك- فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا. قال: ((أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)). قلت: ذلك أن لك أجرين. قال: ((أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى - شوكة فما فوقها - إلا كفر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) .
فمَعنَى قَولِه:
((لَيسَ على أبيكَ كَربٌ بَعدَ اليَومِ)) أي: لا يُصيبُه بَعدَ اليَومِ نَصَبٌ ولا وصَبٌ يَجِدُ لَه كَربًا إذا أفضَى إلَى دارِ الآخِرةِ والسَّلامةِ الدَّائِمةِ والنَّعيمِ المُقيمِ)
[1376] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/1795). .
3- عَن
عائِشةَ رَضيَ اللَّه عَنها قالت: (
ماتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنَّه لَبَينَ حاقِنَتي وذاقِنَتي، فلا أكرَهُ شِدَّةَ المَوتِ لِأحَدٍ أبَدًا بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1377] أخرجه البخاري (4446). .
قال المظهري: («حاقِنَتي وذاقِنَتي» «الحاقِنة»... التَّرْقُوةَ، و «الذَّاقِنة»: طَرَفُ الحُلقومِ، يعني: وَضَع رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رأسَه على تَرْقُوَتي عند النَّزعِ.
قَولُها: «فلا أكرَهُ شِدَّةَ المَوتِ لِأحَدٍ» يعني: ظَنَنتُ شِدَّةَ المَوتِ من كَثرةِ الذَّنوبِ، وظَنَنتُها من عَلامةِ الشَّقاوةِ وسوءِ حالِ الرَّجُلِ عِندَ اللَّهِ، وهَذا قَبلَ مَوتِ رَسولِ اللَّه عليه السَّلامُ، فلَما رأيتُ شِدَّةَ مَوتِ رَسولِ اللَّهِ عليه السَّلامُ عَلِمْتُ أنَّ شِدَّةَ المَوتِ لَيسَت بعَلامةِ الشَّقَاوةِ، ولا بعَلامةِ سُوءِ حالِ الرَّجُلِ؛ لِأنَّه لَو كانَ كَذلك لَم يَكُنْ لِرَسولِ اللَّهِ عليه السَّلامُ شِدَّةٌ، بَل شِدَّةُ المَوتِ لِرَفعِ الدَّرَجةِ، ولِتَطهيرِ الرَّجُلِ مِنَ الذُّنوبِ، فإذا كانَ كَذلك فلا أكرهُ شِدَّةَ المَوتِ لِأحَدٍ بَعدَما عَلِمتُ هَذا)
[1378] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/395). .
قال
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (اعلَمْ أنَّه لَو لَم يَكُنْ بَينَ يَدَيِ العَبدِ المَسكينِ كَرْبٌ ولا هَولٌ ولا عَذابٌ سِوى سَكَراتِ المَوتِ بمُجَرَّدِها، لَكانَ جَديرًا بأن يَتَنَغَّصَ عليه عَيشُه، ويَتَكَدَّرَ عليه سُرورُه، ويُفارِقَه سَهْوُه وغَفلَتُه، وحَقيقًا بأن يَطولَ فيه فِكرُه، ويَعظُمَ لَه استِعدادُه، لا سيَّما وهو في كُلِّ نَفَسٍ بصَدَدِه... واعلَم أنَّ شِدَّةَ الألمِ في سَكَراتِ المَوتِ لا يَعرِفُها بالحَقيقةِ إلَّا مَن ذاقَها، ومَن لَم يَذُقْها فإنَّما يَعرِفُها إمَّا بالقياسِ إلَى الآلامِ الَّتي أدرَكَها، وإمَّا بالاستِدلالِ بأحوالِ النَّاسِ في النَّزعِ على شِدَّةِ ما هم فيه. فأمَّا القياسُ الَّذي يَشهَدُ لَه فهو أنَّ كُلَّ عُضوٍ لا رُوحَ فيه فلا يُحِسُّ بالألمِ، فإذا كانَ فيه الرُّوحُ فالمُدرِكُ لِلألمِ هو الرُّوحُ، فمَهما أصابَ العُضوَ جُرحٌ أو حَريقٌ سَرَى الأثَرُ إلَى الرُّوحِ، فبقَدرِ ما يَسري إلَى الرُّوحِ يَتألَّمُ، والمُؤلِمُ يَتَفرَّقُ على اللَّحمِ والدَّمِ وسائِرِ الأجزاءِ، فلا يُصيبُ الرُّوحَ إلَّا بَعضُ الألمِ؛ فإن كانَ في الآلامِ ما يُباشِرُ نَفسَ الرُّوحِ ولا يُلاقي غَيرَه، فما أعظَمَ ذلك الألمَ وما أشَدَّه! والنَّزعُ عِبارةٌ عَن مُؤْلمٍ نَزَلَ بنَفسِ الرُّوحِ فاستَغرَقَ جَميعَ أجزائِه، حَتَّى لَم يَبقَ جُزءٌ من أجزاءِ الرُّوحِ المُنتَشِرِ في أعماقِ البَدَنِ إلَّا وقَد حَلَّ به الألمُ... فألمُ النَّزعِ يَهجُمُ على نَفسِ الرُّوحِ ويَستَغرِقُ جَميعَ أجزائِه؛ فإنَّه المَنزوعُ المَجذوبُ من كُلِّ عِرْقٍ مِنَ العُروقِ، وعَصَبٍ مِنَ الأعصابِ، وجُزءٍ مِنَ الأجزاءِ، ومِفصَلٍ مِنَ المَفاصِلِ، ومن أصلِ كُلِّ شَعرةٍ وبَشَرةٍ مِنَ الفَرقِ إلَى القَدَمِ...فلا تَسَلْ عَن بَدَنٍ يُجذَبُ مِنه كُلُّ عِرْقٍ من عُروقِه، ولَو كانَ المَجذوبُ عِرْقًا واحِدًا لَكانَ ألَمُه عَظيمًا، فكَيف والمَجذوبُ نَفسُ الرُّوحِ المُتألِّمِ، لا من عِرْقٍ واحِدٍ، بَل من جَميعِ العُروقِ، ثُمَّ يَموتُ كُلُّ عُضوٍ من أعضائِه تَدريجيًّا، فتَبرُدُ أوَّلًا قَدَماه، ثُمَّ ساقاه، ثُمَّ فَخِذاه، ولِكُلِّ عُضوٍ سَكْرةٌ بَعدَ سَكْرةٍ، وكُربةٍ بَعدَ كُربةٍ، حَتَّى يَبلُغَ بها إلَى الحُلقومِ، فعِندَ ذلك يَنقَطِعُ نَظَرُه عَن الدُّنيا وأهلِها!)
[1379] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) (4/ 461). .