الْمَبحَثُ العاشِرُ: قَبضُ العِلمِ وظُهورُ الجَهْلِ
عَن
أنسِ بن مالِك رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ ويَثبُتَ الجَهْلُ )) [1920] أخرجه مُطَولًا البخاري (80)، ومسلم (2671) واللَّفظُ له. .
وعَن شَقيقٍ قال: كُنتُ مَعَ عَبدِ الله وأبي موسى فقالا: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ لأيَّامًا يَنزِلُ فيها الجَهْلُ، ويُرفَعُ فيها العِلمُ، ويَكثُرُ فيها الهَرْجُ)) [1921] أخرجه البخاري (7062، 7063) واللَّفظُ له، ومسلم (2672). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَتَقارَبُ الزَّمانُ، ويُقبَضُ العِلمُ، وتَظهَرُ الفِتَنُ، ويُلقى الشُّحُّ، ويَكثُرُ الهَرْجُ )) [1922] أخرجه مُطَولًا البخاري (6037)، ومسلم (157) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ بطالٍ: (هذا كُلُّه إخبارٌ مِنَ النَّبيِّ ب
أشراطِ السَّاعةِ، وقَد رَأينا هَذِه الأشراطَ عِيانًا وأدرَكناها، فقَد نَقَصَ العِلمُ، وظَهَرَ الجَهْلُ، وأُلقيَ بالشُّحِّ في القُلوبِ، وعَمَّتِ الفِتَنُ، وكَثُرَ القَتْلُ)
[1923] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/13). .
قال
ابنُ حَجَرٍ مُعَقِّبًا: (الذي يَظهَرُ أنَّ الذي شاهَده كان مِنه الكَثيرُ مَعَ وُجودِ مُقابِلِه، والمَرادُ مِنَ الحَديثِ استِحكامُ ذلك حَتَّى لا يَبقى بما يُقابِلُه إلَّا النَّادِرُ، وإليه الإشارةُ بالتَّعبيرِ بقَبضِ العِلمِ، فلا يَبقى إلَّا الجَهْلُ الصِّرفُ، ولا يَمنَعُ مِن ذلك وُجودُ طائِفةٍ مِن أهلِ العِلمِ؛ لأنَّهم يَكونونَ حينَئِذٍ مَغمورين في أولَئِكَ)
[1924] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/16). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ)) أي: مِن عَلاماتِ قُربِ يَومِ القيامةِ، وقَد تَقَدَّمَ القَولُ في الأشراطِ، وأنَّها مُنقَسِمةٌ إلى ما يَكونُ مِن قَبيلِ الْمُعتادِ، وإلى ما لا يَكونُ كذلك، بَل خارِقًا للعادةِ على ما يَأتي إنْ شاءَ الله تعالى.
وقَولُه:
((أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَظهَرَ الجَهْلُ))، وقَد بينَ كيفيَّةَ رَفعِ العِلمِ وظُهورِ الجَهْلِ في حَديثِ
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو الذي قال فيه:
((إنَّ الله لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُه مِنَ النَّاسِ، ولَكِن يَقبِضُ العِلمُ بقَبضِ العُلَماءِ... الحَديثُ )) [1925] أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673) واللفظ له. . وهو نَصٌّ في أنَّ رَفعَ العِلمِ لا يَكونُ بمَحوِه مِنَ الصُّدورِ، بَل بموتِ العُلَماءِ وبَقاءِ الجُهَّالِ الذينَ يَتَعاطونَ مَناصِبَ العُلَماءِ في الفُتيا والتَّعليمِ، يُفْتونُ بالجَهْلِ ويُعلِّمونَه، فيَنتَشِرُ الجَهْلُ ويَظهَرُ، وقَد ظَهَرَ ذلك ووُجِدَ على نَحوِ ما أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان ذلك دَليلًا مِن أدِلَّةِ نُبوَّتِه، وخُصوصًا في هَذِه الأزمانِ؛ إذ قَد وليَ الْمَدارِسَ والفُتيا كثيرٌ مِنَ الجُهَّالِ والصِّبيانِ، وحُرِمَها أهلُ ذلك الشَّأنِ، غَيرَ أنَّه قَد جاءَ في كِتابِ
التِّرمِذيِّ عَن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ عَن أبي الدَّرداءِ ما يَدُلُّ على أنَّ الذي يُرفَعُ هو العَمَلُ. قال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ الله عَنه: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فشَخصَ ببَصَرِه إلى السَّماءِ، ثُمَّ قال: هذا أوانٌ يُختَلَسُ فيه العِلمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لا يَقدِروا مِنه على شَيءٍ. فقال زيادُ بن لبيدِ الأنصاريُّ: وكَيفَ يُختَلَسُ مِنَّا وقَد قَرَأنا القُرآنَ؛ فوالله لنَقرَأنَّه، ولنُقرِئنَّه نِساءَنا وأبناءَنا، فقال: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يا زيادٍ! إن كُنتُ لأَعُدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ الْمَدينةِ! هَذِه التَّوراةُ والإنجيلُ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى
، فماذا تُغني عَنهم؟! قال: فلَقِيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامِتِ، فقُلتُ: ألَا تَسمَعُ إلى ما يَقولُ أخوكَ أبو الدَّرداءِ؟! فأخبَرَتُه بالذي قال أبو الدَّرداءِ. قال: صَدقَ أبو الدَّرداءِ، إن شِئتَ لأحدِثَنَّكَ بأوَّلِ عِلمٍ يُرفَعُ: الخُشوعُ، يوشِكُ أن تَدخُلَ مَسجِدَ الجامِعِ فلا تَرى فيه رَجُلًا خاشِعًا
[1926] أخرجه الترمذي (2653)، والدارمي (288)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (304) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2653)، وقال الترمذي: حسن غريب. وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (338). وذكر شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (304) أن فيه عبدَ الله بن صالح، هو كاتب الليث، حديثه حسن في الشواهد، وهذا منها، وباقي رجاله ثقات. .
قال: هذا حَديثُ حَسَنٌ غَريبٌ، وقَد خَرَّجَه
النَّسائيُّ مِن حَديثِ جُبَيرِ بن نُفيرٍ أيضًا عَن عَوفِ بن مالِكٍ الأشجَعيِّ مِن طُرُقٍ صَحيحةٍ
[1927] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (5909)، وأحمد (23990). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4572)، والحاكم في ((المستدرك)) (337)، والقرطبي في ((التفسير)) (2/166). . وظاهِرُ هذا الحَديثِ أنَّ الذي يُرفَعُ إنَّما هو العَمَلُ بالعِلمِ، لا نَفسُ العِلمِ، وهذا بخِلافِ ما ظَهَرَ مِن حَديثِ
عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ؛ فإنَّه صَريحٌ في رَفعِ العِلمِ. قُلتُ: ولا تَباعُدَ فيهما؛ فإنَّه إذا ذَهَبَ العِلمُ بمَوتِ العُلَماءِ، خَلفَهم الجُهَّالُ، فأفتَوا بالجَهْلِ، فعُمِلَ به، فذَهَبَ العِلمُ والعَمَلُ، وإن كانتِ الْمَصاحِفُ والكُتُبُ بأيدي النَّاسِ، كما اتَّفَقَ لأهلِ الكِتابينِ مِن قَبلِنا، ولِذلك قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لزيادٍ على ما نَصَّ عليه
النَّسائيُّ:
((ثَكِلتْكَ أمُّكَ زِيادُ، هَذِه التَّوراةُ والإنجيلُ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى )) [1928] لم ينص عليها النسائي بل نص عليها الترمذي وغيره بلفظ: ((ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى)) أخرجه الترمذي (2653)، والدارمي (288)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (304) مطولاً. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2653)، وقال الترمذي: حسن غريب. وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (338). وذكر شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (304) أن فيه عبدَ الله بن صالح، هو كاتب الليث، حديثه حسن في الشواهد، وهذا منها، وباقي رجاله ثقات. ، وذلك أنَّ عُلَماءَهم لما انقَرَضوا خَلفَهم جُهَّالُهم، فحَرَّفوا الكِتابَ، وجَهِلوا المَعاني، فعَمِلوا بالجَهْلِ، وأفتَوا به، فارتَفَعَ العِلمُ والعَمَلُ، وبَقيَت أشخاصُ الكُتُبِ لا تُغني شَيئًا)
[1929] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 705-708). .
وقال
النَّوَويُّ: (هذا الحَديثُ يُبَيِّنُ أنَّ الْمُرادَ بقَبضِ العِلمِ في الأحاديثِ السَّابِقةِ الْمُطلَقةِ لَيسَ هو مَحوَه مِن صُدورِ حُفَّاظِه، ولَكِن مَعناه: أنَّه يَموتُ حَملَتُه، ويَتَّخِذُ النَّاسُ جُهَّالًا يَحكُمونَ بجَهالاتِهم، فيَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ)
[1930] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/223). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: أيِ
البُخاريِّ «بابُ رَفعِ العِلمِ» مَقصودُ البابِ الحَثُّ على تَعَلُّمِ العِلمِ؛ فإنَّه لا يُرفَعُ إلَّا بقَبضِ العُلَماءِ، كما سَيَأتي صَريحًا، وما دامَ مَن يَتَعَلَّمُ العِلمَ مَوجودًا لا يَحصُلُ الرَّفعُ، وقَد تَبَيَّنَ في حَديثِ البابِ أنَّ رَفعَه مِن عَلاماتِ السَّاعةِ... قَولُه: أن يُرفَعَ العِلمُ... الْمُرادُ برَفعِه مَوتُ حَمَلَتِه)
[1931] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 178). .
وقال السَّفَّارينيُّ في أقسامِ
أشراطِ السَّاعةِ: («الثَّانية» الأماراتُ الْمُتَوَسِّطةُ، وهيَ الَّتي ظَهَرَت ولَم تَنقَضِ بَل تَزايدُ وتَكْثُرُ، وهيَ كثيرةٌ جِدًّا... «مِنها»: ما في صَحيحِ
البُخاريِّ وغَيرِه مِن حَديثِ
أنسٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّه قال: ألَا أُحَدِّثُكم بحَديثٍ سَمِعتُه مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُحَدِّثُكم به أحَدٌ غَيري، سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يُرفَعَ العِلمُ، ويَكثُرَ الجَهْلُ، ويَكثُرَ الزِّنا، ويَكثُرَ شُربُ الخَمرِ، ويَقِلَّ الرِّجالُ ويَكثُرَ النِّساءُ حَتَّى يَكونَ لخَمسينَ امرَأةً القَيِّمُ الواحِدُ )) [1932] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 68). .
وقال حُمُودٌ التُّوَيجريُّ: (أمَّا العِلمُ الْمَوروثُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه وتابِعِيهم وأئِمَّةِ العِلمِ والهُدى مِن بَعْدِهم؛ فقَد هَجَرَه الأكثَرونَ، وقَلَّ الرَّاغِبونُ فيه والمُعتَنونَ به، وقَدِ انصَرَفَت همَمُ الأكثَرينَ إلى الصُّحُفِ والمِجَلَّاتِ، وما شاكَلَ ذلك ممَّا كثيرٌ مِنه مُشتَمِلٌ على الجَهْلِ الصِّرفِ الذي قَد ظَهَرَ في زَمانِنا، وثبَتَ فيه، وبُثَّ في مَشارِقِ الأرضِ ومَغارِبِها به غايةَ البَثِّ، ونَثَّ بينَ الخاصَّةِ والعامَّةِ غايةَ النَّثِّ، وشُغِفَ به الكَثيرُ مِنَ النَّاسِ، وسَمَّوه العِلمَ والثَّقافةَ والتَّقَدُّمَ، ومَن يَعتَني به هو الْمَهَذَّبُ الْمُثَقَّفُ عِندَهم! وقَد زادَ الحُمقُ والغُرورُ ببَعضِ السُّفَهاءِ حَتَّى أطلَقوا على الْمُعتَنين بالعُلومِ الشَّرعيَّةِ اسمَ الرَّجعيِّين، وسَمَّوا كُتُبَ العِلمِ النَّافِعِ الكُتُبَ الصَّفراءَ؛ تَحقيرًا لَها، وتَنفيرًا مِنها)
[1933]يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) (2/ 94). .
وقال
ابنُ بازٍ: (مِن
أشراطِ السَّاعةِ كثرةُ الشُّحِّ بينَ النَّاسِ، والبُخلُ، وكَذلك قِلَّةُ العِلمِ، وكَثرةُ الجَهْلِ، وفُشُوُّ الْمَعاصي، وظُهورُ الْمَعاصي في البِلدانِ، كُلُّ هذا مِن عَلاماتِ السَّاعةِ الْمُنتَشِرةِ الَّتي هيَ غَيرُ الكُبرى)
[1934] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 268). .
وقال
ابنُ عُثَيمين في شَرحِ حَديثِ
((إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غَيرِ أهلِه فانتَظِرِ السَّاعةَ )) [1935] أخرجه البخاري (59) مُطَولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. : (مُناسَبةُ هذا الْمَتنِ لكِتابِ العِلمِ أنَّ إسنادَ الأمرِ إلى غَيرِ أهلِه إنَّما يَكونُ عِندَ غَلَبةِ الجَهْلِ ورَفعِ العِلمِ، وذلك مِن جُملةِ الأشراطِ، ومُقتَضاه أنَّ العِلمَ ما دامَ قائِمًا ففي الأمرِ فُسْحةٌ)
[1936] يُنظر: ((الموقع الرسمي لابن عثيمين- شرح كتاب الرقاق من صحيح البخاري - الشريط السادس)). .