الْمَبحَثُ الثَّامِنَ عَشَرَ: ولادَةُ الأمَةِ رَبَّتَها
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ
جِبريل عليه السَّلامُ سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: مَتى السَّاعةُ؟ قال:
((ما الْمَسؤولُ عَنها بأعلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وسَأخبِرُكَ عَن أشراطِها: إذا وَلدَتِ الأمَةُ رَبَّها، وإذا تَطاوَلَ رُعاةُ الإبلِ البُهْم في البُنيانِ، في خَمسٍ لا يَعلَمُهنَّ إلَّا اللهُ )). ثُمَّ تَلا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآيةُ
[2056] أخرجه مُطَولًا البخاري (50) واللَّفظُ له، ومسلم (9). .
قال
الخَطابيُّ: (قَولُه:
((إذا ولدَتِ الأمَةُ رَبَّتَها))، مَعناه اتِّساعُ الإسلامِ واستيلاءُ أهلِه على بلادِ الكُفرِ، وسَبيُ ذَرارِيِّهم، فإذا مَلَكَ الرَّجُلُ الجاريَةُ مِنهم فاستَولَدَها كان الوَلَدُ مِنها بمَنزِلةِ رَبِّها؛ لأنَّه وَلَدُ سَيِّدِها)
[2057] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 182). .
وقال
الأصبَهانيُّ: (قَولُه: أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، يَعني أن يَكثُرَ أولادُ السَّراريِّ، وقَد كانوا في الِابتِداءِ يَرغَبونَ في أولادِ الحَرائِرِ، وقَلَّ مَن يَتَّخِذُ مِنهم السُّرِّيَّةَ)
[2058] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 449). .
وقال
النَّوَويُّ: (قال الأكثَرونُ مِنَ العُلَماءِ: هو إخبارٌ عَن كثرةِ السَّراريِّ وأولادِهِن؛ فإنَّ ولَدَها من سَيِّدِها بمَنزِلةِ سَيِّدِها؛ لأنَّ مالَ الإنسانِ صائِرٌ إلى ولَدِه، وقَد يَتَصَرَّفُ فيه في الحالِ تَصَرُّفَ الْمالِكين إمَّا بتَصريحِ أبيه لَه بالإذْنِ، وإمَّا بما يَعلَمُه بقَرينةِ الحالِ أو عُرفِ الِاستِعمالِ.
وقيلَ: مَعناه أنَّ الإماءَ يَلِدْنَ الْمُلوكَ فتَكونُ أمُّه من جُملةِ رَعيَّتِه وهو سَيِّدُها وسَيِّدُ غَيرِها من رَعيَّتِه، وهذا قَولُ إبراهيمَ الحَربيِّ.
وقيلَ: مَعناه أن تَفسُدَ أحوالُ النَّاسِ فيَكثُرَ بَيعُ أمَّهاتِ الأولادِ في آخِرِ الزَّمانِ فيَكثُرَ تَرْدادُها في أيدي الْمُشتَرين حَتَّى يَشتَريَها ابنُها ولا يَدري، ويَحتَمِلُ على هذا القَولِ أنْ لا يَختَصَّ هذا بأمَّهاتِ الأولادِ؛ فإنَّه مُتَصَوَّرٌ في غَيرِهنَّ، فإنَّ الأمَةَ تَلِدُ ولَدًا حُرًّا من غَيرِ سَيِّدِها بشُبهةٍ أو ولَدًا رَقيقًا بنِكاحٍ أو زِنًا، ثُمَّ تُباعُ الأمَةُ في الصُّورَتين بيعًا صَحيحًا وتَدورُ في الأيدي حَتَّى يَشتَريَها ولَدُها، وهذا أكثَرُ وأعَمُّ من تَقديرِه في أمَّهاتِ الأولادِ)
[2059] يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/ 158). .
وقال الْمظهريُّ: (فإنْ قيلَ: هذا الشَّيءُ قَد كان قَبلَ النَّبيِّ عليه السَّلامُ، فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ خَليلَ الله وطِئَ أمَتَه هاجَرَ، ووَلَدَت إسماعيلَ صَلَواتُ الله عليهم، فكَيفَ يَكونُ هذا من عَلاماتِ القيامةِ؟ قُلنا: صَيرورةُ الجاريَةِ الَّتي هَذِه صِفَتُها أمَّ الوَلَدِ وعِتْقُها بَعدَ مَوتِ السَّيِّدِ من عَلاماتِ القيامةِ، لا مُجَرَّدُ وِلادةِ الأمَة من سَيِّدِها ولَدًا؛ لأنَّه لَم يَكُن قَبلَ نَبِينا عليه السَّلامُ وإلى مُدَّةٍ من أوَّلِ الإسلامِ عِتْقُ أمِّ الوَلَدِ، بَل جازَ في أوَّلِ الإسلامِ بيعُ أمَّهاتِ الأولادِ، ثُمَّ حَكمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعِتْقِ أمَّهاتِ الأولادِ بَعدَ مَوتِ سادَتِهِنَّ، ونَهى عَن بيعِهِنَّ)
[2060] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 49). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (الْمُرادُ برَبَّتِها سَيِّدَتُها ومالِكَتُها، وفي حَديثِ أبي هُرَيرةَ:
((رَبَّها))، وهَذِه إشارةٌ إلى فتحِ البِلادِ، وكَثرةِ جَلبِ الرَّقيقِ حَتَّى تَكثُرَ السَّراريُّ، ويَكثُرَ أولادُهُنَّ، فتَكونَ الأمَةُ رَقيقةً لسَيِّدِها وأولادُه مِنها بمَنزِلَتِه، فإنَّ وَلَدَ السَّيِّدِ بمَنزِلةِ السَّيِّدِ، فيَصيرُ وَلَدُ الأمَةِ بمَنزِلةِ رَبِّها وسَيِّدِها... وقَد فُسِّرَ قَولُه:
((تَلِد الأمَةُ رَبَّتَها)) بأنَّه يَكثُرُ جَلبُ الرَّقيقِ، حَتَّى تُجْلَبَ البِنتُ، فتُعتَقَ، ثُمَّ تُجلَبَ الأمُّ فتَشتَريها البِنتُ وتَستَخدِمها وهيَ جاهِلةٌ بأنَّها أمُّها، وقَد وقَعَ هذا في الإسلامِ. وقيلَ: مَعناه أنَّ الإماءَ تَلِدْنَ الْمُلوكَ)
[2061] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 136-140). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَدِ اختَلَفَ العُلَماءُ قَديمًا وحَديثًا في مَعنى ذلك. قال ابنُ التين: اختُلِفَ فيه على سَبعةِ أوجُهٍ، فذَكرَها لَكِنَّها مُتَداخِلةٌ، وقَد لَخَّصتُها بلا تَداخُلٍ، فإذا هيَ أربَعةُ أقوالٍ... الرَّابِعُ: أن يَكثُرَ العُقوقُ في الأولادِ، فيُعامِلُ الوَلَدُ أمَّه مُعامَلةَ السَّيِّدِ أمَتَه مِنَ الإهانةِ بالسَّبِّ والضَّربِ والِاستِخدامِ، فأُطلِقَ عليه رَبُّها مُجازًا لذلك، أوِ الْمُرادُ بالرَّبِّ الْمُرَبي، فيَكونُ حَقيقةً، وهذا أوجَهُ الأوجُهِ عِندي لعُمومِه، ولِأنَّ الْمَقامَ يَدُلُّ على أنَّ الْمُرادَ حالةٌ تَكونُ مَعَ كونِها تَدُلُّ على فسادِ الأحوالِ مُستَغرَبةً ومُحَصِّلُه الإشارةُ إلى أنَّ السَّاعةَ يَقرُبُ قيامُها عِندَ انعِكاسِ الأمورِ، بحَيثُ يَصيرُ الْمُرَبَّى مُرَبِّيًا والسَّافِلُ عاليًا، وهو مُناسِبٌ لقَولِه في العَلامةِ الأخرى: أن تَصيرَ الحُفَاةُ مُلوكَ الأرضِ)
[2062] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 122). .
وقال
ابنُ بازٍ: (
أشراطُ السَّاعةِ كثيرٌ، مِنها ما أخبَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لجِبرائيلَ:
((أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها))، الأَمَةُ: يَعني الْمَملوكةَ، رَبَّتَها، وفي رِوايةٍ أخرى:
((رَبَّها))، يَعني: سَيِّدَها مِنها؛ لكَثرةِ الإماءِ بسَبَبِ السَّبيِ، وقَد وقَعَ هذا في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَعدَه كثُرَ السَّبايا، وتَملَّكَ النَّاسُ الإماءَ، واستولَدوهُنَّ، هذا واقِعٌ من قَديمٍ)
[2063] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 265). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (
((أن تَلِدَّ الأمَةُ رَبَّتَها)) وفي لَفظٍ:
((رَبَّها))، والمَعنى: أن تَلِدَ الأمَةُ، أيِ الرَّقيقةُ الْمَملوكةُ، رَبَّها أيْ: سَيِّدَها، أو: رَبَّتَها، هَلِ الْمُرادَ العَينُ أوِ الجِنسُ؟ والجَوابُ: اختَلَفَ في هذا العُلَماءُ؛ فمِنهم من قال: الْمُرادُ أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّها، يَعني أن تَلِدَ الأمَةُ مَن يَكونُ سَيِّدًا لغَيرِها لا لَها، فيَكونُ الْمُرادُ بالأمَةِ: الأمَةُ بالجِنسِ. وقيلَ الْمَعنى: إنَّ الأمَةَ بالعينِ تَلِدُ سَيِّدَها أو سَيِّدَتَها، بحَيثُ يَكونُ الْمَلِكُ قَد أولَدَ أمَتَه، ومَعنى أولَدَها، أي: أنجَبَ مِنها، فيَكونُ هذا الوَلَدُ الذي أنجَبَته سَيِّدًا لَها؛ إمَّا لأنَّ أباهَ سَيِّدُها، وإمَّا لأنَّه سَوفَ يَخلُفُ أباه فيَكونُ سَيِّدًا لَها. ولَكِنَّ الْمَعنى الأوَّلَ أقوى؛ أنَّ الإماءَ يَلِدْنَ مَن يُكَونون أسيادًا ومالِكينَ، فهيَ كانت مَملوكةً في الأوَّلِ، وتَلِدُ مَن يُكونون أسيادًا مالِكينَ، وهو كِنايةٌ عَن تَغَيُّرِ الحالِ بسُرعةٍ، ويَدُلُّ لهذا ما ذَكرَه بَعدُ؛ حَيثُ قال:
((وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ )) [2064] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 55). .