الْمَبحَثُ التَّاسِعَ عَشَرَ: تَطاوُلُ الحُفاةِ العُراةِ رُعاةِ الشَّاةِ في البُنيانِ
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ
جِبريل عليه السَّلامُ سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال مَتى السَّاعةُ؟ قال
((ما الْمَسؤولُ عَنها بأعلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وسَأخبِرُكَ عَن أشراطِها: إذا ولَدَت الأمَةُ رَبَّها، وإذا تَطاوَلَ رُعاةُ الإبلِ البُهْم في البُنيانِ، في خَمسٍ لا يَعلمُهُنَّ إلَّا اللهُ )). ثُمَّ تَلا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآيةُ
[2065] أخرجه مُطَولًا البخاري (50) واللَّفظُ له، ومسلم (9). .
قال
الخَطَّابيُّ: (في قَولِه:
((إذا تَطاوَلَ رُعاةُ الإبلِ البُهم في البُنيانِ))، يُريدُ العَرَبَ الذينَ هم أربابُ الإبلِ ورُعاتُها. والبُهْمُ: جَمعُ البَهيمِ، وهو الْمَجهولُ الذي لا يُعرَفُ. ومِن هذا قيل: أبهَمَ الأمرُ وهو مُبهَمٌ، واستَبهم الشَّيءُ: إذا لَم تُعرَفْ حَقيقَتُه؛ ولِذلك قيلَ للدَّابةِ الَّتي لا شِيَةَ في لَونِها: بَهيمٌ)
[2066] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 182). .
وقال ابنُ بطَّالٍ: (إنَّما قَصَدَ عليه السَّلامُ بذلك: الخَبَرَ عَن أنَّ من أمارةِ قيامِ السَّاعةِ: ارتِفاعَ الأسافِلِ وغَيرِ ذَويِ الأخطارِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فأعلَمَ أنَّ مِنِ ارتِفاعِ مَن لا خَطَرَ لَه مِنَ النِّساءِ ولا قَدْرَ، يُحَوَّلُ بَناتُ الإماءِ بوِلادةِ أمَّهاتِهِنَّ لَهُنَّ من ساداتِهِن رَبَّاتٍ أمثالَ آبائِهِنَّ، ومِنِ ارتِفاعِ وُضَعاءِ الرِّجالِ ومَن لا خَطَرَ لَه مِنهم يُحَوَّلُ الذينَ كانوا حُفاةً عُراةً عالةً مِنَ الغَنَمِ رُعاةً، أهلَ الشَّرفِ في البُنيانِ مِنَ الغِنى وكَثرةِ الْمالِ من بَعدِ العَيلةِ والفاقةِ. وهذا نَظيرُ قَولِه عليه السَّلامُ:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَكونَ أسعَدَ النَّاسِ بالدُّنيا لُكَعُ بنُ لُكَع )) [2067] أخرجه الترمذي (2209)، وأحمد (23303) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2209)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23303). ، يَعنى العَبيدَ والسِّفْلةَ مِنَ النَّاسِ.
وقَولُه:
((الإبِلُ البُهمُ)) يَعنِى السُّودَ، وهُنَّ أدَوَنُ الإبلِ وشَرُّها؛ لأنَّ الكِرامَ مِنها الصُّفرُ والبِيضُ. ومَن رَوى
((البَهْم)) بفَتحِ الباءِ فهو خَطَأٌ، لأنَّ البَهمةَ لَيسَت من صِغارِ الإبلِ، وإنَّما البَهمةَ من ولَدِ الضَّأنِ والمَعزِ بَعدَ ما تولَدُ بعِشرينَ يَومًا، وجَمعُها بَهْمٌ)
[2068] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 115). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((وأن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطاوَلونَ في البُنيانِ )). الحُفاةُ: جَمعُ حافٍ، وهو الذي لا يَلبَسُ في رِجْلِه شَيئًا. والعُراةُ: جَمعٌ عارٍ، وهو الذي لا يَلبَسُ على جَسدِه ثوبًا. والعالةُ مُخفَّفة اللَّامِ: جَمعُ عائِلٍ، وهو الفَقيرُ، والعَيلةُ: الفَقرُ...وهَذِه الأوصافُ هيَ غالِبةٌ على أهلِ الباديةِ، وقَد وصَفَهم في حَديثِ أبي هُرَيرةَ بأنَّهم صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ
[2069] أخرجه مسلم (10) بلفظ: ((وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم)). ، ويَعني بذلك -والله تعالى أعلَمُ: أنَّهم جَهَلةٌ رَعاعٌ، لَم يَستَعمِلوا أسماعَهم ولا كلامَهم في عِلمٍ ولا في شَيءٍ من أمرِ دينِهم، وهذا نَحوُ قَولِه تعالى:
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أطلَقَ ذلك عليهم مَعَ أنَّهم كانت لَهم أسماعٌ وأبصارٌ، ولَكِنَّهم لَمَّا لَم تَحصُلْ لَهم ثَمَراتُ تِلكَ الإدراكاتِ، صاروا كأنَّهم عَدموا أصلَها، وقَد أوضَحَ هذا الْمَعنى قَولُه تعالى:
لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179] .
ومَقصودُ هذا الحَديثِ: الإخبارُ عَن تَبَدُّلِ الحالِ وتَغَيُّرِه بأن يَستَوليَ أهلُ الباديةِ الذينَ هَذِه صِفاتُهم على أهلِ الحاضِرةِ، ويَتَمَلَّكوا بالقَهرِ والغَلبةِ، فتَكثُرَ أموالُهم، وتَتَّسِعَ في حُطامِ الدُّنيا آمالُهم، فتَنصَرِفَ هِمَمُهم إلى تَشييدِ الْمَباني، وهَدْمِ الدِّينِ وشَريفِ الْمَعاني، وأنَّ ذلك إذا وُجِدَ كان من
أشراطِ السَّاعةِ.
ويُؤَيِّدُ هذا: ما ذُكِرَ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَكونَ أسعَدَ النَّاسِ بالدُّنيا لُكَعُ بنُ لُكَع )) [2070] أخرجه الترمذي (2209)، وأحمد (23303) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2209)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23303). ، وقَد شوهِدَ هذا كُلُّه عِيانًا، فكان ذلك على صِدقِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى قُربِ السَّاعةِ حُجَّةً وبُرهانًا... والرِّعاءُ: جَمعُ راعٍ، وأصلُ الرَّعيِ: الحِفظُ. والشَّاءُ: جَمعُ شاةٍ... وإنَّما خُصَّ رِعاءُ الشَّاءِ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم أضعَفُ أهلِ الباديةِ. والبَهْمُ بفَتحِ الباءِ: جَمعُ بهيمةٍ، وأصلُها: صِغارُ الضَّأنِ والمَعزِ، وقَد يَختَصُّ بالمَعزِ، وأصلُه مِنِ استَبْهَمَ عَنِ الكَلامِ، ومِنه البَهيمةُ. ووَقَعَ في
البُخاريِّ: رِعاءُ الإبلِ البُهْم بضَمِّ الباءِ، جَمعُ بهيم، وهو: الأسوَدُ الذي لا يُخالِطُه لَونٌ آخَرُ، وقُيِّدَت ميمُ البُهمِ بالكَسرِ والضَّمِّ، فمَن كَسَرَها جَعلَها صِفةً للإبلِ، ومَن رَفعَها جَعلَها صِفةً للرِّعاءِ، وقيلَ: مَعناه: لا شَيءَ لَهم...والأَولى أن يُحمَلَ على أنَّهم سُودُ الألوانِ؛ لأنَّ الأُدمَةَ غالِبةٌ على ألوانِهم، ورِوايةَ
مُسْلِمٍ في رِعاءِ البُهمِ من غَيرِ ذِكرِ الإبلِ أَولى؛ لأنَّها الأنسَبُ لمَساقِ الحَديثِ ولِمَقصودِه؛ فإنَّ مَقصودَه: أنَّ أضعَفَ أهلِ الباديةِ وهم رِعاءُ الشَّاءِ، سَيَنقَلِبُ بهم الحالُ إلى أن يَصيروا مُلوكًا مَعَ ضَعفِهم وبُعْدِهم عَن أسبابِ ذلك، وأمَّا أصحابُ الإبلِ فهمُ أهلُ الفَخرِ والخُيَلاءِ؛ فإنَّ الإبلَ عِزُّ أهلِها، ولِأنَّ أهلَ الإبلِ لَيسوا عالةً ولا فقراءَ غالِبًا)
[2071] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 149-151). .
وقال
النَّوَويُّ: (مَعناه: أنَّ أهلَ الباديةِ وأشباهَهم من أهلِ الحاجةِ والفاقةِ تُبسَطُ لَهم الدُّنيا حَتَّى يَتَباهون في البُنيانِ: واللهُ أعلَمُ)
[2072] يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/ 159). .
وقال المظهريُّ: (يَعني: من عَلاماتِ القيامةِ أن تَرى أهلَ الباديةِ مِمَّن لَيسَ لَهم لِباسٌ جَميلٌ ولا مَداسٌ، بَل كانوا رِعاءَ الإبلِ والشَّاءِ، يَتَوَطَّنونَ في البِلادِ، ويَتَّخِذونَ العَقارَ، ويَبنونَ الدُّورَ والقُصورَ الْمُرتَفِعةَ. وقيلَ: مَعناه أن يَصيرَ الفُقراءُ ورِعاءُ الشَّاءِ والإبِلِ مُلوكًا وأُمراءَ، فتَكونَ همَّتُهم قاصِرةً يَتَفاخَرونَ في رِفعةِ البُنيانِ، ومُلوكُ العَربِ لا يَلتَفِتونَ إلى طولِ البُنيانِ ولا يَتَفاخَرونَ به، بَل تَفاخُرُهم بالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ والفَصاحةِ، ولَيسَ من عادَتِهم أن يَجعَلوا من لَيسَ لَه أصلٌ شَريفٌ مَلِكًا أو أميرًا، بَل إنَّما يَجعَلونَ من لَه استِحقاقُ الإمارةِ والمُلْكِ مَلِكًا وأميرًا، وإذا وقَعَ الْمُلكُ والإمارةُ إلى مَن لَم يَكُن لَه أصلٌ شَريفٌ ولا استِحقاقٌ لَه للإمارةِ والحُكمِ، فقَد يَكونُ هذا من عَلاماتِ القيامةِ)
[2073] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (1/ 50). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (العَلامةُ الثَّانيةُ:
((أن تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ)). والمُرادُ بالعالةِ: الفُقراءُ، كقَولِه تعالى:
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 8] . وقَولُه:
((رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطاوَلونَ في البُنيانِ)) هَكَذا في حَديثِ عُمَرَ، والمُرادُ: أن أسافِلَ النَّاسِ يَصيرونَ رُؤساءَهم، وتَكثُرُ أموالُهم حَتَّى يَتَباهونَ بطولِ البُنيانِ وزَخرَفَتِه وإتقانِه... ومَضمونُ ما ذُكِرَ من
أشراطِ السَّاعةِ في هذا الحَديثِ يَرجِعُ إلى أنَّ الأمورَ تُوَسَّدُ إلى غَيرِ أهلِها، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَن سَألَه عَنِ السَّاعةِ:
((إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غَيرِ أهلِه فانتَظِرِ السَّاعةَ )) [2074] أخرجه البخاري (59) مُطَولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فإنَّه إذا صارَ الحُفاةُ العُراةُ رِعاءُ الشَّاءِ -وهم أهلُ الجَهْلِ والجَفاءِ- رُؤوسَ النَّاسِ، وأصحابَ الثَّروةِ والأموالِ، حَتَّى يَتَطاوَلوا في البُنيانِ، فإنَّه يَفسُدُ بذلك نِظامُ الدِّينِ والدُّنيا، فإنَّه إذا كان رَأسُ النَّاسِ من كان فقيرًا عائِلًا، فصارَ مَلِكًا على النَّاسِ، سَواءٌ كان مُلكُه عامًّا أو خاصًّا في بَعضِ الأشياءِ، فإنَّه لا يَكادُ يُعطي النَّاسَ حُقوقَهم، بَل يَستَأثِرُ عليهم بما استَولى عليه مِنَ الْمالِ... وإذا صارَ مُلوكُ النَّاسِ ورُؤوسُهم على هَذِه الحالِ انعَكَسَت سائِرُ الأحوالِ، فصُدِّقَ الكاذِبُ، وكُذِّبَ الصَّادِقُ، وائتُمِنَ الخائِنُ، وخُوِّنَ الأمِينُ، وتَكَلَّمَ الجاهِلُ، وسَكتَ العالِمُ، أو عَدمَ بالكُليةِ... وهذا كُلُّه مِنِ انقِلابِ الحَقائِقِ في آخِرِ الزَّمانِ وانعِكاسِ الأمورِ)
[2075] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 136-140). .
وقال
القَسطَلَّاني: (
((وإذا كان الحُفاةُ العُراةُ رُؤوسَ النَّاسِ)) إشارةٌ إلى استيلائِهم على الأمرِ وتَملُّكِهم البِلَادَ بالقَهرِ، والمَعنى: أنَّ الأذلَّةَ مِنَ النَّاسِ يَنقَلِبونَ أعزةَ مُلوكِ الأرضِ:
((فذاكَ من أشراطِها)) [2076] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (7/ 289). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (يَتَطاوَلونَ في البُنيانِ أيُّهم أعلى، ويَتَطاوَلونَ في البُنيانِ أيُّهم أحسَنُ، وهم في الأوَّلِ فُقَراءُ لا يَجِدونَ شَيئًا، لَكِن تَغَيَّرَ الحالُ بسُرعةٍ؛ ممَّا يَدُلُّ على قُربِ السَّاعةِ)
[2077] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 55). .
وقال أيضًا: (الإنسانُ إذا أنفَقَ على نَفسِه ما هو من ضَروريَّاتِ الحَياةِ فإنَّه يُؤْجَرُ على ذلك إذا أنفَقَه يَبتَغي به وَجْهَ الله عَزَّ وجَلَّ، لَكِنَّ الْمُفاخَرةَ والتَّطاوُلَ في البُنيانِ هو الذي لا خَيرَ فيه، بَل لَيسَ فيه إلَّا إضاعةُ الْمالِ)
[2078] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) (رقم اللقاء: 15). .