الْمَطْلَبُ السَّابِعُ: أقوالُ أهلِ العِلمِ في نُزولِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
1- قال
ابنُ بَطَّةَ: (ثُمَّ الإيمانُ بأنَّ عيسى بنَ مَريَم عليه السَّلامُ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ فيَكسِرُ الصَّليبَ ويَقتُلُ الخِنزيرَ وتَكونُ الدَّعوةُ واحِدةً)
[2828] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 241). .
2- قال
أبو عَمْرٍو الدَّاني: (إنَّ الإيمانَ واجِبٌ بما جاءَ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وثَبَت بالنَّقلِ الصَّحيحِ، وتَداوَلَ حَمْلَه الْمُسلِمونَ من ذِكرِ وعيدِ الآخِرةِ، وذِكرِ الطَّوامِّ، وأشراطِ السَّاعةِ، وعَلاماتِها، واقتِرابِها، فمِن ذلك:... نُزولُ عيسى عليه السَّلامُ، وكَسرُه الصَّليبَ، وقَتلُه الخِنزيرَ، والدَّجَّالُ، وتَقَعُ الأَمَنةُ في الأرضِ، وتَكونُ الدَّعوةُ للَّه رَبِّ العالَمينَ. وقال عَزَّ من قائِلٍ:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يَعني: قَبلَ مَوتِ عيسى عليه السَّلامُ إذا نَزَلَ، وقال:
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للسَّاعةِ، يَعني: عيسى عليه السَّلامُ)
[2829] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 243). .
3- قال عياضٌ: (نُزولُ عيسى الْمَسيحِ وقَتْلُه الدَّجَّالَ حَقٌّ صَحيحٌ عِندَ أهلِ السُّنةِ؛ لصَحيحِ الآثارِ الوارِدةِ في ذلك، ولِأنَّه لَم يَرِدْ ما يُبْطِلُه ويُضعِفُه، خِلافًا لبَعضِ
الْمُعتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، ومَن رَأى رَأيَهم من إنكارِ ذلك، وزَعْمِهم أنَّ قَولَ اللهِ تعالى عَن مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وقَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا نَبيَّ بَعْدِي)) [2830] أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي..)) ، وإجماعَ الْمُسْلِمينَ على ذلك، وعلى أنَّ شَريعةَ الإسلامِ باقيةٌ غَيرُ مَنسوخةٍ إلى يَومِ القيامةِ؛ يَرُدُّ هَذِه الأحاديثَ، ولَيسَ كما زَعموه؛ فإنَّه لَم يَرِد في هَذِه الأحاديثِ أنَّه يَأتى بنَسْخِ شَريعةٍ ولا تَجديدِ أمرِ نُبُوَّةٍ ورِسالةٍ، بَل جاءَت بأنَّه حَكَمٌ مُقْسِطٌ، يَجىءُ بما يَجَدِّدُ ما تَغَيَّرَ مِنَ الإسلامِ، وبِصَلاحِ الأمورِ والعَدْلِ، وكَسرِ الصَّليبِ، وقَتْلِ الخِنزيرِ)
[2831] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 492). .
4- قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَد تَضَمَّنت تِلكَ الأحاديثُ الْمُتَقَدِّمةُ أنَّ عيسى عليه السَّلامُ يَنزِلُ ويَقتُلُ الدَّجَّالَ، وهو مَذهَبُ أهلِ السُّنةِ، والذي دَلَّ عليه قَولُه تعالى:
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، والأحاديثُ الكَثيرةُ الصَّحيحةُ الْمُنتَشِرةُ، ولَيسَ في العَقلِ ما يُحيلُ ذلك ولا يَرُدُّه؛ فيَجِبُ الإيمانُ به والتَّصديقُ بكُلِّ ذلك، ولا يُبالَى بمَن خالَفَ في ذلك مِنَ الْمُبتَدِعةِ، ولا حُجَّةَ لَهم في اعتِمادِهم في نَفيِ ذلك على التَّمَسُّكِ بقَولِه:
وَخَاتَمَ النَّبَيِّينَ وبِما ورَدَ في السُّنةِ من أنَّه لا نَبيَّ بَعدَه ولا رَسولَ، ولا بإجماعِ الْمُسْلِمينَ على ذلك، ولا على أنَّ شَرعَنا لا يُنسَخُ. وهذا ثابِتٌ إلى يَومِ القيامةِ؛ لَأنَّا نَقولُ بموجِبِ ذلك كُلِّه؛ لأنَّ عيسى عليه السَّلامُ إنَّما يَنزِلُ لقَتْلِ الدَّجَّالِ، ولِإحياءِ شَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليَعمَلَ بأحكامِها، وليُقِيمَ العَدْلَ على مُقتَضاها، وليَقهَرَ الكُفَّارَ، وليُظهِرَ للنَّصارى ضَلالَتَهم، ويَتَبَرَّأ من إفكِهم، فيَقتُلُ الخِنزيرَ، ويَكسِرُ الصَّليبَ، ويَضَعُ الجِزْيةَ، ويَأتَمُّ بإمامِ هَذِه الأمَّةِ)
[2832] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 292). .
5- قال
النَّوَويُّ: (ثَبَت في الصَّحيحين أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَنزِلُ عيسى بنُ مَريَم مِنَ السَّماءِ، ويَقتُلُ الدَّجَّالَ ببابِ لُدٍّ)) [2833] أخرجه مسلم (2937) مُطَولًا. . وأحاديثُه في قِصَّةِ الدَّجَّالِ مَشهورةٌ في الصَّحيحِ، ويَنزِلُ عيسى حَكَمًا عَدَلًا -كما سَبَقَ في الحَديثِ الصَّحيحِ- لا رَسولًا، وأنَّه يُصلِّي وراءَ الإمامِ مِنَّا تَكرِمةً مِنَ الله تعالى لهَذِه الأمَّة)
[2834] يُنظر: ((تهذيب الأسماء واللغات)) (2/ 47). .
6- قال
ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَنا بنُزولِ عيسى بنِ مَريَمَ مِنَ السَّماءِ على الْمَنارةِ البَيضاءِ شَرقِيَّ دِمَشْقَ، وأخبَرَ أنَّه يَقتُلُ
الْمَسيحَ الدَّجَّالَ، فنَحنُ مَأمورون بالإيمانِ بالمَسيحِ ابنِ مَريَمَ وطاعَتِه إن أدرَكْناه، وإن كان لا يَأمُرُنا إلَّا بشَريعةِ مُحَمَّدٍ، ومَأمورون بتَكذيبِ
الْمَسيحِ الدَّجَّالِ)
[2835] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 452). .
7- قال
السُّيوطيُّ عَن نَبيِّ الله عيسى عليه السَّلامُ ونُزولِه: (قَولُ السَّائِلِ: بماذا يَحكُمُ في هَذِه الأمَّة بشَرعِ نَبَيِّنا أو بشَرعِه؟ جَوابُه: أنَّه يُحكُمُ بشَرعِ نَبِيِّنا لا بشَرعِه، نَصَّ على ذلك العُلَماءُ، ووَرَدَت به الأحاديثُ، وانعَقَدَ عليه الإجماعُ)
[2836] يُنظر: ((الحاوي للفتاوي)) (2/ 188). .
8- قال السَّفَّارينيُّ: (مِن عَلاماتِ السَّاعةِ العُظمى العَلامةُ الثَّالِثةُ أن يَنزِلَ مِنَ السَّماءِ السَّيِّدُ «الْمَسيحُ» عيسى بنُ مَريَمَ عليه السَّلامُ، ونُزولُه ثابِتٌ بالكِتابِ والسُّنةِ وإجماعِ الأمَّةِ، أمَّا الكِتابُ فقَولُه:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159] أي: ليُؤمِنَنَّ بعيسى قَبلَ مَوتِ عيسى، وذلك عِندَ نُزولِه مِنَ السَّماءِ آخِرَ الزَّمانِ حَتَّى تَكونَ الْمِلَّةُ واحِدةً، مِلَّة إبراهيمَ حَنيفًا مُسْلِمًا. ونُوزِعَ في الِاستِدلالِ بهَذِه الآيةِ الكَريمةِ، وأنَّ الضَّميرَ في قَولِه:
قَبْلَ مَوْتِهِ لِيَهودَ، ويُؤَيِّدُه قِراءةُ أُبَيٍّ رَضِيَ الله عَنه:
قَبْلَ مَوْتِهِمْ. وأمَّا السُّنةُ ففي الصَّحيحين وغَيرِهما عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نَفسي بيدِه لَيُوشِكَنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مَريَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فيَكسِرَ الصَّليبَ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجِزْيةَ )) الحديث
[2837] أخرجه مُطَولًا البخاري (3448) واللَّفظُ له، ومسلم (155). . وفي
مُسْلِمٍ عَنه:
((واللهِ ليَنزِلَنَّ ابنُ مَريَم حَكمًا عادِلًا فلْيَكسِرَنَّ الصَّليبَ)) [2838] أخرجه مسلم (155) مُطَولًا. بنحوه... وأمَّا الإجماعُ فقَد أجمَعَتِ الأمَّةُ على نُزولِه ولَم يُخالِفْ فيه أحَدٌ من أهلِ الشَّريعةِ، وإنَّما أنكَرَ ذلك الفَلاسِفةُ والمَلاحِدةُ مِمَّن لا يُعتَدُّ بخِلافِه، وقَدِ انعَقَدَ إجماعُ الأمَّة على أنَّه يَنزِلُ ويَحكُمُ بهَذِه الشَّريعةِ الْمُحَمَّديَّةِ، ولَيسَ يَنزِلُ بشَريعةٍ مُستَقِلَّةٍ عِندَ نُزولِه مِنَ السَّماءِ وإن كانتِ النُّبوةُ قائِمةً به وهو مُتَّصِفٌ بها)
[2839] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 94). .
9- قال الكَشْمِيريُّ: (لا بُدَّ مِنَ القيامةِ لتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما عَمِلَت، ومِن أشراطِها: خُروجُ يَأجوجَ ومَأجوجَ، فخُروجُهم في قُربِ القيامةِ. ومِن أشراطِها: نُزولُ عيسى عليه السَّلامُ قُبَيلَ ذلك بصَريحِ تَواتُرِ الأحاديثِ فيه)
[2840] يُنظر: ((فيض الباري على صحيح البخاري)) (4/ 361). .
10- قال
ابنُ بازٍ: (قَد تَواتَرَتِ الأحاديثُ عَن رَسولِ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإخبارِ عَن نُزولِ عيسى بنِ مَريَم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، يَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ في دِمشْقَ، وأنَّه يَتَوَجَّه إلى فلسطين بَعدَ نُزولِ الدَّجَّالِ، وأنَّه يَقتُلُه هناكَ في بابِ اللُّدِّ، والمُسلِمونَ مَعَه، وثَبَت عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّه يَأتي الْمُسْلِمينَ وهم قائِمونَ للصَّلاةِ، ويُريدُ أميرُهم أن يَتَأخَّرَ حَتَّى يُؤُمَّ النَّاسَ نَبيُّ الله عيسى عليه السَّلامُ، فيَأتي عيسى عليه السَّلامُ ويَقولُ: إنَّها أُقيمَت، فصَلِّ بهم)) [2841]أخرجه مسلم (156) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: ((لا تزُال طائفةٌ من أمتي يقاتِلونَ على الحقِّ ظاهرين إلى يومِ القيامةِ، قال: فيَنزِلُ عيسى ابن مريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيقولُ أميرهم: تعالَ صَلِّ لنا)). . وجاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ الجَيِّدةِ أنَّ أميرَهم ذاكَ الوَقتَ الْمَهديُّ... فيَقولُ لَه الْمَهديُّ: تقَدَّمْ يا رُوحَ اللهِ، فيَأتي ويَقولُ: صَلِّ أنتَ، لأنَّها أقيمَت لَكَ. ثُمَّ يَتَوَلَّى القيادةَ بَعدَ ذلك عيسى عليه السَّلامُ. ونُزولُه أمرٌ مُجمَعٌ عليه عِندَ أهلِ العِلمِ، وثابِتٌ بالنُّصوصِ الثَّابِتةِ عَن رَسولِ الله عليه الصَّلاةُ والسَّلامِ، وقَد تَواتَرَت به الأحاديثُ، ولَيسَ به شَكٌّ بحَمدِ الله، هو يَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ بَعدَ خُروجِ الدَّجَّالِ الكَذَّابِ، فيبَيِّنُ للنَّاسِ كَذِبَه وضَلالَه، ويَتَوَلَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قَتْلَه، وقَد أشارَ القُرآنُ إلى هذا بقَولِه جَلَّ وعلَا، لَمَّا ذَكَرَ عيسى قال:
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا أي: نُزولَه ومَجيئَه، وقَرَأ بَعضُ القُرَّاءِ: عَلَمٌ، بفَتحِ العين واللَّامِ، أي دَليلٌ على قُربِها، وقال جَلَّ وعلا في سورةِ النِّساءِ:
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، ثُمَّ قال بَعدَه:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يَعني: ما من أحَدٍ من أهلِ الكِتابِ وقت نُزولِه إلَّا يُؤمِنُ به قَبلَ مَوتِ عيسى عليه السَّلامُ، فيَكونُ الضَّميرُ في
مَوْتِهِ يَعودُ على عيسى، وقيلَ: يَعودُ على اليَهوديِّ أوِ النَّصرانيِّ، أنَّه قَبلَ موتِه يُؤمِنُ بنُزولِ عيسى عليه السَّلامُ، وبِكُلِّ حالٍ فالآيةُ تُشيرُ إلى ذلك، سَواءٌ قيلَ: إنَّه الضَّميرُ يَعودُ إلى الواحِدِ من أهلِ الكِتابِ، أنَّه يُؤمِنُ قَبلَ خُروجِ رُوحِه، أو مَعنى أنَّ عيسى عليه السَّلامُ إذا نَزلَ آمَنُ به أهلُ الكِتابِ ذلك الوَقتَ، قَبلَ أن يَموتَ عيسى عليه السَّلامُ، فإنَّه يَموتُ بَعدَ ذلك، يَمكُثُ في الأرضِ ما شاءَ اللهُ، ثُمَّ يَموتُ ويُصَلِّي عليه الْمُسلِمونَ ويَدفِنونَه، وجاءَ في بَعضِ الرِّواياتِ ما يَدُلُّ على أنَّه يُدفَنُ في الحُجرةِ النَّبَويَّةِ، ولَكِن في صِحَّةِ ذلك نَظَرٌ، وبِكُلِّ حالٍ فهو يَنزِلُ بلا شَكٍّ، ويَحكُمُ بشَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأرضِ، ويَتبَعُه الْمُسلِمونَ ويَفيضُ الْمالُ في وقتِه، وتَأمَنُ البِلادُ ويُسْلِمُ النَّاسُ كُلُّهم، فإنَّه لا يَقبَلُ مِنَ النَّاسِ إلَّا الإسلامَ أوِ السَّيفَ، يَكسِرُ الصَّليبَ ويَقتُلُ الخِنزيرَ، ويَضَعُ الجِزْيةَ، يَترُكُ الجِزْيةَ لا يَأخُذُها من أحَدٍ، وتَكونُ العِبادةُ لله وحدَه في زَمانِه، بسَبَبِ ما حَصَلَ به مِنَ الأمارةِ العَظيمةِ، والدَّلالةِ القاطِعةِ على قُربِ السَّاعةِ، فالنَّاسُ يُؤمِنونَ في زَمانِه، وهو يُجاهِدُهم بالسَّيفِ حَتَّى يَدخُلَ النَّاسُ في دينِ الله؛ فمِنهم مَن يَدخُلُ بسَبِ ظُهورِ أدِلَّةِ الحَقِّ، وصِدْقِ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أخبَرَ به، ومِنهم مَن يَكونُ إسلامُه على أثَرِ الجِهادِ الذي يَقومُ به عيسى عليه السَّلامُ والمُسلِمونَ.
والخُلاصةُ: أن نُزولَه حَقٌّ وثابِتٌ بإجماعِ الْمُسْلِمينَ، وأصلُه الأحاديثُ الْمُتَواتِرةُ القَطعيَّةُ بنُزولِه عليه السَّلامُ، وأشارَ القُرآنُ الكَريمُ إلى ذلك كما تَقَدَّمَ.
فالواجِبُ على جَميعِ الْمُسْلِمينَ الإيمانُ به، واعتِقادُ نُزولِه في آخِرِ الزَّمانِ، وأنَّه يَنزِلُ حَقيقةً، وأنَّه يَدعو إلى تَوحيدِ الله والإيمانِ به، وأنَّه يَعمَلُ بشَريعةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَحكم بها في الأرضِ، لأنَّه لا نَبيَّ بَعدَ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، يَنزِلُ تابِعًا لمُحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكِمًا بشَريعَتِه لا بشَريعةِ التَّوراةِ السَّابِقةِ، ولَكِن يَحكُمُ بشَريعةِ مُحَمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، يَحكُمُ بالقُرآنِ، هذا هو الذي أجمَعَ عليه أهلُ الإسلامِ، ودَلَّت عليه الأحاديثُ الصَّحيحةُ الْمُتَواتِرةُ، وأشارَ إليه القُرآنُ الكَريمُ.
فالواجِبُ على جَميعِ الْمُسْلِمينَ اعتِقادُ هذا، وعَدَمُ الِالتِفاتِ إلى ما قَد قاله بَعضُ الْمُتَأخِّرينَ من إنكارِ نُزولِه، وتَأويلِ ذلك بأنَّه يَظهَرُ خَيرٌ في آخِرِ الزَّمانِ، وأنَّه عَبَّرَ بهذا عَن ظُهورِ الخَيرِ، وأنَّه عَبَّرَ بالدَّجَّالِ عَن ظُهورِ الشَّرِّ، كُلُّ هَذِه أقوالٌ فاسِدةٌ وباطِلةٌ، ويُخشى على قائِلِها بالكُفرِ بالله عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّهم كَذَّبوا بأمرٍ واضِحٍ، جاءَت به السُّنةُ الصَّحيحةُ الْمُتَواتِرةُ، فلا يَجوزُ الِالتِفاتُ إلى ذلك، بَل يَجِبُ الإيمانُ والقَطْعُ؛ لأنَّ خُروجَ الدَّجَّالِ حَقٌّ في آخِرِ الزَّمانِ، وهو كَذَّابٌ من بني آدَمَ يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ، يَدَّعي أنَّه نَبيٌّ، ثُمَّ يَدَّعي أنَّه رَبُّ العالَمينَ، وهَكَذا يَنزِلُ عيسى في إثرِ ذلك، فيَقتُلُ هذا الدَّجَّالَ؛ لأنَّه إذا رَأى عيسى تَحَيَّرَ وتَوَقَّفَ، ويَكونُ إمامَ الْمُسْلِمينَ في زَمانِه، ويَأخُذُ بشَريعةِ الله، هذا هو الحَقُّ الذي لا ريبَ فيه، وأجمَعَ عليه أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمونَ بَعدَه. ومَعنى تَركِه الجِزْيةَ هو أنَّه لا يَقبَلُها مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الجِزْيةَ مُؤَقَّتةٌ في شَريعةِ مُحَمَّدٍ، يَعني مُؤَقَّتًا إلى نُزولِ عيسى عليه السَّلامُ، فإذا نَزَلَ عيسى فلا تُقبَلُ، هذا شَرعٌ من شَرعِ الله عَزَّ وجَلَّ، بيَّنَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأحاديثِ الصَّحيحةِ، بأنَّ عيسى لا يَقبَلُها؛ لأنَّه انتَهى أمرُها، ولَيسَ هناكَ حاجةٌ إليها، بَل يَجِبُ على من بُلِّغَ أن يُسلِمَ، ويَترُكَ التَّمَرُّدَ عَنِ الإسلامِ، والتَّشَبُّثَ باليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ، وعلى عيسى عليه السَّلامُ أن يُقاتِلَ من أبى ذلك حَتَّى يَدخُلَ في دينِ اللهِ.
ويَظهَرُ من هذا أنَّ الخِنزيرَ مِنَ الحَيَواناتِ الَّتي يَنبَغي إتلافُها؛ لأنَّه مِنَ الْمُحَرَّماتِ في شَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِأنَّ بَقاءَه وسيلةٌ لأن يَأكُلَه اليَهودُ والنَّصارى أو غَيرُهم، وهو مُحرَّمٌ بنصِّ الكِتابِ العَزيزِ، وقَد يُستَفادُ من هذا الحَديثِ أنَّه يُقتَلُ بإتلافِه وإزالَتِه مِنَ الوُجودِ، وإنَّما ذَكرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِصَّةِ عيسى؛ ليُشيرَ على هذا الْمَعنى ويُفيدَه، ويُحتَمَلُ أن يُقالَ: إنَّه لا يُقتَلُ إلَّا بَعدَ نُزولِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّه ذُكِرَ في قِصَّةِ عيسى ونُزولِه، فيَكونُ قَتلُه مُؤَجَّلًا، كما أنَّ وضعَ الجِزْيةِ مُؤَجَّلٌ إلى نُزولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، هذا مَحَلُّ احتِمالٍ، ويَحتاجُ إلى مَزيدِ بَحثٍ وعِنايةٍ من جِهةِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ؛ فإنَّه لَيسَ كُلُّ ما حُرِّمَ يُقتَلُ، الكَلبُ مُحرَّمٌ ولا يُقتَلُ، إلَّا إذا آذى بالعَقرِ أو غَيرِه، والهِرُّ مُحرَّمُ الأكلِ، ومَعَ هذا لا يُقتَلُ إلَّا إذا آذى، والحُمُرُ مُحَرَّمةُ الأكلِ ولا تُقتَلُ، وهَكَذا الخِنزيرُ مُحرَّمُ الأكلِ، ولا يَلزَمُ من تَحريمِه أن يُقتَلَ، إلَّا إذا اعتَمَدَ على هذا الحَديثِ، ولَم يَكُن لَه مُعارِضٌ، وهو قَتَلُ عيسى للخِنزيرِ، هذا مَحَلُّ نَظَرٍ ومَحَلُّ احتِمالٍ، ويَحتاجُ إلى مَزيدِ بَحثٍ)
[2842] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 275-280). .
11- قال
ابنُ عُثَيمين: (نُزولُ عيسى بنِ مَريَم ثابِتٌ بالكِتابِ والسُّنةِ وإجماعِ الْمُسْلِمينَ. قال اللهُ تعالى:
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: 159] . أي: مَوتِ عيسى، وهذا حينَ نُزولِه، كما فسَّرَه أبو هُرَيرةَ بذلك. وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (واللهِ ليَنزِلَنَّ عيسى بنُ مَريَم حَكَمًا وعَدْلًا) الحَديثُ مُتَّفَقٌ عليه
[2843] أخرجه البخاري (3448)، ومسلم (155) مُطَولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. . وقَد أجمَعَ الْمُسلِمونَ على نُزولِه، فيَنزِلُ عِندَ الْمَنارةِ البَيضاءِ في شَرقِيَّ دِمَشْقَ واضِعًا كفَّيه على أجنِحةِ مَلَكينِ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ من ريحِ نَفَسِه إلَّا مات، ونَفَسُه يَنتَهي حَيثُ يَنتَهي طَرْفُه، فيَطلُبُ الدَّجَّالَ حَتَّى يُدركَه ببابِ لُدٍّ فيَقتُلَه، ويَكسِرَ الصَّليبَ ويَضَعَ الجِزْيةَ، وتَكونُ السَّجدةُ واحِدةً للَّه رَبِّ العالَمينَ، ويَحُجُّ ويَعتَمِرُ، كُلُّ هذا ثابِتٌ في صَحيحِ
مُسْلِمٍ، وبَعضُه في الصَّحيحينِ كِلَيهما. ورَوى
الإمامُ أحمَدُ و
أبو داوُدَ:
((أنَّ عيسى يَبقى بَعدَ قَتْلِ الدَّجَّالِ أربَعينَ سَنةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى ويُصَلي عليه الْمُسلِمونَ )) [2844] أخرجه أبو داود (4324)، وأحمد (9270) مُطَولًا باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6821)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4324)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4324) وقال: دون قوله: "فيُصَلِّي عليه المسلمون"، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (4163)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/601)، وجَوَّد إسناده وقوَّاه ابن كثير في ((نهاية البداية والنهاية)) (1/171)، وقال الطبري في ((التفسير)) (3/373): متواتر. [2845] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 106). .