الفَرعُ الأوَّلُ: بناءُ السَّدِّ وصِفَتُه
قال اللهُ تعالى عن ذي القَرنَينِ:
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ من دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف: 93-96] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي: لاستِعجامِ كلامِهم وبُعْدِهم عَنِ النَّاسِ.
قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [الكهف: 94] قال ابنُ جُرَيجٍ عَن عَطاءٍ، عَنِ
ابنِ عَباسٍ: أجرًا عَظيمًا، يَعني أنَّهم أرادوا أن يَجمَعوا لَه من بينهم مالًا يُعطونَه إيَّاه، حَتَّى يَجعَلَ بينَهم وبينَهم سَدًّا، فقال ذو القَرنين بعِفَّةٍ وديانةٍ وصَلاحٍ وقَصدٍ للخَيرِ:
مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي: إنَّ الذي أعطاني اللهُ مِنَ الْمُلكِ والتَّمكينِ خَيرٌ لي مِنَ الذي تَجمَعونَه، كما قال سُلَيمانُ عليه السَّلامُ:
أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36] وهَكَذا قال ذو القَرنين: الذي أنا فيه خَيرٌ مِنَ الذي تَبذُلونَه، ولَكِن ساعِدوني
بِقُوَّةٍ أي: بعَملِكم وآلاتِ البِناءِ،
أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ والزُّبَرُ: جَمعُ زُبْرةٍ، وهيَ القِطعةُ مِنه، قاله
ابنُ عَبَّاس، ومَجاهِدٌ، وقَتادةُ. وهيَ كاللَّبِنةِ...
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَينِ أي: وضعَ بَعضَه على بَعضٍ مِنَ الأساسِ حَتَّى إذا حاذى به رُءوسَ الجَبَلين طُولًا وعَرْضًا...
قَالَ انْفُخُوا أي: أجَّجَ عليه النَّارَ حَتَّى صارَ كُلُّه نارًا،
قَالَ آتُونِي أُفْرِغُ عَلَيْهِ قِطْرًا قال
ابنُ عَباسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكرِمةُ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ: هو النُّحاسُ. وزادَ بَعضُهم: الْمُذابُ. ويُستَشهَدُ بقَولِه تعالى:
وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبإ: 12]؛ ولِهذا يُشَبَّهُ بالبَردِ الْمُحبرِ...ثُمَّ قال اللهُ تعالى:
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا يَقولُ تعالى مُخبِرًا عَن يَأجوجَ ومَأجوجَ أنَّهم ما قَدَروا على أن يَصعَدوا فوقَ هذا السَّدِّ، ولا قَدَروا على نَقبِه من أسفَلِه، ولَمَّا كان الظُّهورُ عليه أسهَلَ من نَقْبِه قابَلَ كُلًّا بما يُناسِبُه فقال:
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، وهذا دَليلٌ على أنَّهم لَم يَقدِروا على نَقبِه، ولا على شَيءٍ مِنه)
[2854] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 195-197). .
وقال
السَّعْديُّ: (
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال الْمُفَسِّرونَ: ذَهَبَ مُتَوَجِّهًا مِنَ الْمَشرِقِ، قاصِدًا للشَّمالِ، فوَصَلَ إلى ما بينَ السَّدَّينِ، وهما سَدَّانِ كانا سَلاسِلَ جِبالٍ، مَعروفينِ في ذلك الزَّمانِ، سَدًّا بينَ يَأجوجَ ومَأجوجَ وبينَ النَّاسِ...
مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي: ممَّا تَبذُلونَ لي وتُعْطوني، وإنَّما أَطلُبُ مِنكم أن تُعِينوني بقوَّةٍ مِنكم بأيديكم
أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أي: مانِعًا من عُبورِهم عليكم.
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي: قِطَعَ الحَديدِ، فأعطَوه ذلك.
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أيِ: الجَبَلين اللَّذين بُني بينَهما السَّدُّ
قَالَ انْفُخُوا النَّارَ أي: أوقِدوها إيقادًا عَظيمًا، واستَعمِلوا لَها الْمَنافيخَ لتَشتَدَّ، فتُذيبَ النُّحاسَ، فلَمَّا ذابَ النُّحاسُ الذي يُريدُ أن يُلصِقَه بينَ زُبَرِ الحَديدِ
قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا أي: نُحاسًا مُذَابًا، فأفرَغَ عليه القِطْرَ، فاستَحكم السَّدُّ استِحكامًا هائِلًا وامتَنَعَ به مَن وراءَه من النَّاسِ، من ضَرَرِ يَأجوجَ ومَأجوجَ.
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أي: فما لَهم استِطاعةٌ، ولا قُدرةٌ على الصُّعودِ عليه لارتِفاعِه، ولا على نَقْبِه لإحكامِه وقوَّتِه)
[2855] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 486). .