المَطلَبُ السَّادِسُ: شفاعةُ المُؤمِنينَ بَعضِهم لبَعضٍ
الصَّالِحونُ من المُؤمِنينَ يَشفَعونَ في إخراجِ المُؤمِنينَ الذينَ دَخَلوا النَّارَ تَطهيرًا لهم.
ومنَ الأدِلَّةِ على شفاعتِهم:
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((... فما أنتم بأشَدَّ لي مُناشَدةً في الحَقِّ قد تَبَيَّنَ لَكم من المُؤمِنِ يَومَئِذٍ للجَبَّارِ، وإذا رَأوا أنَّهم قد نَجَوا في إخوانِهم، يَقولونَ: رَبَّنا إخوانُنا كانوا يُصَلُّونَ مَعنا، ويَصومونَ مَعنا، ويَعمَلونَ مَعنا، فيَقولُ الله تعالى: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ دينارٍ من إيمانٍ فأخرِجوه، ويُحرِّمُ اللهُ صُوَرَهم على النَّارِ، فيَأتونَهم وبَعضُهم قد غابَ في النَّارِ إلى قَدَمِه، وإلى أنصافِ ساقَيه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا، ثُمَّ يَعودونَ، فيَقولُ: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ نِصفِ دينارٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا، ثُمَّ يَعودونَ، فيَقولُ: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ من إيمانٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا. قال أبو سَعيدٍ: فإن لَم تُصدِّقوني فاقرَؤوا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فيَشفَعُ النَّبيونُ، والمَلائِكةُ، والمُؤمِنونَ، فيَقولُ الجَبَّارُ: بَقِيَت شفاعتي)) [3488] أخرجه مطولًا البخاري (7439) واللَّفظُ له، ومسلم (183) باختلافٍ يسيرٍ. .
قال ابنُ بطالٍ: (قَولُه:
((فما أنتم بأشَدَّ لي مُناشَدةً في الحَقِّ قد تَبَيَّنَ لَكم من المُؤمِنِ يَومَئِذٍ للجَبَّارِ، فإذا رأَوا أنَّهم قد نَجَوا في إخوانِهم)) يُريدُ أنَّ المُؤمِنينَ إذا نَجوا من الصِّراطِ يُناشِدونَ اللهَ في إخوانِهم ويَشفَعونَ فيهم، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ:
((اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ نِصفِ دينارٍ... إلى مِثقالِ ذَرَّةٍ من إيمانٍ فأخرِجوه، فيُخرِجونَ من عَرَفوا من النَّارِ))، وفي هذا إثباتُ شفاعةِ المُؤمِنينَ بَعضِهم لبَعضٍ)
[3489] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 467). .
وقال الكَرمانيُّ: (قَولُه
مُناشَدةً أي مُطالَبةً و
قد تَبَيَّنَ جُملةٌ حاليَّةٌ و
مِنَ المُؤمِنِ صِلةُ أشَدَّ، و
للجَبَّارِ و
في إخوانِهم كِلاهما مُتَعَلِّقٌ بمُناشَدة مُقَدَّرة، أي: ليس طَلَبُكم في الدُّنيا في شَأنِ حَقٍّ يَكونُ ظاهرًا لَكم أشَدَّ من طَلَبِ المُؤمِنينَ من الله في الآخِرةِ في شَأنِ نَجاةِ إخوانِهم من النَّارِ، والغَرَضُ شِدَّةُ اعتِناءِ المُؤمِنينَ بالشَّفاعةِ لإخوانِهم)
[3490] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (25/ 149). .
2- عن الصُّنَابِحيِّ عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ أنَّه قال: دَخَلتُ عليه وهو في المَوتِ فبَكَيتُ، فقال: مَهلًا لمَ تَبكي؟! فواللهِ لَئِنِ استُشهِدْتُ لأشهَدَنَّ لَك ولَئِن شُفِّعْتُ لأشفَعنَّ لَك، ولَئِنِ استَطَعتُ لأنفَعَنَّك، ثُمَّ قال: واللهِ ما من حَديثٍ سَمِعْتُه من رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَكم فيه خَيرٌ إلَّا حَدَّثتُكموه إلَّا حَديثًا واحِدًا، وسَوفَ أحدِّثُكموه اليَومَ وقد أحيطَ بنَفسي: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((من شَهدِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، حَرَّمَ اللهُ عليه النَّارَ )) [3491] أخرجه مسلم (29). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ في ذلك:1- قال
البَربَهاريُّ: (ما من نَبيٍّ إلَّا له شفاعةٌ، وكَذلك الصِّدِّيقونُ والشُّهداءُ والصَّالِحونُ)
[3492] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 46). .
2- قال
أبو عَمْرو الدَّاني: (مِن قَولِهم أي أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ الله يُشفِّعُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأهلَ بيتِه وصَحابَتَه، ومَن يَشاءُ من صالِحِ عِبادِه، في عُصاةِ أهلِ مِلَّتِه)
[3493] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 209-211). .
3- قال
ابنُ قُدامةَ: (لسائِرِ الأنبياءِ والمُؤمِنينَ والمَلائِكةِ شفاعاتٌ)
[3494] يُنظر: ((لمعة الاعتقاد)) (ص: 33). .
4- قال ابنُ أبي العِزِّ في ذِكرِ شفاعاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (النَّوعُ الثَّامِنُ: شفاعتُه في أهلِ الكَبائِرِ من أمَّتِه مِمَّن دَخلَ النَّارَ، فيَخرُجونَ منها، وقد تَواتَرَت بهذا النَّوعِ الأحاديثُ... وهذه الشَّفاعةُ تُشارِكُه فيها المَلائِكةُ والنَّبيونُ والمُؤمِنونَ أيضًا)
[3495] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 290). .
5- قال السَّفارينيُّ: (الحاصِلُ أنَّه يَجِبُ أن يُعتَقَدَ أنَّ غَيرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من سائِرِ الرُّسُلِ والأنبياءِ والمَلائِكةِ والصَّحابةِ، والشُّهداءِ والصِّدِّيقينَ والأولياءِ على اختِلافِ مَراتِبِهم ومَقاماتِهم عِندَ رَبهم يَشفَعونَ، وبِقَدرِ جاههم ووَجاهَتِهم يَشفَعونَ؛ لثُبوتِ الأخبارِ بذلك، وتَرادُفِ الآثارِ على ذلك، وهو أمرٌ جائِزٌ غَيرُ مُستَحيلٍ؛ فيَجِبُ تَصديقُه والقَولُ بموجَبِه؛ لثُبوتِ الدَّليلِ)
[3496] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 209). .
6- قال
مُحَمَّدُ بن عَبدِ الوَهابِ: (إنَّ الشَّفاعةَ أعطِيَها غَيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فصحَّ أنَّ المَلائِكةَ يَشفَعونَ والأولياءَ يَشفَعونَ)
[3497] يُنظر: ((كشف الشبهات)) (ص: 25). .
7-قال ابنُ قاسِمٍ: (يَجِبُ أن يُعتَقَدَ أنَّ غَيرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من سائِرِ الرُّسُلِ والأنبياءِ والمَلائِكةِ والصَّحابةِ والعُلَماءِ، والشُّهداءِ والصَّالِحينَ والصِّدِّيقينَ والأولياءِ، والأفراطِ وغَيرِهم: يَشفَعونَ عِندَ الله بإذْنِه، لِمَن رَضِيَ قَولَه وعَمَلَه، كما ثَبَتَت بذلك الأخبارُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأجمَعَ عليه المُسلِمونَ)
[3498] يُنظر: ((حاشية الدرة المضية)) (ص: 92). .
8- جاءَ في فتاوى اللَّجْنةِ الدَّائِمةِ: (شفاعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفاعةُ الصَّالِحينَ يَومَ القيامةِ ثابِتةٌ في القُرآنِ، وقد ورَدَتْ فيها أحاديثُ صَحيحةٌ تُفَسِّرُ ما جاءَ في القُرآنِ)
[3499] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى)) (3/ 472). .
9- قال
ابنُ عُثَيمين: (الشَّفاعةُ العامَّةُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولِجَميعِ المُؤمِنينَ، وهيَ أنواعٌ:
النَّوعُ الأوَّلُ: الشَّفاعةُ فيمَنِ استَحَقَّ النَّارُ ألَّا يَدخُلَها...
النَّوعُ الثَّاني: الشَّفاعةُ فيمَن دَخلَ النَّارَ أن يَخرُجَ منها، وقد تَواتَرَت بها الأحاديثُ وأجمَعتْ عليها الصَّحابةُ...
النَّوعُ الثَّالِثُ: الشَّفاعةُ في رَفعِ دَرَجاتِ المُؤمِنينَ، وهذه تُؤخَذُ من دِعاءِ المُؤمِنينَ بَعضِهم لبَعضٍ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أبي سَلَمةَ:
((اللهُمَّ اغفِرْ لأبي سَلَمةَ، وارفَع دَرَجَتَه في المَهديِّينَ، وأفسِحَ له في قَبرِه، ونوِّرْ له فيه، واخلُفْه في عَقِبِه )) [3500] أخرجه مسلم (920) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أم سلمة رَضِيَ اللهُ عنها. ، والدُّعاءُ شفاعةٌ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما من مُسلِمٍ يَموتُ فيَقومُ على جَنازَتِه أربَعونَ رَجُلًا لا يُشرِكونَ بالله شَيئًا، إلَّا شَفَّعَهمُ اللهُ فيه )) [3501] أخرجه مسلم (948) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما. [3502] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 333). .