الفَصلُ الثَّامنُ: العَرضُ على اللهِ عزَّ وجَلَّ في مَوقِفِ فَصلِ القَضاءِ
قال
الطَّحاويُّ: (نُؤمِنُ بالبَعثِ وجَزاءِ الأعمالِ يَومَ القيامةِ، والعَرضِ والحِسابِ وقِراءةِ الكِتابِ، والثَّوابِ والعِقابِ، والصِّراطِ والميزانِ)
[3557] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 72). .
قال ابنُ أبي العِزِّ شارِحًا ذلك: (قَولُه: والعَرضِ والحِسابِ وقِراءةِ الكِتابِ، والثَّوابِ والعِقابِ. قال تعالى:
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة: 15 - 18] إلى آخِرِ السُّورةِ)
[3558] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 600-602). .
والعَرضُ يَومَ القيامةِ على ثَلاثةِ أنواعٍ:النَّوعُ الأوَّلُ: عَرضٌ عامٌّ لجَميعِ الخَلائِقِ بَرِّهم وفاجِرِهم أمامَ اللهِ تعالى.ومن أدَلَّتِه قَولُ اللهِ تعالى:
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا [الكهف: 48] يَقولُ عَزَّ ذِكرُه: وعُرِضَ الخَلقُ على رَبِّكَ يا مُحَمَّدُ صَفًّا
لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] يَقولُ عَزَّ ذِكرُه: يُقالُ لهم إذ عُرِضوا على اللهِ: لَقد جِئْتُمونا أيُّها النَّاسُ أحياءً كهيئَتِكم حينَ خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ)
[3559] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 283). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا انتِصابُ صَفًّا على الحالِ، أي: مَصفوفينَ كُلُّ أمَّةٍ وزُمرةٍ صَفًّا، وقيلَ: عُرِضوا صَفًّا واحِدًا، كما في قَولِه:
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: جَميعًا، وقيلَ: قيامًا. وفي الآيةِ تَشبيهُ حالِهم بحالِ الجَيشِ الذي يُعرَضُ على السُّلطانِ)
[3560] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/ 346). .
النَّوعُ الثَّاني: عَرضٌ خاصٌّ بالمُؤمِنينَ وهو الحِسابُ اليَسيرُ.عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَ))، قالت: قُلتُ: أليسَ يَقولُ الله تعالى:
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8 ]؟ قال:
((ذلكِ العَرضُ)) [3561] أخرجه البخاري (6536) واللَّفظُ له، ومسلم (2876). .
قال
البَغَويُّ: (قَولُه:
((مَن نوقِشَ الحِسابَ يَهْلِك )) فالمُناقَشةُ: الِاستِقصاءُ في الحِسابِ حَتَّى لا يُترَكَ منه شَيءٌ، يُقالُ: انتَقَشتُ منه جَميعَ حَقِّي، ومنه نَقشُ الشَّوكةِ من الرِّجْلِ، وهو استِخراجُها منه)
[3562] يُنظر: ((شرح السنة)) (15/ 132). .
وقال
القسطَلانيُّ: ( «قالت»
عائِشةُ «قُلتُ» يا رَسولَ اللهِ: «أليسَ يَقولُ الله تعالى:
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا»
[الانشقاق: 8] أي: سَهلًا هيِّنًا بأن يُجازِيَ على الحَسَناتِ ويَتَجاوَزَ عن السَّيِّئاتِ «قال» صلَّى اللهُ عليه وسلَّم «ذلكِ» بكِسرِ الكافِ وتُفتَحُ، أي: الحِسابُ المَذكورُ في الآيةِ «العَرضُ» أي: عَرضُ أعمالِ المُؤمِنِ عليه حَتَّى يَعرِفَ مِنَّةَ اللهِ عليه في سَترِها عليه في الدُّنيا وفي عَفْوه عنها في الآخِرةِ)
[3563] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (9/ 312). .
وعن صَفوانَ بنِ محرزٍ المازِنيِّ قال: بينَما أنا أمشي مَعَ
ابنِ عُمرَ رَضِيَ الله عنهما آخِذٌ بيَدِه، إذ عَرضَ رَجُلٌ فقال: كيفَ سَمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّجوى؟ فقال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إنَّ اللهَ يُدْني المُؤمِنَ فيَضَعُ عليه كَنَفَه، ويَستُرُه فيَقولُ: أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ فيَقولُ: نَعَم أيْ رَبِّ. حَتَّى إذا قَرَّرَه بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أنَّه هَلَك قال: سَتَرتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لَك اليَومَ، فيُعطى كِتابَ حَسَناتِه، وأمَّا الكافِرُ والمُنافِقونَ، فيَقولُ الأشهادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) [هود: 18] [3564] أخرجه البخاري (2441) واللَّفظُ له، ومسلم (2768). .
قال المهلَّبُ: (في هذا الحَديثِ عَظيمُ تَفَضُّلِ اللهِ على عِبادِه المُؤمِنينَ وسَتْرِه لذُنوبِهم يَومَ القيامةِ، وأنَّه يَغفِرُ ذُنوبَ من شاءَ منهم بخِلافِ قَولِ من أنفَذَ الوَعيدَ على أهلِ الإيمانِ؛ لأنَّه لَم يَستَثنِ في هذا الحَديثِ عليه السَّلامُ مِمَّن يَضَعُ عليه كنَفَه وسِتْرَه أحَدًا إلَّا الكُفَّارَ والمُنافِقينَ، فإنَّهم الذينَ يُنادى عليهم على رُؤوسِ الأشهادِ باللَّعنةِ لهم)
[3565] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (6/ 570). .
وقال الكَرْمانيُّ: (قَولُه: «النَّجوى» أي: الذي يَقَعُ بينَ اللهِ وبينَ عَبدِه المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ، وهو فضلٌ من الله يَومَ القيامةِ حَيثُ يَذكُرُ المَعاصيَ للعَبدِ سِرًّا)
[3566] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) (11/ 16). .
وقال
العَينيُّ: (إنَّما أطلَقَ النَّجوى لمُخاطَبةِ الكُفَّارِ على رُؤوسِ الأشهادِ)
[3567] يُنظر: ((عمدة القاري)) (18/ 295). .
وقال
ابنُ المُلقِّنِ: (هذا الحَديثُ يُبَيِّنُ أنَّ قَولَه تعالى:
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] أنَّ السُّؤالَ عن النَّعيمِ الحَلالِ إنَّما هو سُؤالُ تَقريرٍ وتَوقيفٍ له على نِعَمِه التي أنعَمَ بها عليه، ألا تَرى أنَّه تعالى يوقِفُه على ذُنوبِه التي عَصاه فيها ثُمَّ يَغفِرُها له، وإذا كان ذلك فسُؤالُه تعالى عِبادَه عن النَّعيمِ الحَلالِ أَولى أن يَكونَ سُؤالَ تَقريرٍ، لا سُؤالَ حِسابٍ وانتِقامٍ)
[3568]يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (15/ 574). .
النَّوعُ الثَّالِثُ: عَرضٌ خاصٌّ بالكُفَّارِ والمُنافِقينَ، وهو المُناقَشةُ، وهو عَرضُ فضيحةٍ على رُؤوسِ الأشهادِ، لا سَتْرَ فيه ولا مَغفِرةَ.وقد دلَّ على هذا قولُ اللهِ تعالى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] .
قال
السَّمعانيُّ: (مَعناه: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّنِ افتَرى على اللهِ كذِبًا، ثُمَّ قال:
أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ العَرضُ: هو إظهارُ الشَّيءِ ليُرى ويُوقَفَ على حالِه، ومنه قَولُهم: عَرضَ السُّلطانُ الجُندَ. وقَولُه:
وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ اختَلَفَ القَولُ في الأشهادِ، رُوِيَ عن
ابنِ عَباسٍ أنَّه قال: همُ الأنبياءُ والمُرَسَلونُ. وقال مَجاهدٌ: همُ المَلائِكةُ. وقال بَعضُهم: الخَلائِقُ كُلُّهم)
[3569] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/ 420). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (يُبَيِّنُ تعالى حالَ المُفتَرينَ عليه وفَضيحَتَهم في الدَّارِ الآخِرةِ على رُءوسِ الخَلائِقِ من المَلائِكةِ، والرُّسُلِ، والأنبياءِ، وسائِرِ البَشَرِ والجانِّ)
[3570] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 313). .
وقال
السَّعديُّ: (يُخبِرُ تعالى أنَّه لا أحَدَ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ويَدخُلُ في هذا كُلُّ من كذَبَ على اللهِ بنِسبةِ الشَّريكِ له، أو وصفِه بما لا يَليقُ بجَلالِه، أوِ الإخبارِ عنه بما لَم يَقُلْ، أوِ ادِّعاءِ النُّبوَّةِ، أو غَيرِ ذلك من الكَذبِ على الله؛ فهؤلاء أعظَمُ النَّاسِ ظُلمًا
أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ليُجازيَهم بظُلمِهم، فعِندَما يَحكمُ عليهم بالعِقابِ الشَّديدِ
يَقُولُ الأَشْهَادُ أي: الذينَ شَهِدوا عليهم بافتِرائِهم وكَذِبِهم:
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي: لَعنةٌ لا تَنقَطِعُ؛ لأنَّ ظُلمَهم صارَ وصفًا لهم مُلازِمًا، لا يَقبَلُ التَّخفيفَ)
[3571] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 379). .