المَطلَبُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ على ثُبوتِ الحِسابِ يَومَ القيامةِ
1- عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن حُوسِبَ يَومَ القيامةِ عُذِّبَ)). فقُلتُ: أليسَ قد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الِانشِقاقُ: 8] فقال:
((ليس ذاكِ الحِسابُ، إنَّما ذاكِ العَرضُ، من نوقِشَ الحِسابَ يَومَ القيامةِ عُذِّبَ)) [3627] أخرجه البخاري (103)، ومسلم (2876) واللَّفظُ له .
قال الحليميُّ: (قيلَ في مَعنى العَرضِ: هو أن يَقرَأَ كِتابَه ليَقرَأَه ويَعرِفَ ما كان منه من حَسَنةٍ وسيئةٍ، ثُمَّ يَتَجاوَزُ عن سَيِّئاتِه من غَيرِ أن يُقالَ: لَم فعَلْتَ هذا، ولَم تَرَكتَ هذا. فيُسألُ عن الحُجَّةِ إذا سُئِلَ عنها لَم يَجِدْها، فكان العَذابُ يَحِقُّ عليه. ومُناقَشةُ الحِسابِ أن يَقولَ: هَلَّا فعَلتَ هذا؟ أم هَلَّا تَرَكتَ هذا؟ ولمَ تَرَكتَ هذا؟ ويُطالَبُ بالحُجَّةِ، فإذا لَم يَجِدْها عُذِّبَ. واللهُ أعلَمُ)
[3628] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 384). .
2- عن
عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((عُرِضَتْ عليَّ الأمَمُ، فرَأيتُ النَّبيَّ ومَعَه الرُّهَيطُ، والنَّبيَّ ومَعَه الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنَّبيَّ ليس مَعَه أحَدٌ؛ إذ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظيمٌ فظَنَنتُ أنَّهم أمَّتي، فقيلٌ لي: هذا موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقومُه، ولَكِنِ انظُر إلى الأفُقِ. فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ عَظيمٌ فقيلَ لي: انظُر إلى الأفُقِ الآخَرِ، فإذا سَوادٌ عَظيمٌ، فقيلٌ لي: هذه أمَّتُك ومَعَهم سَبعونَ ألفًا يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، ثُمَّ نَهَضَ فدَخَلَ مَنزِلَه، فخاضَ النَّاسُ في أولَئِك الذينَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، فقالَ بَعضُهم: فلَعَلَّهمُ الذينَ صَحِبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقال بَعضُهم: فلَعَلَّهمُ الذينَ وُلِدُوا في الإسلامِ ولَم يُشرِكوا باللهِ، وذَكَروا أشياءَ، فخرَجَ عليهم رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الذي تَخوضونَ فيه؟ فأخبروه، فقالٌ: همُ الذينَ لا يَرْقُونَ ولا يَستَرْقُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ، وعلى رَبِّهم يَتَوَكَّلونَ )). فقامُ عُكَّاشةُ بنُ محصَنٍ فقالَ: ادْعُ اللهَ أن يَجعَلَني منهم. فقال:
((أنتَ منهم))، ثُمَّ قامَ رَجُلٌ آخَرُ، فقال: ادْعُ اللهَ أن يَجعَلَني منهم. فقال:
((سَبَقَك بها عُكَّاشةُ)) [3629] أخرجه البخاري (6541)، ومسلم (220) واللَّفظُ له. .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (قَولُه:
((بغَيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ)): أي: لا يُعذَّبونَ ولا يُحاسَبونَ كرامةً لهم، وظاهِرُه أنَّه لا في قُبورِهم، ولا بَعدَ قيامِ السَّاعةِ)
[3630] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 101). .
3- عن مَحمودِ بنِ لَبيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اثنَتانِ يَكرَهُهما ابنُ آدَمَ: المَوتُ، والمَوتُ خَيرٌ للمُؤمِنِ من الفِتنةِ، ويَكرَهُ قِلَّةَ المالِ، وقِلَّةُ المالِ أقَلُّ للحِسابِ)) [3631] أخرجه أحمد (23674) واللَّفظُ له، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (6114)، والداني في ((السنن الواردة في الفتن)) (36). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (139)، وجوَّد إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23674)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/324): رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/147) إنه رُوِيَ بإسنادين رواة أحدهما محتجٌّ بهم في الصحيح، ومحمود له رؤية، ولم يصِحَّ له سماعٌ فيما أرى. .
قال
المُناويُّ: (
((اثنانِ يَكرَهُهما ابنُ آدَمَ)) غالِبًا، قيلَ: وما هما؟ قال:
((يَكرُه المَوتَ)) أي: نُزولَه به
((والمَوتُ)) أي: موتُه
((خيرٌ له من الفِتنةِ)) أي: الكُفرِ والضَّلالِ، أوِ الإثمِ أوِ الِاختِبارِ والِامتِحانِ ونَحوِها؛ وذلك لأنَّه ما دامَ حَيًّا لا يَأمُنُ الوُقوعَ في ذلك، ولا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إلَّا القَومُ الخاسِرونَ...
((ويَكرَهُ قِلَّةَ المالِ، وقِلَّةُ المالِ أقَلُّ للحِسابِ)) يَعني السُّؤالَ عنه كما في خَبرِ:
((لا تَزولُ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القيامةِ حَتَّى يُسأَلَ عن أربَعٍ))، وفيه:
((عن مالِه من أينَ اكتَسَبَه؟ وفيمَ أنفَقَه؟ )) [3632] أخرجه الترمذي (2417)، والدارمي (537)، وأبو يعلى (7434) مطولًا من حديثِ أبي برزة الأسلمي رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (9/316). أي: ولو حلالًا)
[3633] يُنظر: ((فيض القدير)) (1/ 151). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلمِ في شَأنِ الحِسابِ يَومَ القيامةِ:1- قال حَربُ بن إسماعيلَ الكرمانيَّ: (يُعرَضُ عليه العِبادُ يَومَ الفَصلِ والدِّينِ، فيَتَوَلَّى حِسابَهم بنَفسِه، لا يَلي ذلك غَيرُه عَزَّ رَبُّنا وجَلَّ، وهو على ما يَشاءُ قَديرٌ)
[3634] يُنظر: ((إجماع السلف في الاعتقاد)) (ص: 64). .
2- قال
ابنُ بَطَّةَ العُكْبَريُّ: (ثُمَّ الإيمانُ بالمُساءَلةِ: إنَّ الله عزَّ وجَلَّ يَسألُ العِبادَ عن كُلِّ قَليلٍ وكَثيرٍ في المَوقِفِ، وعن كُلِّ ما اجتَرَموا؛ ليَسألَ الصَّادِقينَ عن صِدْقِهم، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] ، ويَأخُذُ للمَظلومينَ من الظَّالِمينِ، حَتَّى للجَمَّاءِ من القَرْناءِ، ولِلضَّعيفِ من القَويِّ)
[3635] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 225-227). .
3- قال الحَلِيميُّ: (والحِسابُ وإن كان اللهُ تعالى ذَكَرَه جُملةً، وكَذلك جاءَ ذِكرُه في كثيرٍ من الأخبارِ، فإنَّ في بَعضِها دَلالةً على أنَّ كثيرًا من المُؤمِنينَ يَدخُلونَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، وهمُ المُتَوَكِّلونَ. فصارَ النَّاسُ إذن ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرقةٌ لا تُحاسَبُ أصلًا، وفِرْقةٌ تُحاسَبُ حِسابًا يَسيرًا، وهاتانِ الفِرْقَتانِ من المُؤمِنينَ، مَن يَكونُ أدنى إلى رَحمةِ اللهِ فيُدخِلُه بغَيرِ حِسابٍ، وليس يَبعُدُ أن يَكونَ من الكُفَّارِ مَن يَكونُ أدنى إلى غَضَبِ اللهِ فيَدخُلُ النَّارَ بغَيرِ حِسابٍ، فتَكونُ الفِرَقُ أربَعًا)
[3636] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 384). .
4- قال
ابنُ تَيميَّةَ: (يُحاسِبُ اللهُ الخَلقَ، ويَخلو بعَبدِه المُؤمِنِ، فيُقَرِّرُه بذُنوبِه كما وصفَ ذلك في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وأمَّا الكُفَّارُ فلا يُحاسَبونَ مُحاسَبةَ مَن تُوزَنُ حَسَناتُه وسيِّئاتُه، فإنَّهم لا حَسَناتٍ لهم، ولَكِن تُعَدُّ أعمالُهم وتُحصى، فيوقَفونَ عليها، ويُقَرَّرونَ بها، ويُجْزَونَ بها)
[3637] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 98). .
5- قال السَّفارينيُّ: (الحَقُّ أنَّه سُبحانَه يُحاسِبُهم حِسابًا حَقيقيًّا، وتُوزَنُ أعمالُهم وزنًا حِسِّيًّا، ويَخلو البارِئُ عزَّ وجَلَّ بكُلِّ عَبدٍ من عِبادِه المُؤمِنينِ، ويُقَرِّرُه عن أعمالِه كما نَطَقَ بذلك الحَديثُ الصَّحيحُ، والنَّصُّ الصَّريحُ الثَّابِتُ عن المَعصومِ الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، وأيُّ حِسابٍ يَصدُرُ من الله لعِبادِه حَيثُ جَعَلتُمُ الحِسابَ مُجَرَّدَ خَواطِرَ وأوهامٍ وتَخَيُّلاتٍ تَمُرُّ بالأفهامِ؟!)
[3638] يُنظر: ((البحور الزاخرة)) (2/840). .