المَبحَثُ السَّابعُ: القَنْطَرةُ
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَخلُصُ المُؤمِنونَ من النَّارِ، فيُحبَسونَ على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ لبَعضِه من بَعضٍ مَظالِمُ كانت بينَهم في الدُّنيا حَتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجَنةِ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لأَحَدُهم أهَدى بمَنزِلِه في الجَنَّةِ منه بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) [4088] أخرجه البخاري (6535). .
قال
القُرطُبيُّ: (بابُ ذِكرِ الصِّراطِ الثَّاني: وهو القَنطَرةُ التي بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ: اعلَم -رَحِمَك اللهُ- أنَّ في الآخِرةِ صِراطينِ: أحَدُهما: مَجازٌ لأهلِ المَحْشَرِ كُلِّهم، ثَقيلِهم وخَفيفِهم، إلَّا من دَخلَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، أو مَن يَلتَقِطُه عُنُقُ النَّارِ، فإذا خَلَصَ من خَلصَ من هذا الصِّراطِ الأكبَرِ الذي ذَكَرْناه -ولا يَخلُصُ منه إلَّا المُؤمِنونَ الذينَ عَلِمَ اللهُ منهم أنَّ القِصاصَ لا يَستَنفِدُ حَسَناتِهم- حُبِسوا على صِراطٍ آخَرَ خاصٍّ لهم، ولا يَرجِعُ إلى النَّارِ من هؤلاء أحَدٌ إنْ شاءَ اللهُ؛ لأنَّهم قد عَبَروا الصِّراطَ الأوَّلَ المَضروبَ على مَتنِ جَهنَّمَ، الذي يَسقُطُ فيها من أَوبَقَه ذَنْبُه، وأربى على الحَسَناتِ بالقِصاصِ جُرْمُه)
[4089] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 36). .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قد تَكلَّمَ
القُرطُبيُّ على هذا الحَديثِ في التَّذكِرةِ، وجَعلَ هذه القَنطَرةَ صِراطًا ثانيًا للمُؤمِنينَ خاصَّةً، وليس يَسقُطُ منه أحَدٌ في النَّارِ. قُلتُ: هذه القَنطَرةُ تَكونُ بَعدَ مُجاوَزةِ النَّارِ، فقد تَكونُ هذه القَنطَرةُ مَنصوبةً على هولٍ آخَرَ مِمَّا يَعلَمُه اللهُ، ولا نَعلَمُه نَحنُ. واللهُ أعلَمُ)
[4090] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (20/ 101). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (اختُلِفَ في القَنطَرةِ المَذكورةِ، فقيلَ: هيَ من تَتِمَّةِ الصِّراطِ، وهيَ طَرَفُه الذي يَلي الجَنَّةَ، وقيلَ: إنَّهما صِراطانِ، وبِهذا الثَّاني جَزمَ
القُرطُبيُّ)
[4091] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/399). .
قال
السُّيوطيُّ مُعَلِّقًا على كلامِ
ابنِ حَجَرٍ: (الأوَّلُ هو المُختارُ الذي دَلَّت عليه أحاديثُ القَناطِرِ)
[4092] يُنظر: ((البدور السافرة)) (ص: 382). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ أيضًا: (الذي يَظهرُ أنَّها طَرَفُ الصِّراطِ مِمَّا يَلي الجَنَّةَ، ويُحتَمَلُ أن تَكونَ من غَيرِه بينَ الصِّراطِ والجَنَّةِ)
[4093] يُنظر: ((فتح الباري)) (5/96). .
وقال
العَينيُّ: (
((بينَ الجَنةِ والنَّارِ))، أي: بقَنطَرةٍ كائِنةٍ بينَ الجَنةِ والصِّراطِ الذي على مَتنِ النَّارِ؛ ولِهذا سُمِّيَ بالصِّراطِ الثَّاني... فإنَّ الحَديثَ مُصرَّحٌ بأنَّ تلك القَنطَرةَ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ)
[4094] يُنظر: ((عمدة القاري)) (12/ 285). .
وقال أيضًا: (فإن قُلتَ: ذَكَرَ
الدَّارقُطنيُّ حَديثًا فيه: أنَّ الجَنةَ بَعدَ الصِّراطِ، وهذا يُعارِضُ حَديثَ القَنطَرةِ؟ قُلتُ: لا؛ لأنَّ المُرادَ بَعدَ الصِّراطِ الثَّاني هو القَنطَرةُ كما ذَكَرنا. فإنْ قُلتَ: صَحَّ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((أصحابُ الحَشرِ مَحبوسونَ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، يُسأَلونَ عن فُضولِ أموالٍ كانت بأيديهم)) [4095] الحديث روي بنحوه عن أسامة عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قمتُ على باب الجنَّةِ، فكان عامَّةُ من دخلها المساكينُ، وأصحابُ الجَدِّ محبوسون، غيرَ أن أصحاب النار قد أُمِرَ بهم إلى النَّارِ، وقمتُ على باب النار فإذا عامَّةُ من دخلها النِّساءُ)). أخرجه البخاري (5196) واللَّفظُ له، ومسلم (2736). ، وهذا يُعارِضُ حَديثَ البابَ. قُلتُ: لا؛ لأنَّ مَعناهما مُختَلِفٌ لاختِلافِ أحوالِ النَّاسِ؛ لأنَّ من المُؤمِنينَ من لا يُحبَسونَ، بَل إذا خَرَجوا بُثُّوا على أنهارِ الجَنَّةِ)
[4096] يُنظر: ((عمدة القاري)) (12/ 286). .
وقال أيضًا: (قَولُه:
((على قَنطَرةٍ)) قيلَ: هذا يُشعِرُ بأنَّ في القيامةِ جِسرينِ، هذا والذي على مَتنِ جَهَنَّمَ المَشهورِ بالصِّراطِ. وأجيبَ بأنَّه لا مَحذورَ فيه، ولَئِن ثَبَتَ بالدَّليلِ أنَّه واحِدٌ فتَأويلُه أنَّ هذه القَنطَرةَ من تَتِمَّةِ الأوَّلِ)
[4097] يُنظر: ((عمدة القاري)) (23/ 113). .
وقال مُحَمَّد أنور شاه الكشميريُّ: (قَولُه:
((بينَ الجَنةِ والنَّارِ)) أي: بقَنطَرةٍ كائِنةٍ بينَ الجَنةِ والصِّراطِ الذي على مَتنِ النَّارِ؛ ولِهذا سُمِّيَ بالصِّراطِ الثَّاني، فتَبَيَّنَ منه أنَّ القَنطَرةَ قِطعةٌ من الصِّراطِ)
[4098] يُنظر: ((فيض الباري)) (3/603). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (هذا القِصاصُ غَيرُ القِصاصِ الأوَّلِ الذي في عَرَصاتِ القيامةِ، لأنَّ هذا قِصاصٌ أخَصُّ؛ لأجلِ أن يَذهَبَ الغِلُّ والحِقدُ والبَغضاءُ التي في قُلوبِ النَّاسِ، فيَكونُ هذا بمَنزِلةِ التَّنقيةِ والتَّطهيرِ، وذلك لأنَّ ما في القُلوبِ لا يَزولُ بمُجَرَّدِ القِصاصِ.
فهذه القَنطَرةُ التي بينَ الجَنةِ والنَّارِ؛ لأجلِ تَنقيةِ ما في القُلوبِ، حَتَّى يَدخُلوا الجَنَّةَ وليس في قُلوبِهم غِلٌّ؛ كما قال اللهُ تعالى:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] )
[4099] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 163). .
وقال أيضًا: (إذا عَبَروا على الصِّراطِ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقتَصُّ من بَعضِهم لبَعضٍ، وهذا القِصاصُ غَيرُ القِصاصِ الذي يَكونُ في عَرَصاتِ يَومِ القيامةِ، هذا القِصاصُ -والله أعلَمُ- يُرادُ به أن تَتَخَلَّى القُلوبُ من الأضغانِ والأحقادِ والغِلِّ، حَتَّى يَدخُلوا الجَنةَ وهم على أكملِ حالٍ، وذلك أنَّ الإنسانَ وإنِ اقتُصَّ له مِمَّنِ اعتَدى عليه فلا بُدَّ أن يَبقى في قَلبَه شَيءٌ من الغِلِّ والحِقدِ على الذي اعتَدى عليه، ولَكِنَّ أهلَ الجَنةِ لا يَدخُلونَ الجَنةَ حَتَّى يُقتَصَّ لهمُ اقتِصاصًا كامِلًا، فيَدخُلونَها على أحسَنِ وجهٍ، فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجَنَّةِ)
[4100] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 470). .