المَبحَثُ الخامِسُ: نَهرُ الكوثَرِ وعَلاقَتُه بالحَوضِ
قال اللهُ تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] .
عن أبي عُبيدةَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ أنَّه سَأل
عائِشةَ رَضِيَ الله عنها عن قَولِه تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] فقالت:
((نَهرٌ أُعطِيَه نَبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، شاطِئاه عليه دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنيَتُه كعَدَدِ النُّجومِ)) [4226] أخرجه البخاري (4965). .
وعن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: بَينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ بينَ أظهُرِنا إذ أغفى إغفاءةً ثُمَّ رَفعَ رَأسَه مُتَبَسِّمًا، فقُلنا: ما أضحَكَك يا رَسولَ اللهِ؟! قال:
((أُنزِلَتْ عليَّ آنِفًا سورةٌ))، فقرَأَ: بسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1 - 3] ، ثُمَّ قال:
((أتدْرُونَ ما الكوثَرُ؟)) فقُلْنا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال:
((فإنَّه نَهرٌ وعَدَنِيه رَبِّي عزَّ وجَلَّ، عليه خَيرٌ كثيرٌ، هو حَوضٌ تَرِدُ عليه أمَّتي يَومَ القيامةِ، آنيَتُه عَدَدُ النُّجومِ )) [4227] أخرجه مسلم (400) مطولًا. .
وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما قال: لَمَّا أُنزِلَت:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هو نَهرٌ في الجَنَّةِ، حافَتاهٌ من ذَهَبٍ، يَجري على جَنادِلِ الدُّرِّ والياقوتِ، شَرابُه أحلى من العَسَلِ، وأشَدُّ بَياضًا من اللبَنِ، وأبرَدُ من الثَّلجِ، وأطيبُ من ريحِ المِسكِ )) [4228] أخرجه الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334) باختلافٍ يسيرٍ، وأحمد (5913) واللَّفظُ له. صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3361)، وقواه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5913)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/159). .
وفي رِوايةٍ:
((الكوثَرُ نَهرٌ في الجَنَّةِ حافَتاه من ذَهَبٍ، والماءُ يَجري على اللُّؤلُؤِ، وماؤُه أشَدُّ بَياضًا من اللبَنِ، وأحلى من العَسَلِ)) [4229] أخرجها الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334) باختلافٍ يسيرٍ، وأحمد (5355) واللَّفظُ له. صحَّحها الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3361)، وقواها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5355)، وصحَّح إسنادها أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/191). .
وعن
أنسٍ رَضِيَ الله عنه قال: سُئِلَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما الكوثَرُ؟ قال:
((ذاك نَهرٌ أعطانيه اللهُ، يَعني في الجَنةِ، أشَدُّ بَياضًا من اللبَنِ وأحلى من العَسَلِ، فيها طَيرٌ أعناقُها كأعناقِ الجُزُرِ))، قال عُمرُ: إنَّ هذه لناعِمةٌ! قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أكَلَتُها أحسَنُ منها!)) [4230] أخرجه الترمذي (2542) واللَّفظُ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11703)، وأحمد (13475). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2542)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13475)، وقال الترمذي: حسن غريب. وحديث نهر الكوثر أصله في صحيح مسلم (400) بنحوه. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (الكوثَرُ فَوْعَلٌ من الكَثرةِ، سُمِّيَ بها النَّهرُ لكَثرةِ مائِه وآنيَتِه، وعِظَمِ قَدْرِه وخَيرِه)
[4231] يُنظر: ((فتح الباري)) (8/ 731). .
وعن عَطاءِ بْنِ السَّائِبِ قال: قال لي مُحارِبُ بنُ دِثارٍ: ما سَمِعتَ سَعيدَ بنَ جُبَيرٍ يَذكُرُ عن
ابنِ عَباسٍ في الكوثَرِ؟ فقُلتُ: سَمِعتُه يَقولُ: قال
ابنُ عَبَّاسٍ: هذا الخَيرُ الكَثيرُ، فقال مُحارِبٌ: سُبحانَ اللهِ! ما أقَلَّ ما يَسقُطُ ل
ابنِ عَباسٍ قَولٌ! سَمِعتُ
ابنُ عُمرَ يَقولُ: لَمَّا أُنزِلتْ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرُ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هو نَهرٌ في الجَنَّةِ، حافَتَاهُ من ذَهَبٍ، يَجري على جَنادِلِ الدُّرِّ والياقوتِ)) [4232] أخرجه الترمذي (3361)، وابن ماجه (4334) باختلافٍ يسيرٍ، وأحمد (5913) واللَّفظُ له. صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3361)، وقواه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5913)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/159). وقول ابن عباس أصله في صحيح البخاري (6578) بلفظ: عن سعيدِ بنِ جُبَير عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (الكوثَرُ الخير الكثير الذي أعطاه اللهُ إياه). قال أبو بشر: قلتُ لسعيد: إن أناسًا يزعمون أنَّه نهر في الجنة. فقال سعيد: (النهرُ الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه اللهُ إياه). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (حاصِلُ ما قاله سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ أنَّ قَولَ
ابنِ عَباسٍ: إنَّه الخَيرُ الكَثيرُ، لا يُخالِفُ قَولَ غَيرِه: إنَّ المُرادَ به نَهرٌ في الجَنةِ؛ لأنَّ النَّهرَ فردٌ من أفرادِ الخَيرِ الكَثيرِ، ولَعَلَّ سَعيدًا أومَأ إلى أنَّ تَأويلَ
ابنِ عَبَّاسٍ أولى لعُمومِه، لَكِن ثَبَتَ تَخصيصُه بالنَّهرِ من لَفظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا مَعْدِلَ عنه)
[4233] يُنظر: ((فتح الباري)) (8/ 732). .
وقال
ابنُ جَريرٍ بَعدَ ذِكرِ أقوالِ العُلَماءِ في مَعنى الكوثَرِ: (أَولى هذه الأقوالِ بالصَّوابِ عِندي قَولُ من قال: هو اسمُ النَّهرِ الذي أُعطِيَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجَنةِ؛ وصَفَه اللهُ بالكَثرةِ لعِظَمِ قَدْرِه، وإنَّما قُلْنا ذلك أَولى الأقوالِ في ذلك؛ لتَتابُعِ الأخبارِ عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ذلك كذلك)
[4234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 685). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (هذه الأحاديثُ تَدُلُّ على أنَّ الكوثَرَ هو النَّهرُ الذي في الجَنةِ، فيَتَعَيَّنُ المَصيرُ إليها، وعَدَمُ التَّعويلِ على غَيرِها، وإن كان مَعنى الكوثَرِ: هو الخَيرُ الكَثيرُ في لُغةِ العَربِ، فمَن فسَّرَه بما هو أعَمُّ مِمَّا ثَبتَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو تَفسيرٌ ناظِرٌ إلى المَعنى اللُّغَويِّ)
[4235] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 616). .
وعن
أنسٍ رَضِيَ الله عنه قال: لَمَّا عُرِجَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى السَّماءِ قال:
((أتيتُ على نَهرٍ حافَتاه قِبابُ اللُّؤلُؤِ مُجَوَّفًا، فقُلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكوثَرُ )) [4236] أخرجه البخاري (4964). .
وعن
أنسٍ رَضِيَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بينَما أنا أسيرُ في الجَنَّةِ إذ أنا بنَهرٍ حافَتاه قِبابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلتُ: ما هذا يا جِبريلُ؟ قال: هذا الكوثَرُ الذي أعطاك رَبُّك، فإذا طِينُه -أو طِيبُه- مِسكٌ أذفَرُ )) شَكَّ هُدْبةُ
[4237] أخرجه البخاري (6581). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه:
((بَينا أنا أسيرُ في الجَنةِ)) تقَدَّمَ تَفسيرُ سورةِ الكوثَرِ أنَّ ذلك كان لَيلةَ أُسْرِيَ به، وفي أواخِرِ الكَلامِ على حَديثِ الإسراءِ في أوائِلِ التَّرجَمةِ النَّبَويَّةِ. وظَنَّ الدَّاوُديُّ أنَّ المُرادَ أنَّ ذلك يَكونُ يَومَ القيامةِ فقال: إن كان هذا مَحفوظًا دَلَّ على أنَّ الحَوضَ الذي يُدفَعُ عنه أقوامٌ غَيرُ النَّهرِ الذي في الجَنَّةِ أو يَكونُ يَراهمُ وهو داخِلُ الجَنَّةِ وهم من خارِجِها فينادِيهم فيُصرَفونَ عنه. وهو تَكَلُّفٌ عَجيبٌ يُغني عنه أنَّ الحَوضَ الذي هو خارِجَ الجَنَّةِ يُمَدُّ من النَّهرِ الذي هو داخِلَ الجَنَّةِ، فلا إشكالَ أصلًا)
[4238] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 473). .
عن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن شَرابِ الحَوضِ، فقال:
((أشَدُّ بَياضًا من اللَّبَنِ، وأحلى من العَسَلِ، يَغُتُّ فيه ميزابانِ يَمُدَّانِه من الجَنَّةِ [4239] قال النووي: (قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (يَغُتُّ فيه ميزابان يمُدَّانه) أمَّا يَغُتُّ: فبفتح الياء وبغين معجمة مضمومة ومكسورة، ثم مثنَّاة فوق مشددة، وهكذا قال ثابت والخطابي والهروي وصاحب التحرير والجمهور، وكذا هو في معظم نسخ بلادنا، ونقله القاضي عن الأكثرين، قال الهروي: ومعناه يدفقان فيه الماء دفقًا متتابعًا شديدًا، قالوا: وأصلُه من إتباع الشَّيءِ الشَّيءَ، وقيل: يصبَّان فيه دائمًا صبًّا شديدًا، ووقع في بعض النسخ: يَعُبُّ، بضم العين المهملة وبباء موحدة، وحكاها القاضي عن رواية العذري قال: وكذا ذكره الحربي وفسره بمعنى ما سبق، أي: لا ينقطع جريانهما، قال: والعَبُّ الشُّربُ بسُرعةٍ في نَفَس واحد، قال القاضي ووقع في رواية بن ماهان: يَثْعَب بمثلثة وعين مهملة، أي يتفجر. وأما قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (يمُدَّانه) فبفتح الياء وضم الميم، أي: يزيدانه ويُكثِّرانه). ((شرح مسلم)) (15/ 63). أحَدُهما من ذَهَبٍ، والآخَرُ من وَرِقٍ )) [4240] أخرجه مسلم (2301) مطولًا. .
وعن
أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه قال: قَلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما آنيَةُ الحَوضِ؟ قال:
((والذي نَفسي بيَدِه لآنيَتُه أكثَرُ من عَدَدِ نُجومِ السَّماءِ وكَواكِبِها، ألَا في الليلةِ المُظلِمةِ المُصحيَةِ آنيَةُ الجَنَّةِ [4241] قال النووي: (قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (ألَا في الليلة المُظلِمة) فهو بتخفيف ألا، وهي التي للاستفتاح، وخَصَّ الليلة المظلمة المُصْحِية؛ لأنَّ النُّجومَ تُرى فيها أكثَرَ، والمراد بالمظلمة التي لا قمر فيها مع أن النجوم طالعةٌ فإن وجود القمر يستر كثيرًا من النجوم، وأما قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (آنيةُ الجنة) فضبطه بعضهم برفع آنية وبعضهم بنصبها، وهما صحيحان؛ فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف، أي: هي آنية الجنةِ، ومن نصب فبإضمار أعني أو نحوه). ((شرح مسلم)) (15/60). ، من شَرِبَ منها لَم يَظمَأ آخِرَ ما عليه، يَشخَبُ [4242] قال ابن الأثير: (الشَّخبُ: السيلانُ) ((النهاية)) (2/ 450). فيه ميزابانِ [4243] (وزب الماء يزِبُ وزوبًا: سال، ومنه: الميزابُ). يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيرزآبادي (ص: 141)، ((المئزاب) الميزابُ، وهو قناة أو أنبوبة يُصرَفُ بها الماء من سطح بناء أو موضعٍ عالٍ (ج) مآزيب). يُنظر: ((المعجم الوسيط)) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (1/ 15). من الجَنَّةِ مَن شَرِبَ منه لَم يَظمَأْ، عَرضُه مِثلُ طُولِه ما بينَ عُمَان إلى أيلَةَ، ماؤُه أشَدُّ بَياضًا من اللَّبَنِ، وأحلى من العَسَلِ )) [4244] أخرجه مسلم (2300). .