المَطلَبُ الثَّامِنُ: نورُ الجنَّةِ
قال اللهُ تعالى:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم: 62-63] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ: ولَهم طَعامُهم وما يَشتَهونَ مِنَ المَطاعِمِ والمَشارِب في قَدرِ وقتِ البُكْرةِ ووقتِ العَشِيِّ مِن نَهارِ أيَّامِ الدُّنيا، وإنَّما يَعني أنَّ الَّذي بينَ غَدائِهم وعَشائِهم في الجَنَّةِ قَدرُ ما بينَ غَداءِ أحَدِنا في الدُّنيا وعَشائِه، وكَذَلِكَ ما بينَ العَشاءِ والغَداءِ؛ وذَلِكَ لِأنَّه لا ليلَ في الجَنَّةِ ولا نَهارَ، وذَلِكَ كَقَولِه:
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] و
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يَعني به: مِن أيَّامِ الدُّنيا.
كَما حَدَّثنا عليُّ بنُ سَهلٍ قال: ثنا الوليدُ بنُ مُسلِمٍ قال: سَألْتُ زُهَيرَ بنَ مُحَمَّدٍ عَن قَولِ اللهِ:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] قال: ليسَ في الجَنَّةِ ليلٌ هم في نُورٍ أبَدًا، ولَهم مِقدارُ اللَّيلِ والنَّهارِ، يَعرِفُونَ مِقدارَ اللَّيلِ بإرخاءِ الحُجُبِ وإغلاقِ الأبوابِ، ويَعرِفُونَ مِقدارَ النَّهارِ برَفعِ الحُجُبِ، وفَتحِ الأبوابِ)
[4643] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 576). .
وقال
السَّمعانيُّ: (قَولُه:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا فإنْ قيلَ: ما مَعنى قَولِه:
بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وليسَ في الجَنةِ ليلٌ ولا نَهارٌ؟! والجَوابُ عَنه أنَّ مَعناه: بُكْرةً وَعَشِيًّا، أي: على مَقاديرِ البكرِ والعَشَايا.
ويُقالُ: إنَّه يُعرَفُ وقتُ النَّهارِ برَفعِ الحُجُبِ وفَتحِ الأبوابِ، ووقتُ اللَّيلِ بإسبالِ الحُجُبِ وغَلقِ الأبوابِ.
والقَولُ الثَّاني: أنَّ مَعنى قَولِه:
بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي: لَهم فيها رَفاهةُ العَيشِ؛ الرِّزقُ الواسِعُ مِن غيرِ تَضييقٍ ولا تَقتيرٍ.
وكانَ
الحَسَنُ البَصْريُّ إذا قَرَأ هذه الآيةَ قال: لَقَد عَلِمَتِ العَرَبُ أنَّ أرفَهَ العيشِ هو الرِّزقُ بالبُكرةِ والعَشيَّةِ، ولا يَعرِفُونَ مِنَ الرَّفاهيَةِ فوقَ هذا)
[4644] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 303). .
وقال
السَّمعانيُّ أيضًا: (قَولُه تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا أي: دائِمًا، وقَولُه:
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ مَعناه: أفَلا تَعلَمُونَ، فإنْ قال قائِلٌ: ما وجهُ مَصلَحةِ اللَّيلِ في الدُّنيا، وليسَ في الجَنَّةِ ليلٌ؟ والجَوابُ عَنه أنَّ الدُّنيا لا تَخلُو عَن تَعَبِ التَّكاليفِ والتَّكليفاتِ، فلا بُدَّ لَه مِن وقتٍ يُفضى فيه إلى الرَّاحةِ مِنَ التَّعَبِ، وأمَّا الجَنَّةُ فهو مَوضِعُ التَّصَرُّفِ في الملاذِّ، وليسَ فيها تَعَبٌ أصلًا، فلا يَحتاجُ إلى وقتٍ يُفضى فيه إلى الرَّاحةِ أصلًا)
[4645] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/ 153). .
وقال
ابنُ الجَوزيِّ: (قَولُه تعالى:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال المُفَسِّرُونَ: ليسَ في الجَنَّةِ بُكْرةٌ ولا عَشيَّةٌ، ولَكِنَّهم يُؤتَونَ برِزقِهم على مِقدارِ ما كانُوا يَعرِفُونَ في الغَداةِ والعَشيِّ. قال الحَسَنُ: كانَتِ العَربُ لا تَعرِفُ شيئًا مِنَ العيشِ أفضَلَ مِنَ الغَداةِ والعِشاءِ، فذَكَرَ اللهُ لَهم ذَلِكَ. وقال قَتادةُ: كانَتِ العَربُ إذا أصابَ أحَدُهمُ الغَداءَ والعَشاءَ أعجِبَ به، فأخبَرَ اللهُ أنَّ لَهم في الجَنَّةِ رِزْقَهم بُكْرةً وعَشِيًّا على قَدرِ ذَلِكَ الوقتِ، وليسَ ثَمَّ ليلٌ ولا نَهارٌ، وإنَّما هو ضَوءٌ ونُورٌ. ورَوى الوليدُ بنُ مُسلِمٍ، قال: سَألْتُ زُهَيرَ بنَ مُحَمَّدٍ عَن قَولِه تعالى:
بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقال: ليسَ في الجَنةِ ليلٌ ولا نَهارٌ، هم في نُورٍ أبَدًا، ولَهم مِقدارُ اللَّيلِ والنَّهارِ، يَعرِفُونَ مِقدارَ اللَّيلِ بإرخاءِ الحُجُبِ وإغلاقِ الأبوابِ، ويَعرِفُونَ مِقدارَ النَّهارِ برَفعِ الحُجُبِ وفَتحِ الأبوابِ)
[4646] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/ 139). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (الجَنَّةُ ليسَ فيها شَمسٌ ولا قَمَرٌ، ولا ليلٌ ولا نَهارٌ، لَكِن تُعرَفُ البُكرةُ والعَشيَّةُ بنُورٍ يَظهَرُ مِن قِبَلِ العَرْشِ. واللهُ أعلَمُ)
[4647] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/ 312). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (أي في مِثلِ وقتِ البُكراتِ ووقتِ العَشيَّاتِ، لا أنَّ هناكَ ليلًا ونَهارًا، ولَكِنَّهم في أوقاتٍ تَتَعاقَبُ يَعرِفُونَ مُضِيَّها بأضواءٍ وأنوارٍ)
[4648] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 247). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 12، 13]قال
القُرطُبيُّ: (
((لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا)) أي: لا يَرَونَ في الجَنَّةِ شِدَّةَ حَرٍّ كَحرِّ الشَّمسِ، ولا زَمْهريرًا، أي: ولا بَردًا مُفرِطًا...
فالمَعنى: لا يَرَونَ فيها شَمسًا كَشَمسِ الدُّنيا ولا قَمَرًا كَقَمَرِ الدُّنيا، أي: إنَّهم في ضياءٍ مُستَديمٍ، لا ليلَ فيه ولا نَهارَ؛ لِأنَّ ضَوءَ النَّهارِ بالشَّمسِ، وضَوءَ اللَّيلِ بالقَمَرِ. وقَد مَضى هذا المَعنى مُجَوَّدًا في سُورةِ «مَريَم» عِندَ قَولِه تعالى:
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] )
[4649] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/ 137-138). .
وقال النَّسَفيُّ: (الجَنَّةُ مُضيئةٌ لا يَحتاجُ فيها إلى شَمسٍ وقَمَرٍ)
[4650] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/ 579). .