المَطْلَب الثَّالِثُ: دَرَكاتُ النَّارِ
عَذابُ النَّارِ مُتَفاوِتٌ؛ فبَعضُه أشَدُّ مِن بَعضٍ، ومَنازِلُ أهلِ النَّارِ مُتَفاوِتةٌ بتَفاوُتِ دَرَكاتِها.
قال الرَّاغِبُ الأصفَهانيُّ: (الدَّرَكُ كالدَّرَجِ، لَكِنَّ الدَّرَجَ يُقالُ اعتِبارًا بالصُّعُودِ، والدَّركُ اعتِبارًا بالحُدُورِ؛ ولِهذا قيلَ: دَرَجاتُ الجَنَّةِ، ودَرَكاتُ النَّارِ)
[5018] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 311). .
وقال
ابنُ الأثيرِ: (الدَّرَكُ بالتَّحريكِ، وقَد يُسَكَّنُ. واحِدُ الأدراكِ، وهي مَنازِلُ في النَّارِ. والدَّرَكُ إلى أسفَلَ، والدَّرَجُ إلى فوقٍ)
[5019] يُنظر: ((النهاية)) (2/ 114). .
وقَد تُسَمَّى النَّارُ دَرَجاتٍ أيضًا، فبَعدَ أن ذَكَرَ اللهُ تعالى أهلَ الجَنةِ والنَّارِ، قال:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران: 162 - 163] .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (قَد تُسَمَّى النَّارُ دَرَجاتٍ أيضًا، كَما قال تعالى بَعدَ أن ذَكَرَ أهلَ الجَنةِ وأهلَ النَّارِ:
ولِكُلِّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وقال:
أفمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران: 162-163] . قال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ زيدِ بنِ أسلَمَ: دَرَجاتُ الجَنَّةِ تَذهَبُ عُلُوًّا، ودَرَجاتُ النَّارِ تَذهَبُ سُفُولًا)
[5020] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (1/ 368). .
وقال أبُو البَقاءِ الكَفَويُّ الحَنفيُّ: (الدَّرَجةُ: هي نَحوُ المَنزِلةِ، إلَّا أنَّها تُقالُ إذا اعتُبِرتْ بالصُّعُودِ كَما في الجِنانِ، دُونَ الِامتِدادِ والبَسطِ. والدَّرَكُ لِلسَّافِلِ كَما في النِّيرانِ.
وقَولُه تعالى:
ولِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فمِن باب التَّغليب، أوِ المُرادُ الرُّتَبُ المُتَزايِدةُ، إلَّا أنَّ زيادةَ أهلِ الجَنَّةِ في الخيراتِ والطَّاعاتِ، وزيادةَ أهلِ الشَّرِّ في المَعاصي والسَّيِّئاتِ)
[5021] يُنظر: ((الكليات)) (ص: 450). .
وقَد جاءَت أحاديثُ عَديدةٌ تُبيِّنُ أنَّ أهلَ النَّارِ مُتَفاوِتُونَ في عَذابِها. ومِن ذَلِكَ:عَن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في أهلِ النَّارِ:
((مِنهم مِن تَأخُذُه النَّارُ إلى كَعْبَيه، ومِنهم مِن تَأخُذُه النَّارُ إلى رُكبَتَيه، ومِنهم مِن تَأخُذُه النَّارُ إلى حُجزَتِه، ومِنهم مِن تَأخُذُه النَّارُ إلى تَرقُوَتِه )) [5022] أخرجه مسلم (2845). .
قال أبُو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (الحُجزةُ: مَعْقِدُ السَّراويلِ والإزارِ. والتَّرْقُوةُ:... هي العَظمُ الَّذي بينَ ثَغرةِ النَّحرِ والعاتِقِ. وهذا الحَديثُ أيضًا يَدُلُّ على أنَّ أهلَ النَّارِ يَتَفاوتُونَ فيها)
[5023] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 189). .
وأقَلُّ أهلِ النَّارِ عَذابًا هم عُصاةُ المُؤمِنينَ الَّذينَ يَدخُلُونَ النَّارَ فيَعذَّبُونَ فيها على قَدرِ أعمالِهم، ثُمَّ يَخرُجُونَ مِنها.
عَن أبي سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أمَّا أهلُ النَّارِ الَّذينَ هم أهلُها، فإنَّهم لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولَكِن ناسٌ أصابَتْهمُ النَّارُ بذُنُوبهم -أو قال بخَطاياهم- فأماتَهم إماتةً حَتَّى إذا كانُوا فَحْمًا أَذِنَ بالشَّفاعةِ، فجيءَ بهم ضَبائِرَ ضَبائِرَ [5024] قال النووي: (قال أهلُ اللُّغةِ: الضَّبائِرُ: جماعاتٌ في تَفرِقةٍ) ((شرح مسلم)) (3/ 37). ، فبُثُّوا على أنهارِ الجَنَّةِ، ثُمَّ قيلَ: يا أهلَ الجَنَّةِ أفيضُوا عليهم، فيَنبُتُونَ نَباتَ الحِبَّةِ تَكُونُ في حَميلِ السَّيلِ )) [5025] أخرجه مسلم (185). .
قال
النَّوويُّ: (أمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ولَكِن ناسٌ أصابَتُهمُ النَّارُ ...)) إلى آخِرِه، فمَعناه أنَّ المُذنِبينَ مِنَ المُؤمِنينَ يُميتُهمُ اللهُ تعالى إماتةً بَعدَ أن يُعذَّبُوا المُدَّةَ الَّتي أرادَها اللهُ تعالى، وهذه الإماتةُ إماتةٌ حَقيقيَّةٌ يَذهَبُ مَعَها الإحساسُ، ويَكُونُ عَذابُهم على قَدرِ ذُنُوبهم ثُمَّ يُميتُهم ثُمَّ يَكُونُونَ مَحبُوسينَ في النَّارِ مِن غيرِ إحساسِ المُدَّةِ الَّتي قَدَّرَها اللهُ تعالى، ثُمَّ يَخرُجُونَ مِنَ النَّارِ مَوتى قَد صارُوا فحمًا، فيُحمَلُونَ ضَبائِرَ كَما تُحمَلُ الأمتِعةُ ويُلقَونَ على أنهارِ الجَنَّةِ فيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياةِ، فيَحْيَونَ ويَنبُتُونَ نَباتَ الحِبَّةِ في حَميلِ السَّيلِ في سُرعةِ نَباتِها وضَعفِها، فتَخرُجُ لِضَعفِها صَفراءَ مُلتَويةً ثُمَّ تَشتَدُّ قُوتُهم بَعدَ ذَلِكَ ويَصيرُونَ إلى مَنازِلِهم وتَكمُلُ أحوالُهم، فهذا هو الظَّاهرُ مِن لَفظِ الحَديثِ)
[5026] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/ 37). .
وأهونُ أهلِ النَّارِ عَذابًا مِنَ المُقيمينَ فيها أبَدًا فلا يَخرُجُونَ مِنها هو أبُو طالِبٍ عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
عَن
عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أهونُ أهلِ النَّارِ عَذابًا أبُو طالِبٍ، وهو مُتَنَعِّلٌ بنَعلينِ يَغلي مِنهما دِماغُه )) [5027] أخرجه مسلم (212). .
قال
علي القاري: (
((أهونُ أهلِ النَّارِ عَذابًا)) أي مِنَ الكُفَّارِ
((أبُو طالِبٍ))؛ لِقَولِه تعالى في حَقِّه باتِّفاقِ المُفَسِّرينَ:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] ((وهو مُنتَعِلٌ)) مِن باب التَّفعيلِ، وفي نُسخةٍ صَحيحةٍ: مِن باب الِانفِعالِ، أي: مُتَلَبِّسٌ
((بنَعلينِ)) أي: مِن نارٍ
((يَغلي فيهما)) وفي نُسخةٍ: مِنهما، أي: مِن نَعلِهما أو مِن جِهةِ نَعلِه، وأُريدَ بها الجِنسُ
((دِماغُه)). وإنَّما خَفَّفَ عَذابَه لِكَونِه حاميًا لَه صَلى اللهُ تعالى عليه وسَلَّم عَن تَشديدِ عَداوةِ الكُفَّارِ، فلَمَّا خَفَّفَ خُفِّفَ جَزاءً وِفاقًا)
[5028] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3614). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وذُكِرَ عِندَه عَمُّه أبُو طالِبٍ، فقال:
((لَعَلَّه تَنفَعُه شَفاعتي يَومَ القيامةِ فيُجعَلُ في ضَحضاحٍ مِنَ النَّارِ يَبلُغُ كَعْبَيه، يَغلي مِنه أمُّ دِماغِه)) [5029] أخرجه البخاري (6564) واللَّفظُ له، ومسلم (210). .
قال أبُو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((لَعَلَّه تَنفَعُه شَفاعتي يَومَ القيامةِ)) هذا المُتَرَجَّى في هذا الحَديثِ قَد تَحَقَّقُ وُقُوعُه؛ إذ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وجَدْتُه في غَمَراتٍ فأخرَجْتُه إلى ضَحضاحٍ، فكَأنَّه لَمَّا تَرجَّى ذَلِكَ أُعطِيَه وحُقِّقَ لَه فأخبَرَ به)
[5030] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 457). .
وعَنِ النُّعمانِ بن بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أهونَ أهلِ النَّارِ عَذابًا مَن لَه نَعلانِ وشِراكانِ مِن نارٍ، يَغلي مِنهما دِماغُه، كَما يَغلي الْمِرْجَلُ، ما يَرى أنَّ أحَدًا أشَدُّ مِنه عَذابًا، وإنَّه لَأهونُهم عَذابًا)) [5031] أخرجه البخاري (6562) بنحوه، ومسلم (213) واللَّفظُ له. .
قال
النَّوويُّ: (أمَّا الشِّراكُ فبكَسرِ الشِّينِ، وهو أحَدُ سُيُورِ النَّعلِ، وهو الَّذي يَكُونُ على وَجْهِها وعلى ظَهرِ القَدَمِ. والغَلَيانُ مَعرُوفٌ، وهو شِدَّةُ اضطِراب الماءِ ونَحوِه على النَّارِ لِشِدَّةِ اتِّقادِها... وأمَّا المِرْجَلُ فبكَسرِ الميمِ وفَتحِ الجيمِ وهو قِدْرٌ مَعرُوفٌ سَواءٌ كانَ مِن حَديدٍ أو نُحاسٍ أو حِجارةٍ أو خَزفِ، هذا هو الأصَحُّ، وقال صاحِبُ المَطالِعِ: وقيلَ: هو القِدْرُ مِنَ النُّحاسِ يَعني خاصَّةً، والأولُ أعرَفُ، والميمُ فيه زائِدةٌ. وفي هذا الحَديثِ وما أشبَهه تَصريحٌ بتَفاوُتِ عَذابِ أهلِ النَّارِ كَما أنَّ نَعيمَ أهلِ الجَنَّةِ مُتَفاوِتٌ، واللهُ أعلَمُ)
[5032] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/ 86). .
والمُنافِقُونَ في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَعني جَلَّ ثَناؤُه بقَولِه:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ إنَّ المُنافِقينَ في الطَّبَقِ الأسفَلِ مِن أطباقِ جَهَنَّم. وكُلُّ طَبَقٍ مِن أطباقِ جَهَنَّم دَرَكٌ)
[5033] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 619). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (أخبَرَ تعالى:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي: يَومَ القيامةِ، جَزاءً على كُفرِهم الغَليظِ. قال الوالِبيُّ عَنِ
ابنِ عَبَّاس:
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي: في أسفَلِ النَّارِ. وقال غيرُه: النَّارُ دَرَكاتٌ، كَما أنَّ الجَنَّةَ دَرَجاتٍ)
[5034] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 441). .
قال القُرطُبيُّ: (هذا البابُ يَدلُّكَ على أنَّ كُفرَ مَن كَفرَ فقَط ليسَ كَكُفرِ مَن طَغى وكَفرَ وتَمرَّدَ وعَصى، ولا شَكَّ أنَّ الكُفَّارَ في عَذابِ جَهَنَّم مُتَفاوِتُون كَما قَد عُلِمَ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولَأنَّا نَعلَمُ على القَطْعِ والثَّباتِ أنَّه ليسَ عَذابُ مَن قَتلَ الأنبياءِ والمُسلِمينَ وفَتَكَ فيهم وأفسَدَ في الأرضِ وكَفرَ مُساويًا لِعَذابِ مَن كَفرَ فقَط وأحسَنَ لِلأنبياءِ والمُسلِمينَ، ألا تَرى أبا طالِبٍ كيفَ أَخرَجَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ضَحضاحٍ لِنُصرَتِه إيَّاه، وذَبِّه عَنه وإحسانِه إليه؟ وحَديثُ
مُسلِمٍ عَن سَمُرةَ يَصِحُّ أن يَكُونَ في الكُفَّارِ بدَليلِ حَديثِ أبي طالِبٍ، ويَصِحُّ أن يَكُونَ فيمَن يُعذَّبُ مِنَ المُوحِّدينَ)
[5035] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 120). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ تَفاوُتَ أهلِ النَّارِ في العَذابِ هو بحَسَبِ تَفاوُتِ أعمالِهم الَّتي دَخَلُوا بها النَّارَ كَما قال تعالى:
وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا، وقال تعالى:
جَزَاءً وِفَاقًا. قال
ابنُ عَبَّاسٍ: وافَقَ أعمالَهم، فليسَ عِقابُ مَن تَغَلَّظَ كُفرُه، وأفسَدَ في الأرضِ، ودَعا إلى الكُفْرِ، كَمَن ليسَ كَذَلِكَ، قال تعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدَّوا عَن سَبيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] . وقال تعالى:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ.
وكَذَلِكَ تَفاوُتُ عَذابِ عُصاةِ المُوحِّدينَ في النَّارِ بحَسَبِ أعمالِهم، فليسَ عُقُوبةُ أهلِ الكَبائِرِ كَعُقُوبةِ أصحابِ الصَّغائِرِ، وقَد يُخَفَّفُ عَن بَعضِهمُ العَذابُ بحَسَناتٍ أُخَرَ لَه، أو بما شاءَ اللهُ مِنَ الأسبابِ؛ ولِهذا يَمُوتُ بَعضُهم في النَّارِ)
[5036] يُنظر: ((التخويف من النار)) (ص: 181). .