المَبحَثُ الثَّاني: مِن ثَمَراتِ الإيمانِ بالقَدَرِ: الاستقامةُ على مَنهَجٍ سواءٍ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ
العِبادُ بما فيهم من قُصورٍ وضَعفٍ لا يستقيمون على مَنهجٍ سَواءٍ.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ... [المعارج: 19-22] .
قال
السَّعديُّ: (هذا الوَصفُ للإنسانِ من حيثُ هو وَصفُ طبيعتِه الأصليَّةِ؛ أنَّه هَلوعٌ.
وفُسِّر الهَلُوعُ بأنَّه:
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا فيَجزَعُ إن أصابه فقرٌ أو مرَضٌ، أو ذَهابُ محبوبٍ له من مالٍ أو أهلٍ أو ولَدٍ، ولا يَستعمِلُ في ذلك الصَّبرَ والرِّضا بما قضى اللهُ.
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا فلا يُنفِقُ مما آتاه اللهُ، ولا يَشكُرُ اللهَ على نِعَمِه وبِرِّه، فيجزَعُ في الضَّرَّاءِ، ويمنعُ في السَّرَّاءِ.
إِلَّا الْمُصَلِّينَ الموصوفين بتلك الأوصافِ؛ فإنهم إذا مسَّهم الخيرُ شكروا اللهَ، وأنفقوا مما خوَّلهم اللهُ، وإذا مسَّهم الشَّرُّ صبروا واحتسبوا...)(
يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
فالإيمانُ بالقَدَرِ يجعَلُ الإنسانَ يمضي في حياتِه على منهَجٍ سواءٍ، لا تُبطِرُه النِّعمةُ، ولا تُيئِسُه المصيبةُ، فهو يَعلَمُ أنَّ كُلَّ ما أصابه من نِعَمٍ وحَسَناتٍ مِنَ اللهِ، لا بذكائِه وحُسنِ تدبيرِه
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] .
وإذا أصاب العبدَ الضَّرَّاءُ والبلاءُ عَلِم أنَّ هذا بتقديرِ اللهِ ابتلاءً منه، فلا يجزَعُ ولا ييأَسُ، بل يحتَسِبُ ويَصبِرُ، فيُورِثُ ذلك في قَلبِ العبدِ المؤمِنِ الرِّضا والطُّمَأنينةَ.
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: 22-23] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11] .
وقد امتدح اللهُ عِبادَه، فقال:
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّنْ رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 156-157] .
قال
الشَّوكاني: (من فوائِدِ رُسوخِ الإيمانِ بهذه الخَصلةِ أي: الإيمانِ بالقَدَرِ أنَّه يَعلَمُ أنَّه ما وصل إليه من الخيرِ على أيِّ صِفةٍ كان، وبيَدِ مَن اتَّفَق، فهو منه عزَّ وجَلَّ، فيحصُلُ له بذلك من الحُبُورِ والسُّرُورِ ما لا يقادَرُ قَدْرُه؛ لِما له سُبحانَه من العظَمةِ التي تضيقُ أذهانُ العِبادِ عن تصَوُّرِها، وتَقصُرُ عقولُهم عن إدراكِ أدنى منازلها... وما أحسَنَ ما قاله الحربيُّ رحمه اللهُ: «من لم يؤمِنْ بالقَدَرِ لم يتهَنَّ بعَيْشِه»، وهذا صحيحٌ؛ فما تعاظَمَت القُلوبُ بالمصائِبِ، وضاقت بها الأنفُسُ وحَرِجَت بها الصُّدورُ، إلَّا من ضَعفِ الإيمانِ بالقَدَرِ)(
يُنظر: ((قطر الولي على حديث الولي)) (ص: 396). .
عن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحَدٍ إلَّا للمُؤمِنِ؛ إن أصابته سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر، فكان خيرًا له ))(
أخرجه مسلم (2999). .
قال أبو العباس القرطبيُّ: (المؤمِنُ هنا هو العالِمُ باللهِ، الرَّاضي بأحكامِه، العامِلُ على تصديقِ موعودِه، وذلك أنَّ المؤمِنَ المذكورَ إمَّا أن يُبتلى بما يضُرُّه، أو بما يَسُرُّه، فإن كان الأوَّلَ صَبَر واحتسَبَ ورَضِيَ، فحصل على خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ وراحتِهما، وإن كان الثَّاني عرف نِعمةَ اللهِ عليه ومِنَّتَه فيها، فشكرها وعَمِل بها، فحصل على نعيمِ الدُّنيا ونعيمِ الآخِرةِ.
و«قَولُه: وليس ذلك إلَّا للمؤمِنِ» أي: المؤمِنِ الموصوفِ بما ذكَرْتُه؛ لأنَّه إن لم يكُنْ كذلك لم يصبرْ على المصيبةِ ولم يحتَسِبْها، بل يتضجَّرُ ويتسَخَّطُ، فينضافُ إلى مصيبتِه الدُّنيويةِ مُصيبتُه في دينِه، وكذلك لا يَعرِفُ النِّعمةَ ولا يقومُ بحَقِّها ولا يشكُرُها، فتنقَلِبُ النِّعمةُ نِقمةً والحَسَنةُ سَيِّئةً. نعوذُ باللهِ من ذلك)(
يُنظر: ((المفهم)) (6/ 630). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (اللهُ سُبحانَه وتعالى المسؤولُ المرجُوُّ الإجابةِ أن يتولَّاكم في الدُّنيا والآخِرةِ، وأن يُسبِغَ عليكم نِعَمَه ظاهِرةً وباطِنةً، وأن يجعَلَكم ممَّن إذا أُنعِمَ عليه شَكَر، وإذا ابتُلِيَ صَبَر، وإذا أذنَبَ استغفَرَ؛ فإنَّ هذه الأُمورَ الثَّلاثةَ عُنوانُ سَعادةِ العَبدِ، وعلامةُ فَلاحِه في دُنياه وأُخراه، ولا ينفَكُّ عبدٌ عنها أبدًا؛ فإنَّ العَبْدَ دائِمُ التقَلُّبِ بين هذه الأطباقِ الثَّلاثةِ)(
يُنظر ((الوابل الصيب)) (ص: 5). .