المَبحَثُ الثَّاني: مدى إدراكِ العَقلِ للعِلَلِ والأوامِرِ والأفعالِ وما فيها من حُسْنٍ وقُبْحٍ
إنَّ لأوامِرِ اللهِ ومخلوقاتِه عِلَلًا وحِكمًا، فإنَّه لا يأمُرُ إلَّا لحِكْمةٍ، ولا يخلُقُ إلَّا لحِكْمةٍ.
وبعضُ هذه الحِكَمِ يعودُ إلى اللهِ تعالى، وبعضُها يعودُ إلى العِبادِ؛ فما يعودُ إلى العِبادِ هو ما فيه خيرُهم وصلاحُهم في العاجِلِ والآجلِ، وما يعودُ إلى اللهِ تعالى هو محبَّتُه أن يُعبَدَ ويُطاعَ ويُتابَ إليه، ويُرجىَ ويُخافُ منه، ويُتَوكَّلُ عليه ويُجاهَدَ في سبيلِه.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الحُسْنُ والقُبحُ من أفعالِ العِبادِ يرجِعُ إلى كونِ الأفعالِ نافعةً لهم وضارةً لهم، وهذا مما لا ريبَ فيه أنَّه يُعرَفُ بالعَقلِ... وأمَّا إثباتُ ذلك في حَقِّ اللهِ تعالى فهو مبنيٌّ على معنى محبَّةِ اللهِ ورِضاه، وغَضَبِه وسَخَطِه وفَرَحِه بتَوبةِ التائِبِ ونحوِ ذلك)(
يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 422). .
والنصوصُ الدَّالَّةُ على أنَّ للهِ حِكَمًا في خَلْقِه وأمْرِه كثيرةٌ؛ منها:
قَولُ اللهِ تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وقَولُ اللهِ سُبحانَه:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] .
والعَقلُ البشَريُّ يستطيعُ أن يدرِكَ شيئًا من هذه الحِكَمِ؛ فهو يستطيعُ أن يُدرِكَ ما في الأفعالِ من حُسنٍ وقُبحٍ، فيُدرِكُ مثلًا أنَّ الظُّلمَ والكَذِبَ والسَّرِقةَ أمرٌ قبيحٌ، وأنَّ العَدْلَ والصِّدقَ وإصلاحَ ذاتِ البَينِ أمرٌ حَسَنٌ(
يُنظر: ((الإيمان بالقضاء والقدر)) لعمر الأشقر (ص: 49). .
قال القرافي: (حُسنُ الشَّيءِ وقُبحُه يرادُ بهما:
ما لاءم الطَّبعَ أو نافَرَه، نحوُ إنقاذِ الغَرْقى واتهامِ الأبرياءِ، أو كَونُه صِفةَ كَمالٍ أو نَقصٍ، نحوُ: العِلْمُ حَسَنٌ، والجَهلُ قَبيحٌ، أو كَونُه موجِبًا للمَدحِ أو الذَّمِّ الشَّرعِيَّينِ. والأوَّلانِ عقلِيَّانِ إجماعًا)(
يُنظر: ((الذخيرة)) (1/ 71). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (اعلَمْ أنَّه لا يمكِنُ العاقِلَ أن يدفَعَ عن نَفْسِه أنَّه قد يميِّزُ بعَقْلِه بين الحَقِّ والباطِلِ والصِّدقِ والكَذِبِ وبين النَّافِعِ والضَّارِّ والمصلحةِ والمفسَدةِ، ولا يمكِنُ المؤمِنَ أن يدفَعَ عن إيمانِه أنَّ الشريعةَ جاءت بما هو الحقُّ والصِّدقُ في المعتقَداتِ، وجاءت بما هو النَّافِعُ والمصلحةُ في الأعمالِ التي تدخُلُ فيها الاعتقاداتُ؛ ولهذا لم يختَلِفِ النَّاسُ أنَّ الحَسَنَ أو القبيحَ إذا فُسِّرَ بالنافِعِ والضَّارِّ والملائمِ للإنسانِ والمنافي له واللذيذِ والأليمِ؛ فإنَّه قد يُعلَمُ بالعَقلِ. هذا في الأفعالِ، وكذلك إذا فُسِّر حُسْنُه بأنَّه موجودٌ أو كمالُ الموجودِ يُوصَفُ بالحُسنِ، ومنه قَولُه تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وقَولُه:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ كما نعلَمُ أنَّ الحَيَّ أكمَلُ من الميِّتِ في وجودِه، وأنَّ العالِمَ أكمَلُ من الجاهِلِ، وأنَّ الصادِقَ أكمَلُ من الكاذِبِ؛ فهذا أيضًا قد يُعلَمُ بالعَقلِ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 347). .
وقال أيضًا: (العُقَلاءُ مُتَّفِقون على أنَّ كونَ بعضِ الأفعالِ ملائمًا للإنسانِ، وبعضِها منافِيًا له إذا قيل: هذا حَسَنٌ وهذا قبيحٌ. فهذا الحُسنُ والقُبح مما يُعلَمُ بالعَقلِ باتِّفاقِ العُقلاءِ.
وتنازعوا في الحُسنِ والقُبحِ بمعنى كونِ الفِعلِ سَببًا للذَّمِّ والعِقابِ هل يُعلَمُ بالعَقلِ أم لا يُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 309). .
وقال أيضًا: (أكثَرُ الطَّوائِفِ على إثباتِ الحُسنِ والقُبحِ العَقليَّينِ، لكِنْ لا يُثبتونه كما يُثبتُه نفاةُ القَدَرِ من
المعتزلةِ وغيرِهم، بل القائلون بالتحسينِ والتقبيحِ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ من السَّلَف والخَلَف كمن يقولُ به من الطوائفِ الأربعةِ وغيرِهم يُثبتون القَدَرَ والصِّفاتِ ونحوَهما مما يخالِفُ فيه
المعتزلةُ أهلَ السُّنَّةِ ويقولون مع هذا بإثباتِ الحُسنِ والقُبحِ العَقليَّينِ، وهذا قولُ الحنفيَّةِ، ونقلوه أيضًا عن
أبي حنيفةَ نَفْسِه، وهو قولُ كثيرٍ من المالكيَّةِ والشَّافعيةِ والحنبليَّةِ، كأبي الحسَنِ التميميِّ وأبي الخطَّابِ وغيرِهما من أئمَّةِ أصحابِ
أحمدَ، كأبي عليِّ بن أبي هُرَيرةَ، و
أبي بكرٍ القَفَّال الشَّاشي، وغيرِهما من الشَّافعيةِ، وكذلك من أصحابِ
مالكٍ، وكذلك أهلُ الحديثِ، كأبي نصرٍ السجزيِّ، وأبي القاسِمِ سعدِ بنِ عَليٍّ الزنجانيِّ، وغيرِهما.
بل هؤلاء ذكَروا أنَّ نَفْيَ ذلك هو من البِدَعِ التي حدثت في الإسلامِ في زمَنِ
أبي الحسَنِ الأشعريِّ لَمَّا ناظر
المعتزلةَ في القَدَرِ بطريقِ
الجَهمِ بنِ صَفوانَ ونحوِه من أئمَّةِ الجبرِ، فاحتاج إلى هذا النَّفيِ، قالوا: وإلَّا فنَفيُ الحُسنِ والقُبحِ العقليَّينِ مُطلقًا لم يَقُلْه أحدٌ من سَلَفِ الأُمَّةِ ولا أئِمَّتِها، بل ما يؤخَذُ من كلامِ الأئمةِ والسَّلَفِ في تعليلِ الأحكامِ وبيانِ حِكْمةِ اللهِ في خَلْقِه وأمرِه وبيانِ ما فيما أمَرَ اللهُ به من الحُسْنِ الذي يُعلَمُ بالعَقلِ، وما في مناهيه من القُبحِ المعلومِ بالعَقلِ: ينافي قَولَ النُّفاةِ، والنفاةُ ليس لهم حُجَّةٌ في النَّفيِ أصلًا)(
يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 420). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (الأفعالُ في نَفْسِها حَسَنةٌ وقبيحةٌ، كما أنها نافعةٌ وضارَّةٌ، والفرقُ بينهما كالفرقِ بين المطعوماتِ والمشموماتِ والمرئياتِ، ولكِنْ لا يترتَّبُ عليهما ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا بالأمرِ والنهيِ، وقبل وُرودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ قبيحًا موجبًا للعقابِ مع قُبحِه في نَفْسِه، بل هو في غايةِ القُبحِ. واللهُ لا يعاقِبُ عليه إلَّا بعد إرسالِ الرُّسُلِ، فالسُّجودُ للشيطانِ والأوثانِ، والكَذِبُ والزِّنا، والظُّلمُ والفواحِشُ، كُلُّها قبيحةٌ في ذاتِها، والعقابُ عليها مشروطٌ بالشَّرعِ.
فالنُّفاةُ يقولون: ليست في ذاتها قبيحةً، وقُبحُها والعِقابُ عليها إنما ينشأُ بالشَّرعِ.
و
المعتزلةُ تقولُ: قُبحُها والعقابُ عليها ثابتانِ بالعَقلِ.
وكثيرٌ من الفقهاءِ من الطوائِفِ الأربع يقولون: قُبحُها ثابتٌ بالعَقلِ، والعِقابُ متوقِّفٌ على ورودِ الشَّرعِ، وهو الذي ذكره سعدُ بنُ عليٍّ الزنجانيُّ من الشَّافعية، وأبو الخطَّاب من الحنابلةِ، وذكره الحنفيةُ وحكوه عن
أبي حنيفةَ نَصًّا، لكِنَّ
المعتزلةَ منهم يصَرِّحون بأنَّ العقابَ ثابتٌ بالعَقلِ.
وقد دلَّ القرآنُ أنَّه لا تلازُمَ بين الأمرينِ، وأنَّه لا يعاقَبُ إلَّا بإرسالِ الرُّسُلِ، وأنَّ الفِعلَ نَفْسَه حَسَنٌ وقَبيحٌ)(
يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 247). .
وقال أيضًا: (كُلُّ من تكلَّم في عِلَلِ الشَّرعِ ومحاسِنِه وما تضَمَّنه من المصالحِ ودَرءِ المفاسِدِ، فلا يمكِنُه ذلك إلَّا بتقريرِ الحُسنِ والقُبحِ العقليَّينِ؛ إذ لو كان حُسْنُه وقُبحُه بمجَرَّدِ الأمرِ والنَّهيِ لم يتعرَّضْ في إثباتِ ذلك لغيرِ الأمرِ والنَّهيِ فقط)(
يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 42). .
وقال ابنُ الوزير اليماني: (القَولُ بحِكْمةِ اللهِ تعالى أوضَحُ من أن يُروى عن صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو مسلمٍ سالمٍ من تغييرِ الفِطرةِ التي فطر اللهُ خَلْقَه عليها؛ ولذلك تُقِرُّ به العوامُّ من كُلِّ فِرقةٍ... ولا رَيبَ ولا شُبهةَ أنَّ قاعِدةَ الكَمالِ في الأفعالِ أن يكونَ صدورُها عن الحِكْمةِ البالغةِ في توجيهِها إلى المصالحِ الرَّاجِحةِ والعواقِبِ الحميدةِ، فكلَّما ظهر ذلك فيها كانت أدَلَّ على حِكْمةِ فاعِلِها وعِلْمِه وحُسنِ اختيارِه ومحامِدِه، وكُلَّما بَعُدت عن ذلك كانت أشبَهَ بالآثارِ الاتفاقيةِ وما يتولَّدُ عن العِلَلِ المُوجِبةِ، وأشبهت أفعالَ الصِّبيانِ في ملاعِبِهم والمجانينِ في خيالاتِهم، فلا يوجَدُ في أفعالِ المخلوقين أخَسُّ ولا أنقَصُ من أفعالِ الصِّبيانِ والمجانينِ؛ لخُلُوِّها عن الحِكْمةِ مع أنها لم تخْلُ من موافَقةِ شهَواتهم ولم تُجَرَّدْ عن كُلِّ داعٍ، فمن نفى عن أفعالِ اللهِ كُلَّ داعٍ وحِكْمةٍ فقد جعلها من هذه الجِهةِ أنقَصَ قَدرًا من أفعالِ الصِّبيانِ والمجانينِ في ملاعِبِهم وجنونِهم!)(
يُنظر: ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 182). .