المَبحَثُ الأوَّلُ: الاعتمادُ في معرفةِ القَدَرِ وحُدودِه وأبعادِه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، والنَّهيُ عن الخَوضِ فيه
ينبغي الاعتمادُ في معرفةِ القَدَرِ وحُدودِه وأبعادِه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، وتَرْكُ الاعتمادِ في ذلك على نظَرِ العقولِ ومَحْضِ القياسِ؛ فالعقلُ الإنسانيُّ لا يستطيعُ أن يضَعَ بنَفْسِه الأسُسَ التي تنقِذُه من الانحرافِ والضلالِ في هذا البابِ، والذين خاضوا في هذه المسألةِ بعُقولِهم ضَلُّوا وتاهوا، فمنهم من كذَّب بالقَدَرِ، ومنهم من ظَنَّ أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ يُلزِمَ القولَ بالجبرِ، ومنهم من ناقَضَ الشَّرعَ بالقَدَرِ، وكُلُّ انحرافٍ من ذلك سبَّب مشكلاتٍ في واقِعِ البشَرِ وحياتِهم.
إنَّ الإسلامَ وضع بين يدَيِ الإنسانِ معالمَ الإيمانِ بالقَدَرِ، فهو يقومُ على أنَّ اللهَ عَلِمَ كلَّ ما هو كائِنٌ وكتبه وشاءَه وخلَقَه، واستيعابُ العقلِ الإنسانيِّ لهذه الحقائِقِ سَهلٌ ميسورٌ، ليس فيه صعوبةٌ ولا غموضٌ ولا تعقيدٌ، أمَّا البحثُ في سِرِّ القَدَرِ والغَوصُ في أعماقِه فإنه يبدِّد الطاقةَ العقليَّةَ ويُهدِرُها؛ لأنَّه أمرٌ محجوبٌ عِلْمُه عن البشَرِ، وهو غيبٌ يجبُ الإيمانُ به، ولا يجوزُ السؤالُ عن كُنْهِه(
يُنظر: ((الإيمان بالقضاء والقدر)) لعمر الأشقر (ص: 45). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلْمِ في هذا البابِ:1- قال
جَعفَرُ بنُ محمَّدٍ: (النَّاظِرُ في القَدَرِ كالناظِرِ في عينِ الشَّمسِ، كلما ازداد نظرًا ازداد حيرةً)(
يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/196). .
2- قال
عليُّ بن المدينيِّ: (السُّنَّةُ اللازمةُ التي من ترك منها خصلةً لم يَقُلْها أو يؤمِنْ بها، لم يكُنْ من أهلِها: الإيمانُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، ثم تصديقٌ بالأحاديثِ والإيمانُ بها، لا يقالُ: لمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديقُ بها والإيمانُ بها وإن لم يَعلَمْ تفسيرَ الحديثِ ويَبلُغْه عقْلُه فقد كُفِيَ ذلك، وأُحكِمَ له، فعليه الإيمانُ به والتسليمُ، مِثلُ حديثِ زيدِ بنِ وَهبٍ عن
ابنِ مسعودٍ، قال: حدَّثنا الصَّادِقُ المصدوقُ، ونحوِه من الأحاديثِ المأثورةِ عن الثقاتِ، ولا يخاصِمُ أحدًا ولا يناظِرُ، ولا يتعلَّمُ الجَدَلَ.
والكلامُ في القَدَرِ وغَيرِه من السُّنَّةِ مكروهٌ، ولا يكونُ صاحِبُه وإن أصاب السُّنَّةَ بكلامِه من أهلِ السُّنَّةِ حتى يدعَ الجَدَلَ ويُسَلِّمَ ويؤمِنَ بالإيمانِ)(
يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/185). .
3- قال
أحمدُ بنُ حَنبلٍ: (من السُّنَّةِ اللازمةِ التي من ترك منها خصلةً لم يقُلْها ويؤمِنْ بها لم يكُنْ من أهلِها: الإيمانُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، والتصديقُ بالأحاديثِ فيه، والإيمانُ بها، لا يقالُ: لِمَ؟ ولا: كيف؟ إنما هو التصديقُ بها والإيمانُ بها. ومن لم يَعرِفْ تفسيرَ الحديثِ، ولم يبلُغْه عَقلُه، فقد كُفِيَ ذلك، وأُحكِمَ له، فعليه الإيمانُ به والتسليمُ له، مِثلُ حديثِ الصَّادِقِ المصدوقِ، وما كان مِثْلَه في القَدَرِ)(
يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 176). .
4- قال
الطحاويُّ: (أصلُ القَدَرِ سِرُّ الله تعالى في خَلْقِه، لم يَطَّلِعْ على ذلك مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، والتعمُّقُ والنظَرُ في ذلك ذريعةُ الخذلانِ، وسُلَّمُ الحِرمانِ، ودرَجةُ الطُّغيانِ، فالحَذَرَ كُلَّ الحذَرِ من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسةً، فإنَّ اللهَ تعالى طوى عِلمَ القَدَرِ عن أنامِه، ونهاهم عن مرامِه، كما قال اللهُ تعالى في كتابِه:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] فمن سأل لمَ فِعَل؟ فقد ردَّ حُكمَ الكتابِ، ومن ردَّ حُكمَ الكتابِ كان من الكافرين. فهذا جملةُ ما يحتاجُ إليه من هو منوَّرٌ قَلبُه من أولياءِ اللهِ تعالى، وهي درجةُ الرَّاسخين في العِلْم، لأنَّ العِلْم عِلمانِ: عِلمٌ في الخَلْقِ موجودٌ، وعِلمٌ في الخَلْق مفقودٌ، فإنكارُ العِلْم الموجودِ كُفرٌ، وادِّعاءُ العِلْم المفقودِ كُفرٌ، ولا يثبُتُ الإيمانُ إلَّا بقَبولِ العِلْم الموجودِ، وتركِ العِلْم المفقودِ. ونؤمِنُ باللَّوحِ والقَلَم، وبجميعِ ما فيه قد رُقِم، فلو اجتمع الخَلْقُ كُلُّهم على شيءٍ كتبه اللهُ تعالى في أنَّه كائِنٌ ليجعلوه غيرَ كائنٍ، لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كُلُّهم على شيءٍ لم يكتُبْه اللهُ تعالى فيه ليجعَلوه كائنًا، لم يقدروا عليه، جَفَّ القَلَمُ بما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ، وما أخطأ العبدَ لم يكُنْ ليصِيبَه، وما أصابه لم يكُنْ ليُخطِئَه. وعلى العبدِ أن يَعلَمَ أنَّ اللهَ قد سبق عِلمُه في كُلِّ كائنٍ مِن خَلْقِه، فقَدَّر ذلك تقديرًا محكَمًا مُبرَمًا، ليس فيه ناقِضٌ، ولا مُعَقِّبٌ، ولا مزيلٌ ولا مُغَيِّرٌ، ولا ناقِصٌ ولا زائدٌ من خَلقِه في سماواتِه وأرضِه، وذلك من عَقدِ الإيمانِ، وأُصولِ المعرفةِ، والاعترافِ بتوحيدِ اللهِ تعالى وربوبيَّتِه، كما قال تعالى في كتابِه:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2] ، وقال تعالى:
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب:38] ، فويلٌ لمن صار في القَدَرِ للهِ خصيمًا، وأحضر للنظَرِ فيه قلبًا سقيمًا، لقد التمس بوَهمِه في فَحصِ الغَيبِ سِرًّا كتيمًا، وعاد بما قال فيه أفاكًا أثيمًا)(
يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 48-53). .
5- قال
البربهاريُّ: (الكلامُ والجَدَلُ والخصومةُ في القَدَرِ خاصَّةً، منهيٌّ عنه عند جميعِ الفِرَقِ؛ لأنَّ القَدَرَ سِرُّ اللهِ، ونهى الربُّ تبارك وتعالى الأنبياءَ عن الكلامِ في القَدَر، ونهى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الخصومةِ في القَدَرِ، وكَرِهه العُلَماءُ وأهلُ الورَعِ ونهَوا عن الجِدالِ في القَدَرِ، فعليك بالتسليمِ والإقرارِ والإيمانِ، واعتقادِ ما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جملةِ الأشياءِ، وتسكُتُ عمَّا سوى ذلك)(
يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 80). .
6- قال
الآجُرِّيُّ: (لا يحسُنُ بالمسلمين التنقيرُ والبحثُ عن القَدَر؛ لأنَّ القَدَرَ سِرٌّ من أسرارِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، بل الإيمانُ بما جرت به المقاديرُ من خيرٍ أو شَرٍّ واجِبٌ على العِبادِ أن يؤمنوا به، ثمَّ لا يأمَنُ العَبدُ أن يبحَثَ عن القَدَرِ فيُكذِّبَ بمقاديرِ اللهِ الجاريةِ على العِبادِ، فيَضِلَّ عن طريقِ الحَقِّ)(
يُنظر: ((الشريعة)) (2/ 702). .
7- قال
ابنُ بطة: (وأما الوَجهُ الآخَرُ من عِلمِ القَدَرِ الذي لا يحِلُّ النظَرُ فيه ولا الفِكرُ به، وحرامٌ على الخَلْقِ القَولُ فيه: كيف؟ ولم؟ وما السببُ؟ ممَّا هو سرُّ اللهِ المخزونُ وعِلمُه المكتومُ الذي لم يُطلِعْ عليه ملكًا مُقَرَّبًا ولا نبيًّا مُرسَلًا، وحجَب العقولَ عن تخيُّلِ كنْهِ عِلمِه، والنَّاظِرُ فيه كالناظِرِ في عينِ الشَّمسِ، كلما ازداد فيه نظرًا ازداد فيه تحيرًا، ومن العِلْم بكيفيَّتِها بُعدًا- فهو التفَكُّرُ في الرَّبِّ عزَّ وجَلَّ كيف فعل كذا وكذا، ثم يقيسُ فِعلَ اللهِ عزَّ وجَلَّ بفِعلِ عِبادِه، فما رآه مِن فِعلِ العِبادِ جَورًا يظُنُّ أن ما كان من فِعْلِ مِثلِه جَورٌ، فينفي ذلك الفِعلَ عن اللهِ، فيصير بين أمرينِ؛ إمَّا أن يعترِفَ للهِ عزَّ وجَلَّ بقضائِه وقَدَرِه، ويرى أنَّه جَورٌ مِن فِعْلِه، وإمَّا أن يرى أنَّه ممن يُنَزِّه اللهَ عن الجَورِ، فينفي عنه قضاءَه وقَدَرَه، فيجعَلُ مع اللهِ آلهةً كثيرةً يحولون بين اللهِ وبين مشيئتِه، فبالفِكرِ في هذا وشِبْهِه والتفكُّرِ فيه والبحثِ والتنقيرِ عنه هلكت القَدَريَّةُ حتى صاروا زنادِقةً ومُلحِدةً ومجوسًا؛ حيث قاسوا فِعْلَ الرَّبِّ بأفعالِ العِبادِ وشَبَّهوا اللهَ بخَلقِه ولم يَعُوا عنه ما خاطبهم به؛ حيث يقولُ:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] .
فمِمَّا لا يحِلُّ لأحدٍ أن يتفكَّرَ فيه ولا يَسأَلَ عنه، ولا يقولَ فيه: لمَ لا ينبغي لأحدٍ أن يتفكَّرَ لمَ خَلَق اللهُ
إبليسَ وهو قد عَلِم قبل أن يَخلُقَه أنَّه سيعصيه، وأن سيكونُ عدُوًّا له ولأوليائِه؟ ولو كان هذا من فِعلِ المخلوقين إذا عَلِم أحَدُهم أنَّه إذا اشترى عبدًا يكونُ عدوًّا له ولأوليائِه، ومضادًّا له في محابِّه، وعاصيًا له في أمْرِه، ولو فعل ذلك لقال أولياؤُه وأحباؤه: إنَّ هذا خطَأٌ وضَعفُ رأيٍ وفَسادُ نظامِ الحِكْمةِ، فمن تفكَّر في نَفْسِه وظنَّ أنَّ اللهَ لم يُصِبْ في فِعْلِه حيثُ خَلَق
إبليسَ؛ فقد كَفَر، ومن قال: إنَّ اللهَ لم يَعلَمُ قبل أن يَخلُقَ
إبليسَ أنَّه يخلُقُ
إبليسَ عَدُوًّا له ولأوليائِه، فقد كَفَر، ومن قال: إنَّ اللهَ لم يخلُقْ
إبليسَ أصلًا، فقد كفر. وهذا قولُ الزنادقةِ المُلحِدةِ، فالذي يلزَمُ المُسلِمين من هذا أن يَعلَمُوا أنَّ اللهَ خلق
إبليسَ وقد علم منه جميعَ أفعالِه؛ ولذلك خلَقَه، ويَعلَموا أنَّ فِعلَ اللهِ ذلك عدلٌ صوابٌ، وفي جميعِ أفعالِه لا يُسأَلُ عمَّا يفعَلُ وهم يُسأَلون)(
يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (3/ 248). .
8- قال
أبو المظفَّرِ السَّمعانيُّ: (قد ذكَرْنا أنَّ سَبيلَ معرفةِ هذا البابِ التوقيفُ من قِبَل الكِتابِ والسُّنَّةِ، دون محضِ القِياسِ، ومجرَّدِ المعقولِ، فمن عدل عن التوقيفِ في هذا البابِ، ضَلَّ وتاه في بحارِ الحَيرةِ، ولم يبلُغْ شِفاءَ النَّفسِ، ولا وصل إلى ما يطمَئِنُّ به القَلبُ؛ وذلك لأنَّ القَدَرَ سِرٌّ من سِرِّ اللهِ وعِلمٌ مِن عِلْمِه ضُرِبَت دونه الأستارُ، وكُفَّت عليه الأزرارُ، واختصَّ اللهُ به علامُ الغيوبِ. حجبه عن عقولِ البشَرِ ومعارفِهم؛ لِما علم من الحِكْمةِ، وسبيلُنا أن ننتَهِيَ إلى ما حدَّ لنا فيه، وألَّا نتجاوَزَ إلى ما وراءَه، فالبحثُ عنه تكَلُّفٌ، والاقتحامُ فيه تعمُّقٌ وتهَوُّرٌ.
وجماعُ هذا البابِ أن يُعلَمَ أنَّ اللهَ تعالى طوى عن العالمِ عِلمَ ما قضاه وقدَّره على عبادِه، فلم يُطلِعْ عليه نبيًّا مُرسَلًا، ولا مَلَكًا مُقَرَّبًا؛ لأنَّه خلقهم ليتعَبَّدَهم ويمتحِنَهم. قال اللهُ تعالى
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ...
فلو كشف لهم عن سِرِّ ما قضى وقدَّر لهم وعليهم في عواقبِ أُمورهم لافتَتَنوا، وفَتَروا عن العَمَلِ، واتَّكَلوا على مصيرِ الأمرِ في العاقبةِ، فيكونُ قُصاراهم عند ذلك أمنٌ أو قنوطٌ. وفي ذلك بطلانُ العِبادِةِ وسقوطُ الخَوفِ والرجاءِ؛ فلَطَفَ اللهُ سُبحانَه بعبادِه وحَجَبَ عنهم عِلمَ القَضاءِ والقَدَرِ، وعلَّقهم بين الخوفِ والرَّجاءِ، والطَّمعِ والوَجَلِ؛ لِيَبلُوَ سعيَهم واجتهادَهم، ولِيَمِيزَ اللهُ الخبيثَ من الطيِّبِ، ولله الحُجَّةُ البالغةُ)(
يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) للأصبهاني (2/ 30). .
9- قال
البغويُّ: (القَدَرُ سِرٌّ من أسرارِ اللهِ لم يُطلِعْ عليه ملَكًا مُقَرَّبًا، ولا نبيًّا مُرسَلًا، لا يجوزُ الخوضُ فيه والبحثُ عنه بطريقِ العَقلِ، بل يعتقِدُ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خلق الخَلْقَ، فجعلهم فريقينِ: أهلَ يمينٍ خلقهم للنعيمِ فَضلًا، وأهلَ شِمالٍ خلقهم للجَحيمِ عَدلًا)(
يُنظر: ((شرح السنة)) (1/ 144). .
10- قال ابنُ أبي العز: (أصلُ القَدَرِ سِرُّ اللهِ في خَلْقِه، وهو كونُه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضلَّ وهدى. قال عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه: القَدَرُ سِرُّ اللهِ فلا تكشِفْه)(
يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 320). .
11- قال
ابنُ رجبٍ: (قد ورد النهيُ عن الخَوضِ في القَدَرِ، ...، والنهيُ عن الخَوضِ في القَدَرِ يكونُ على وُجوهٍ:
منها: ضَربُ كِتابِ اللهِ بَعضِه ببَعضٍ، فيَنزِعُ المُثبِتَ للقَدَرِ بآيةٍ والنَّافيَ له بأخرى. ويقعُ التجادُلُ في ذلك... وهذا من جملةِ الاختلافِ في القرآنِ والمِراءِ فيه، وقد نهِيَ عن ذلك(
أخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داود (4603)، وأحمد (9479) بلفظ: "المراءُ في القرآنِ كُفرٌ" صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1464)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2/243)، والنووي في ((التبيان)) (206). .
ومنها: الخَوضُ في القَدَرِ إثباتًا ونفيًا بالأقيِسَةِ العَقليَّةِ: كقَولِ القَدَريَّةِ: لو قَدَّر وقضى ثم عذَّب كان ظالِمًا. وقَولِ من خالفهم: إنَّ اللهَ جبر العِبادَ على أفعالِهم، ونحوَ ذلك.
ومنها: الخوضُ في سِرِّ القَدَرِ، وقد ورد النهيُ عنه عن عليٍّ وغيرِه من السَّلَفِ؛ فإنَّ العِبادَ لا يطَّلِعون على حقيقةِ ذلك)(
يُنظر: ((بيان فضل علم السلف على علم الخلف)) (ص: 41-46). .
12- قال
ابنُ باز: (هذا بابٌ خاضه الأوَّلون وغَلِط فيه من غَلِط، والواجِبُ الحذَرُ، فعلى كُلِّ مؤمنٍ وكُلِّ مُؤمنةٍ التسليمُ للهِ، والإيمانُ بقَدَرِه سُبحانَه وتعالى، والحِرصُ على الأخذِ بالأسبابِ النَّافعةِ الطيِّبةِ، والبعدُ عن الأسبابِ الضَّارَّةِ، كما عَلَّم اللهُ عِبادَه، وكما جعل لهم قدرةً على ذلك بما أعطاهم من العقولِ والأدواتِ التي يستعينون بها على طاعتِه وتَرْكِ معصيته سُبحانَه وتعالى.
وينبغي عَدَمُ الخَوضِ في هذا البابِ، والإيمانُ بأنَّ اللهَ قدَّر الأشياءَ وعَلِمَها وأحصاها، وأنَّ ما شاء اللهُ كان وما لم يشَأْ لم يكُنْ، وأنَّه الخلَّاقُ العظيمُ القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، وأنَّ جميعَ الموجوداتِ بخَلقِه وتقديرِه سُبحانَه وتعالى، وأنَّ اللهَ أعطى للعبدِ عقلًا وأسبابًا وقُدرةً على الخيرِ والشَّرِّ، كما يأكُلُ ويشرَبُ ويلبَسُ وينكِحُ ويسافِرُ ويقيمُ وينامُ ويقومُ، إلى غير ذلك، يطيعُ ويعصي.
ويُخشى على هؤلاء الخائِضين بالقَضاءِ والقَدَرِ أن يحتجُّوا بالقَدَرِ أو يُنكِروه... إنما الواجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ أن يؤمِنَ بالقَدَرِ، وأن يُسَلِّمَ للهِ بذلك ويَعلَمَ بأنَّ اللهَ قدَّر الأشياءَ وعَلِمها وأحصاها، وأنَّ العبدَ له إرادةٌ وله مشيئةٌ وله اختيارٌ، لكنَّه لا يخرجُ بذلك عمَّا قدَّره اللهُ سُبحانَه وتعالى)(
يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/371). .
13- قال
ابنُ عثيمين: (الخوضُ في القَدَرِ والتنازعُ فيه يوقِعُ المرءَ في متاهاتٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها، وطريقُ السلامةِ أن تحرِصَ على الخيرِ وتسعَى فيه كما أُمِرْتَ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه أعطاك عقلًا وفَهمًا، وأرسل إليك الرسُلَ وأنزل معهم الكتُبَ:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] )(
يُنظر: ((من مشكلات الشباب)) (ص: 32). .