المَبحَثُ السَّادِسُ: الرِّضا بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه
قال الحسَنُ بنُ إسماعيلَ الربعيُّ: قال لي
أحمدُ بنُ حَنبَلٍ إمامُ أهلِ السُّنَّةِ والصَّابِرُ تحت المحنةِ: (أجمع تِسعونَ رَجُلًا من التابعين وأئمَّةِ المُسلِمين وأئمَّةِ السَّلَفِ وفُقَهاءِ الأمصارِ على أنَّ السُّنَّةَ التي تُوفِّيَ عنها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَّلُها الرِّضا بقضاءِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، والتسليمُ لأمرِه، والصَّبرُ على حُكمِه، والأخذُ بما أمرَ اللهُ به، والانتهاءُ عمَّا نهى اللهُ عنه، والإيمانُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، وتركُ المِراءِ والجِدالِ في الدِّينِ ...)(
يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 130). .
وقد عقد
ابنُ القَيِّمِ في كتابِه: (شفاء العليل) بابًا في أحكامِ الرِّضا بالقَضاءِ، واختلافِ النَّاسِ في ذلك، وتحقيقِ القَولِ فيه، فقال: (هذا البابُ من تمامِ الإيمانِ بالقَضاءِ والقَدَرِ، وقد تنازع النَّاسُ فيه، هل هو واجِبٌ أو مُستحَبٌّ؛ على قولينِ: وهما وجهانِ لأصحابِ
أحمدَ؛ فمنهم من أوجبه، واحتجَّ على وجوبِه بأنَّه من لوازِمِ الرِّضا باللهِ رَبًّا... ومنهم من قال: هو مستحبٌّ غيرُ واجبٍ، فإنَّ الإيجابَ يَستلزِمُ دليلًا شرعيًّا، ولا دليلَ يدُلُّ على الوجوبِ، وهذا القولُ أرجَحُ؛ فإنَّ الرِّضا من مقاماتِ الإحسانِ التي هي من أعلى المندوباتِ...)(
يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 687). .
ثم قال
ابنُ القَيِّمِ: (نقولُ: الحُكمُ والقَضاءُ نوعان: دينيٌّ، وكونيٌّ.
فالدِّينيُّ يجِبُ الرِّضا به، وهو من لوازمِ الإسلامِ. والكونيُّ منه ما يجِبُ الرِّضا به، كالنِّعَمِ التي يجِبُ شُكْرُها، ومن تمامِ شُكرِها الرِّضا بها، ومنه ما لا يجوزُ الرِّضا به، كالمعايبِ والذُّنوبِ التي يسخَطُها اللهُ، وإن كانت بقضائِه وقَدَرِه، ومنه ما يُستحَبُّ الرِّضا به كالمصائِبِ، وفي وجوبِه قولان. هذا كُلُّه في الرِّضا بالقَضاءِ الذي هو المقضيُّ، وأمَّا القَضاءُ الذي هو وَصفُه سُبحانَه وفِعْلُه، كعِلْمِه وكتابِه وتقديرِه ومشيئتِه، فالرِّضا به من تمامِ الرِّضا باللهِ رَبًّا وإلهًا ومالِكًا ومدَبِّرًا، فبهذا التفصيلِ يتبيَّنُ الصَّوابُ، ويزولُ اللَّبسُ في هذه المسألةِ العظيمةِ التي هي مَفرِقُ طُرُقٍ بين النَّاسِ.
فإن قيل: فكيف يجتمِعُ الرِّضاءُ بالقَضاءِ بالمصائِبِ مع شِدَّةِ الكراهةِ والنُّفرةِ منها؟ وكيف يكَلَّفُ العبدُ أن يرضى بما هو مؤلمٌ له، وهو كارِهٌ له، والألمُ يقتضي الكراهةَ والبُغضَ المضادَّ للرِّضا واجتماعُ الضِّدَّينِ محالٌ؟
قيل: الشَّيءُ قد يكونُ محبوبًا مَرضيًّا من جهةٍ، ومكروهًا من جهةٍ أُخرى، كشُربِ الدَّواءِ النَّافِعِ الكريهِ، فإنَّ المريضَ يرضى به مع شِدَّةِ كراهتِه له، وكصومِ اليومِ الشَّديدِ الحَرِّ، فإنَّ الصائِمَ يرضى به مع شِدَّةِ كراهتِه له، وكالجِهادِ للأعداءِ؛ قال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216] .
فالمجاهِدُ المُخلِصُ يَعلَمُ أنَّ القِتالَ خَيرٌ له، فرَضِيَ به وهو يكرَهُه لِما فيه من التعرُّضِ لإتلافِ النَّفسِ وألَمِها ومفارقةِ المحبوبِ، ومتى قَوِيَ الرِّضا بالشَّيءِ وتمكَّن، انقلبت كراهتُه محبَّةً، وإن لم يخْلُ من الألمِ، فالألمُ بالشَّيءِ لا ينافي الرِّضا به، وكراهتُه من وجهٍ لا ينافي محبَّتَه وإرادتَه والرِّضاءَ به من وَجهٍ آخَرَ)(
يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 687). .
وقال أيضًا: (هاهنا ثلاثةُ أمورٍ: الرِّضا باللهِ، والرِّضا عن الله، والرِّضا بقضاءِ اللهِ.
فالرِّضا به فَرضٌ. والرِّضا عنه -وإن كان من أجَلِّ الأمورِ وأشرَفِ أنواعِ العُبوديَّةِ- فلم يطالَبْ به العمومُ؛ لعَجْزِهم ومشقَّتِه عليهم. وأوجبَته طائفةٌ كما أوجبوا الرِّضا به...
فاختيارُ الرَّبِّ تعالى لعبده نوعانِ.
أحدُهما: اختيارٌ دينيٌّ شرعيٌّ. فالواجِبُ على العبدِ ألَّا يختارَ في هذا النوعِ غيرَ ما اختاره له سَيِّدُه. قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] ، فاختيارُ العبدِ خِلافَ ذلك منافٍ لإيمانِه وتسليمِه، ورضاه باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ رسولًا.
النوعُ الثاني: اختيارٌ كونيٌّ قَدَريٌّ لا يَسخَطُه الرَّبُّ، كالمصائبِ التي يبتلي اللهُ بها عَبدَه. فهذا لا يضرُّه فِرارُه منها إلى القَدَرِ الذي يرفَعُها عنه ويدفَعُها ويكشِفُها، وليس في ذلك منازَعةٌ للرُّبوبيَّةِ...
فهذا يكونُ تارةً واجِبًا، وتارةً يكونُ مستحَبًّا، وتارةً يكونُ مباحًا مستويَ الطَّرَفينِ، وتارةً يكونُ مكروهًا، وتارةً يكونُ حرامًا.
وأمَّا القَدَرُ الذي لا يحبُّه ولا يرضاه -مِثلُ قَدَرِ المعائِبِ والذنوبِ- فالعبدُ مأمورٌ بسَخَطِها، ومنهيٌّ عن الرِّضا بها.
وهذا هو التفصيلُ الواجِبُ في الرِّضا بالقَضاءِ.
وقد اضطرب النَّاسُ في ذلك اضطرابًا عظيمًا، ونجا منه أصحابُ الفَرقِ والتفصيلِ، فإنَّ لَفظَ الرِّضا بالقَضاءِ لَفظٌ محمودٌ مأمورٌ به، وهو من مقاماتِ الصِّدِّيقينَ...
فالرِّضا بالقَضاءِ الدِّينيِّ الشرعيِّ واجِبٌ، وهو أساسُ الإسلامِ وقاعِدةُ الإيمانِ، فيجِبُ على العبدِ أن يكونَ راضيًا به بلا حرَجٍ ولا منازَعةٍ، ولا معارضةٍ ولا اعتراضٍ، قال اللهُ تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
فأقسَمَ أنَّهم لا يؤمِنون حتى يحَكِّموا رسولَه، وحتى يرتَفِعَ الحَرَجُ من نفوسِهم من حُكْمِه، وحتى يُسَلِّموا لحُكْمِه تسليمًا، وهذا حقيقةُ الرِّضا بحُكْمِه.
فالتحكيمُ: في مقامِ الإسلامِ، وانتفاءُ الحَرَجِ: في مقامِ الإيمانِ، والتسليمُ: في مقامِ الإحسانِ.
ومتى خالط القَلبَ بشاشةُ الإيمانِ، واكتحَلَت بصيرتُه بحقيقةِ اليقينِ، وحَيِيَ برُوحِ الوَحيِ، وتمهَّدت طبيعتُه، وانقلبت النَّفسُ الأمَّارةُ مُطمَئِنَّةً راضيةً وادِعةً، وتلقَّى أحكامَ الرَّبِّ تعالى بصَدرٍ واسعٍ مُنشَرِحٍ مُسَلِّمٍ؛ فقد رضي كُلَّ الرِّضا بهذا القَضاءِ الدِّينيِّ المحبوبِ للهِ ولرسولِه.
والرِّضا بالقَضاءِ الكونيِّ القَدَريِّ، الموافِقِ لمحبَّةِ العَبدِ وإرادتِه ورِضاه؛ مِنَ الصِّحَّة، والغِنى، والعافيةِ، واللَّذَّةِ: أمرٌ لازمٌ بمقتضى الطبيعةِ؛ لأنَّه ملائِمٌ للعبدِ، محبوبٌ له؛ فليس في الرِّضا به عبوديَّةٌ، بل العبوديَّةُ في مقابَلَتِه بالشُّكرِ، والاعترافِ بالمنَّةِ، ووَضْعِ النِّعمةِ مواضِعَها التي يحِبُّ اللهُ أن تُوضَعَ فيها، وألَّا يُعصى المنعِمُ بها، وأن يرى التقصيرَ في جميعِ ذلك.
والرِّضا بالقَضاءِ الكَونيِّ القَدَريِّ الجاري على خلافِ مُرادِ العَبدِ ومحبَّتِه ممَّا لا يلائِمُه ولا يدخُلُ تحت اختيارِه: مستحَبٌّ. وهو من مقاماتِ أهلِ الإيمانِ، وفي وجوبه قولانِ، وهذا كالمرَضِ والفَقرِ، وأذى الخَلْقِ له، والحَرِّ والبردِ، والآلامِ ونحوِ ذلك.
والرِّضا بالقَدَرِ الجاري عليه باختيارِه ممَّا يَكرَهُه اللهُ ويَسخَطُه، وينهى عنه، كأنواعِ الظُّلمِ والفُسوقِ والعِصيانِ: حرامٌ يُعاقَبُ عليه. وهو مخالَفةٌ لرَبِّه تعالى؛ فإنَّ اللهَ لا يرضى بذلك ولا يحبُّه، فكيف تتَّفِقُ المحبَّةُ ورضا ما يَسخَطُه الحبيبُ ويُبغِضُه؟!
فعليك بهذا التفصيلِ في مسألةِ الرِّضا بالقَضاءِ)(
يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 184). .
وقال
السَّعديُّ: (الذي أُمِرْنا أن نرضى به المصائِبُ دون المعائِبِ.
فإذا أُصِبْنا بمرَضٍ أو فَقرٍ أو نحوِهما من حُصولِ مَكروهٍ، أو فَقْدِ محبوبٍ، فيَجِبُ علينا الصبرُ على ذلك.
واختُلِف في وجوبِ الرِّضا.
والصَّحيحُ: استحبابُه؛ لأنَّه لم يثبُتْ ورودُ الأمرِ به على وَجهِ الوُجوبِ، ولتعَذُّرِه على أكثَرِ النُّفوسِ؛ لأنَّ الصَّبرَ حَبسُ النَّفسِ عن التسَخُّطِ، واللسانِ عن الشَّكوى، والأعضاءِ عن عَمَلِها بمقتضى السَّخَطِ، من نَتْفِ الشَّعرِ، وشَقِّ الجُيوبِ، وحَثْوِ الترابِ على الرؤوسِ، ونحوِها. وذلك واجِبٌ مقدورٌ.
وأمَّا الرِّضا الذي هو مع ذلك طُمَأنينةُ القَلبِ عند المصيبةِ، وألَّا يكونَ فيه تمنِّي أنها ما كانت، فهذا صَعبٌ جِدًّا على أكثَرِ الخَلْقِ؛ فلهذا لم يوجِبْه اللهُ ولا رسولُه، وإنما هو من الدَّرَجاتِ العاليةِ، وهو مأمورٌ به أمرَ استحبابٍ)(
يُنظر: ((الدرة البهية)) (ص: 69). .
وقال
ابنُ باز: (الواجِبُ الصبرُ، أمَّا الرِّضا والشُّكرُ فهما مستحبَّانِ، وعند المصيبةِ ثلاثةُ أُمورٍ: الصَّبرُ وهو واجِبٌ، والرِّضا سُنَّةٌ، والشُّكرُ أفضَلُ)(
يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/ 413). .
وقال
ابنُ عثيمين: (الرِّضا معناه أن يكونَ مطمئنًّا منشرحَ الصَّدرِ بما قضى اللهُ عزَّ وجَلَّ، لا يتألمُ نفسيًّا، رغم أنَّه يكرَهُ هذا الشَّيءَ الذي أصابه ولا شَكَّ؛ لأنَّه لا يلائِمُ النفوسَ، لكِنَّه لا يتألَّمُ نفسيًّا، بل يقولُ: هذا قضاءُ اللهِ، وأنا من جملةِ مِلْكِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، له أن يفعَلَ فيَّ ما شاء، ويطمَئِنُّ بذلك.
وهذه المرتبةُ اختلف فيها العُلَماءُ رحمهم اللهُ على قولينِ: منهم من قال: إنها واجبةٌ، ومنهم من قال: إنها مستحبَّةٌ، والصحيحُ أنها مستحبَّةٌ وليست بواجبةٍ؛ لأنها صعبةٌ على كثيرٍ من النفوسِ.
وعلامةُ الرِّضا أنك لو سألْتَه: هل تأثَّرتَ بما قضى اللهُ عليك؟ لقال: لا؛ لأني أعلَمُ أنَّ اللهَ لا يقَدِّرُ لي شيئًا إلَّا كان خيرًا لي، فأنا مؤمِنٌ، واللهُ لا يقضي لعبدِه المؤمِنِ قضاءً إلَّا كان خيرًا له)(
يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 370). .
وقال أيضًا: (أقدارُ اللهِ: جمع قَدَر، وتُطلَقُ على المقدورِ، وعلى فِعلِ المقَدِّرِ وهو اللهُ تعالى، أما بالنسبةِ لفِعلِ المقَدِّرِ فيجبُ على الإنسانِ الرِّضا به والصبرُ، وبالنسبةِ للمَقدورِ فيجبُ عليه الصبرُ ويُستحَبُّ له الرِّضا. مِثالُ ذلك: قَدَّرَ اللهُ على سيَّارةِ شَخصٍ أن تحترِقَ، فكونُ اللهِ قَدَّر أن تحترِقَ، هذا قدرٌ يجِبُ على الإنسانِ أن يرضى به؛ لأنَّه من تمام الرِّضا باللهِ رَبًّا.
وأما بالنسبةِ للمقدورِ الذي هو احتراقُ السيارةِ فالصبرُ عليه واجِبٌ، والرِّضا به مستحَبٌّ وليس بواجبٍ على القولِ الرَّاجِحِ.
والمقدورُ قد يكونُ طاعاتٍ، وقد يكونُ معاصِيَ، وقد يكونُ من أفعالِ اللهِ المحضةِ؛ فالطاعاتُ يجب الرِّضا بها، والمعاصي لا يجوزُ الرِّضا بها من حيثُ هي مقدورٌ)(
يُنظر: ((القول المفيد)) (2/ 111). .
وقال أيضًا: (إيمانُنا بأنَّ اللهَ ملك السَّمَواتِ والأرضَ يفيد أيضًا فائدتينِ عظيمتينِ:
الفائدةُ الأولى: الرِّضا بقضاءِ اللهِ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لو قضى عليك مرضًا لا تعترِضْ، ولو قضى عليك فقرًا لا تعترِضْ؛ لأنَّك مِلْكُه يتصَرُّف فيك كيف يشاء، فهو كما يتصَرُّف في السحابِ يُمطِرُ أو لا يمطِرُ، يَمضي أو لا يَمضي، ويتصَرَّفُ في الشَّمسِ والقَمَرِ، ويتصَرَّفُ في المخلوقاتِ، يتصَرَّفُ فيك أيضًا كما يشاءُ، إن شاء أعطاك صِحَّةً وإن شاء سلَبها، إن شاء أعطاك عقلًا وإن شاء سلَبه، إن شاء أعطاك مالًا وإن شاء سلَبك، أنت مِلكُه، فإذا آمنْتَ بهذا رَضِيتَ بقَضائِه.
الفائدةُ الثانيةُ: الرِّضا بشَرْعِه وقبولُ شَرعِه والقيامُ به؛ لأنَّك مِلْكُه، قال لك: افعَلْ. افعَلْ، قال: لا تفعَلْ. لا تفعَلْ، أرأيتَ لو كان لك مِلْكُ عَبدٍ رقيقٍ فأمَرْتَه، ولكِنَّه لم يفعَلْ، هل تعتقدُ أن سيادَتَك تامَّةٌ عليه؟ لا، أو نهَيْتَه ففَعَل، فالسيادةُ ناقصةٌ.
إذًا أنت إذا عصيتَ رَبَّك إمَّا بفِعلِ المحرَّمِ، وإما بتركِ الواجِبِ؛ فإنك خرجت عن مقتضى العبوديةِ التامةِ؛ لأن مقتضى العُبوديةِ التامةِ أن تخضَعَ لشَرْعِه كما أنَّك خاضعٌ كَرهًا أو طائعًا لقضائِه وقَدَرِه، وليس معنى قَولِه تعالى:
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الشورى:49] أن يخبِرَنا أنَّه مالِكٌ فقط، لكن من أجْلِ أن نعتَقِدَ مُقتضى هذا المِلْكِ، وما هو مقتضاه؟ الرِّضا بقضائِه والرِّضا بشَرْعِه، فهذا حقيقةُ المِلْكِ)(
يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 172). .
وقال البرَّاكُ: (حُكمُ اللهِ نوعانِ:
حُكمٌ كونيٌّ.
وحُكمٌ شَرعيٌّ.
ويجبُ على العبدِ الرِّضا عن اللهِ في تدبيرِه وحُكمِه الكونيِّ وحُكمِه الشَّرعيِّ، فلا يعارِضُ حُكمَ اللهِ برأيٍ ولا ذوقٍ ولا استحسانٍ، هذا بالنسبةِ للحُكمِ والقَضاءِ الكونيِّ.
وأما الأمورُ المكَوَّنةُ والمقضيَّةُ فهذه يجِبُ أن يَعمَلَ فيها من حيث الاستسلامُ والدَّفعُ والطَّلَبُ بموجِبِ الشَّرعِ، فيُحَكِّمُ شَرعَ اللهِ، فما أمره اللهُ بفِعْلِه فَعَلَه، وما أمره بتركِه ترَكَه، فيحِبُّ ما أحَبَّه اللهُ، ويُبغِضُ ما أبغضه اللهُ، ويأتي ما أمره اللهُ به، ويَذَرُ ما نهاه اللهُ تعالى عنه، ويصبرُ على ما أوجب اللهُ عليه فيه الصبرُ، ويدفَعُ ما أوجب اللهُ عليه دفْعَه من المكروهاتِ.
وهذه الأعمالُ من طَلَبٍ أو دفعٍ للمقَدَّراتِ تجري فيها الأحكامُ التكليفيَّةُ؛ الواجِبُ، والمحرَّمُ، والمكروهُ، والمستحَبُّ، والمباحُ.
فلا بدَّ من التسليمِ لحُكمِ اللهِ بالرِّضا بحُكمِه وتدبيرِه، وأنَّه حكيمٌ عليمٌ، وذلك بعدم الاعتراضِ عليه في قضائِه الكونيِّ وقضائِه الشَّرعيِّ)(
يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: 124). .