المَطلَبُ الأوَّلُ: تعريفُ الفِسْقِ
الفِسقُ في اللُّغةِ: الفِسقُ لُغةً: هو الخُروجُ، وبه سُمِّيَ العاصي فاسِقًا؛ مِن قولِهم: فسَقَت الرُّطَبُةُ: إذا خرجَت عَن قِشْرِها
[724] يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/ 315)، ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1543)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/ 502)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 446)، ((لسان العرب)) لابن منظور (10/ 308). .
الفِسْقُ في الاصطلاحِ:الفِسْقُ هو العِصيانُ وتَرْكُ أمرِ اللهِ تعالى، والخروجُ عن طاعتِه.
يقال: رجلٌ فاسِقٌ: إذا عصى وتجاوز حدودَ الشَّرعِ، ويقالُ: فَسَق عن أمرِ رَبِّه، أي: خرج عن طاعتِه.
والفِسْقُ أعَمُّ من الكُفرِ؛ فيَشمَلُ الكُفرَ وما دونَه من المعاصي كبيرِها وصغيرِها، وإذ أُطلِقَ يرادُ به أحيانًا الكُفرُ المخرجُ من الإسلامِ، وأحيانًا يرادُ به الذُّنوبُ والمعاصي التي دون الكُفرِ، بحسَبِ دَرَجةِ المعصيةِ، وحالِ العاصي نَفْسِه
[725] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (1/ 212)، ((تفسير الشوكاني)) (1/ 68). .
فالفِسْقُ في الشَّرعِ نوعان:فِسقٌ أكبَرُ، وفِسقٌ أصغَرُ.
الفِسْقُ الأكبَرُ:هو رديفُ الكُفرِ الأكبَرِ، والشِّركِ الأكبَرِ؛ يُخرِجُ صاحِبَه من الإسلامِ، وينفي عنه مُطلَقَ الإيمانِ، ويخَلِّدُه في النَّارِ إذا مات ولم يتُبْ منه، ولا تنفَعُه شفاعةُ الشَّافعين يومَ القيامةِ.
قال اللهُ سُبحانَه وتعالى:
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 84] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ: إنَّهم جَحَدوا توحيدَ اللهِ ورِسالةَ رَسولِه، وماتوا وهم خارجون من الإسلامِ، مُفارِقون أمْرَ اللهِ ونَهْيَه)
[726] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/610). .
وقال اللهُ تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي: فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَق عن أمرِ رَبِّه، وكفى بذلك ذنبًا عظيمًا!)
[727] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 80). .
وقال
ابنُ عاشور: (جملةُ:
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ تحذيرٌ بعد البِشارةِ على عادةِ القُرآنِ في تعقيبِ البِشارةِ بالنِّذارةِ والعَكسِ؛ دفعًا للاتِّكالِ. والإشارةُ في قَولِه:
بَعْدَ ذَلِكَ إلى الإيمانِ المعبَّرِ عنه هنا بـ
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، والمعبَّرِ عنه في أوَّلِ الآياتِ بقَولِه:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ومن كَفَر بعد الإيمانِ وما حصل له من البِشارةِ عليه، فهم الفاسِقون عن الحَقِّ، وصيغةُ الحَصْرِ المأخوذةُ من تعريفِ المسنَدِ بلامِ الجِنسِ مُستعمَلةٌ مُبالغةً للدَّلالةِ على أنَّه الفِسْقُ الكامِلُ)
[728] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288). .
وقد فُسِّرت الآيةُ أيضًا بالفِسْق الأصغَرِ وكُفرانِ النِّعمةِ.
قال
البَغَوي: (قَولُه تعالى:
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أراد به كفرانَ النِّعمةِ، ولم يُرِدِ الكُفرَ باللهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ: العاصون لله، قال أهل التفسيرِ: أوَّلُ من كفر بهذه النِّعمةِ وجَحَد حَقَّها الذين قَتَلوا عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه فلمَّا قَتَلوه غيَّر اللهُ ما بهم، وأدخل عليهم الخوفَ حتى صاروا يقتَتِلون بعد أن كانوا إخوانًا)
[729] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/427). .
الفِسْقُ الأصغَرُ:هو رديفُ الكُفرِ الأصغَرِ، والشِّركِ الأصغَرِ؛ فهو فِسقٌ دونَ فِسقٍ، وهو المعصيةُ التي لا تنفي عن صاحبِها أصلَ الإيمانِ، أو مُطلَقَ الإيمانِ، ولا تَسلُبُه صِفةَ الإسلامِ.
قال الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] [730] يُنظر: ((الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة)) لعبد الله الأثري (ص: 240). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الفِسْقَ يكونُ تارةً بتَرْكِ الفرائض، وتارةً بفِعلِ المحَرَّماتِ)
[731]يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/251). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (الفِسْقُ في اللُّغةِ الخروجُ، وفي الشَّرعِ الخروجُ عن طاعةِ اللهِ ورَسولِه، وهو في عُرفِ الشَّرعِ أشَدُّ من العصيانِ)
[732] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/112). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الفِسْقُ نوعانِ: فِسقٌ أكبَرُ مُخرِجٌ عن المِلَّةِ، وضِدُّه الإيمانُ، كما في قَولِه تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 20] ، وفِسقٌ أصغَرُ لا يُخرِجُ عن المِلَّةِ، وضِدُّه العدالةُ، كما في قَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا الحجرات: 6)
[733] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/205). .