المَطلَبُ الأوَّلُ: أحكامُ الدُّنيا
أحكامُ الدُّنيا تتعَلَّقُ بالحُكمِ بالظَّاهِرِ من حيثُ الإسلامُ والكُفرُ، باعتبارِهما صِفَتَين جاء تحديدُهما، وبيانُ شروطِ تحقُّقِهما في الشَّرعِ، وهذا الظَّاهِرُ هو الذي أُمِرْنا بالتعامُلِ به، وعليه تنبني جميعُ الأحكامِ المتعَلِّقةِ بعِصْمةِ الدَّمِ والمالِ، والموالاةِ والمعاداةِ، وما يتفَرَّعُ عنها من أحكامٍ أُخرى تتعَلَّقُ بالأطفالِ والأنكِحَةِ والذَّبائِحِ.
وفي هذا المقامِ يمكِنُ القَطعُ في جملةِ أُمورِ، ومن ذلك: أنَّه يجِبُ على العَبدِ أن يعتَقِدَ أنَّ كُلَّ من دانَ بدينٍ غيرِ دينِ الإسلامِ، فهو كافِرٌ.
قال اللهُ تعالى:
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((والذي نَفْسُ محمَّدٍ بيَدِه لا يَسمَعُ بي أحَدٌ مِن هذه الأمَّةِ يَهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرسِلْتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النَّارِ )) [838] أخرجه مسلم (153) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ويتبَعُ هذا الحُكمَ في الدُّنيا أنَّ دِماءَ الكُفَّارِ وأموالَهم ليست معصومةً، إلَّا أن يكونوا معاهَدين أو ليسوا من أهلِ القِتالِ، أو كانت لهم ذِمَّةٌ.
قال اللهُ تعالى:
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 5] .
وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، ويُقيموا الصَّلاةَ ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها، وحِسابُهم على اللهِ تعالى )) [839] أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) واللفظ له. .
قال
ابنُ حَجَر: (فيه دليلٌ على قَبولِ الأعمالِ الظَّاهرةِ والحُكمِ بما يقتَضيه الظَّاهِرُ)
[840] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/77). .
كما أنَّ أطفالَ الكُفَّارِ ومجانينَهم كُفَّارٌ في أحكامِ الدُّنيا، ودارُهم دارُ كُفرٍ إذا كان حُكمُهم هو النَّافِذَ فيها.
وممَّا يمكِنُ القَطعُ به في الجُملةِ: أنَّ من أظهَرَ الإسلامَ وأقَرَّ بالشَّهادتينِ، فهو مُسلِمٌ، له ما للمُسلِمين، وعليه ما عليهم، وتجري عليه أحكامُ الإسلامِ الظَّاهرةُ من المناكَحةِ والموارَثةِ، وتغسيلُه إذا مات، والصَّلاةُ عليه، ودَفنُه في مقابرِ المُسلِمين.
كما يجِبُ له من الوَلاءِ الذي فَرَضَه اللهُ لكُلِّ مُسلِمٍ على كُلِّ مُسلِمٍ بالقَدْرِ الذي تتحَقَّقُ معه النُّصرةُ والمعاوَنةُ الواجِبةُ بين المُسلِمين، حَسَب التزامِهم بالإسلامِ ظاهرًا، ويدخُلُ في هذا جميعُ المُسلِمين، سواءٌ كانوا صادقينَ في إسلامِهم، أو كانوا منافِقين مُظهِرين للإسلامِ، مُضمِرين للكُفرِ
[841] يُنظر: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق بن طاهر (ص: 126). .
فعن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من صَلَّى صَلاتَنا، واستقبَلَ قِبلَتَنا، وأكَلَ ذبيحَتَنا؛ فذلك المُسلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رَسولِه، فلا تُخفِروا اللهَ في ذِمَّتِه )) [842] أخرجه البخاري (391). .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (ذِكْرُه أكْلَ ذَبيحةِ المُسلِمين: فيه إشارةٌ إلى أنَّه لا بُدَّ مِن التزامِ جميعِ شَرائِعِ الإسلامِ الظَّاهِرةِ، ومن أعظَمِها أكلُ ذَبيحةِ المُسلِمين، وموافَقَتُهم في ذبيحتِهم، فمن امتَنَع من ذلك فليس بمُسلِمٍ... وقَولُه:
((فذلك المُسلِمُ، له ذِمَّةُ اللهِ ورَسولِه)) الذِّمَّةُ: العَهدُ، وهو إشارةٌ إلى ما عَهِده اللهُ ورَسولُه إلى المُسلِمين بالكَفِّ عن دَمِ المُسلِم ومالِه. وقَولُه:
((فلا تُخفِروا اللهَ في ذِمَّتِه)) أي: لا تَغدِروا بمن له عَهدٌ مِنَ اللهِ ورَسولِه فلا تَفُوا له بالضَّمانِ، بل أوفوا له بالعَهدِ)
[843] يُنظر: ((فتح الباري)) (2/287). .
إنَّ الحُكمَ على الظَّاهِرِ مِن أهَمِّ أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ: فمن أظهَرَ الإسلامَ والتزم شرائِعَه، حُكِمَ بإسلامِه واستحَقَّ جميعَ الحُقوقِ التي شَرَعها اللهُ للمُسلِمين، ووجب عليه جميعُ ما وجب على المُسلِمين، ويستوي في هذا المُسلِمُ على الحقيقةِ، والمُسلِمُ نفاقًا؛ خَوفًا من قَتلٍ أو طمعًا في مَكسَبٍ، ولم نُكَلَّفْ شَقَّ صُدورِ النَّاسِ أو امتحانَهم
[844] يُنظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة)) للقرني (ص: 280). .
قال
البربهاريُّ: (اعلَمْ أنَّ الدُّنيا دارُ إيمانٍ وإسلامٍ
[845] أي: إنَّ الإيمانَ في الآخِرةِ لا يَنفَعُ صاحِبَه. ، فأمَّةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها مُؤمِنون مُسلِمون في أحكامِهم ومواريثِهم وذبائحِهم والصَّلاةِ عليهم، لا تَشهَد لأحَدٍ بحَقيقةِ الإيمانِ حتى يأتيَ بجميعِ شرائِعِ الإسلامِ، فإنْ قَصَّر في شيءٍ مِن ذلك كان ناقِصَ الإيمانِ حتى يموتَ، وعِلْمُ إيمانِه إلى اللهِ تعالى: تامَّ الإيمانِ أو ناقِصَ الإيمانِ، إلَّا ما ظهر لك من تضييعِ شرائِعِ الإسلامِ.
والصَّلاةُ على من مات من أهلِ القِبلةِ سُنَّةٌ: المرجومِ، والزَّاني، والزَّانيةِ، والذي يَقتُلُ نَفْسَه، وغَيرِهم من أهلِ القِبلةِ، والسَّكرانِ وغَيرِه. الصَّلاةُ عليهم سُنَّةٌ.
ولا نُخرِجُ أحدًا من أهلِ القِبلةِ مِنَ الإسلامِ حتى يَرُدَّ آيةً مِن كتابِ اللهِ، أو يَرُدَّ شيئًا من آثارِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يَذبَحَ لغيرِ اللهِ، أو يصَلِّيَ لغيرِ اللهِ، فإذا فعل شيئًا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرِجَه من الإسلامِ، وإذا لم يفعَلْ شيئًا من ذلك فهو مُؤمِنٌ مُسلِمٌ بالاسمِ لا بالحقيقةِ)
[846] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 61-64). .
ويبنغي أن يُعلَمَ أنَّ ثمَّةَ فَرقًا بين الحُكمِ بكُفرِ المعَيَّنِ والحُكم ِبإسلامِه.
فإنَّ إسلامَ المعَيَّنِ يكفي فيه مجرَّدُ الإقرارِ الظَّاهِرِ، ثمَّ يُلزَمُ بعد ذلك بلوازِمِه، وهو إسلامٌ حُكميٌّ قد يكونُ المعَيَّنُ معه منافقًا في الباطِنِ، أمَّا الكُفرُ فليس حُكمًا على الظَّاهِرِ فقط، وإنَّما هو حُكمٌ على الظَّاهِرِ والباطِنِ معًا، بحيث لا يَصِحُّ لنا أن نحكُمَ على مُعَيَّنٍ بالكُفرِ مع احتمالِ أن يكونَ غيرَ كافِرٍ على الحقيقةِ
[847] يُنظر: ((ضوابط التكفير عند أهل السنة)) للقرني (ص: 280). .
وإذا عُرِفَ هذا، فإنَّ تكفيرَ المعَيَّنِ مِن الجُهَّالِ وأمثالِهم -بحيث يُحكَمُ عليه بأنَّه من الكُفَّارِ- لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلَّا بعد أن تقومَ الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ عليه التي يتبيَّنُ بها أنَّهم مخالِفون للرُّسُلِ، وإن كانت مقالاتُهم لا رَيبَ أنَّها كُفرٌ.
وذلك أنَّ الحُكمَ بالكُفرِ الحقيقيِّ على شَخصٍ مُعَيَّنٍ يتعَلَّقُ بأحكامِ الثَّوابِ والعِقابِ في الآخِرةِ أكثَرَ من تعَلُّقِه بأحكامِ الدُّنيا، وقد عُلِمَ أنَّ أحكامَ الآخِرةِ مِمَّا لا سبيلَ لنا لمعرفتِها على التفصيلِ فيما يخُصُّ أحكامَ المعَيَّنينَ؛ لهذا لَزِمَ التحَرِّي الشَّديدُ والتريُّثُ والتبيُّنُ بعِلمٍ.