المَطلَبُ الثَّاني: أحكامُ الآخرةِ مِن ثوابٍ وعِقابٍ
من عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ فيما يتعلَّقُ بأحكامِ الثَّوابِ والعقابِ: أنَّ اللهَ سُبحانَه أوجَبَ الجنَّةَ للمُؤمِنين، وحَرَّمها على الكافرينَ.
قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 82] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72] . وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسلِمةٌ )) [848] أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111) مطولًا. .
ومن عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحَدًا حتى تقومَ عليه حُجَّةُ اللهِ تعالى بالرُّسُلِ.
قال اللهُ تعالى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
قال
الشِّنقيطيُّ: (ظاهِرُ هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا لا يُعَذِّبُ أحَدًا مِن خَلْقِه لا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ حتى يبعَثَ إليه رَسولًا يُنذِرُه ويُحَذِّرُه، فيَعصي ذلك الرَّسولَ، ويستمِرُّ على الكُفرِ والمعصيةِ بعد الإنذارِ والإعذارِ، وقد أوضَحَ جَلَّ وعلا هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ، كقَولِه تعالى:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، فصرَّح في هذه الآيةِ الكريمةِ بأنْ لا بدَّ أن يقطَعَ حُجَّةَ كُلِّ أحدٍ بإرسالِ الرُّسُلِ مُبشِّرين من أطاعهم بالجَنَّةِ، ومُنذِرين من عصاهم النَّارَ.
وهذه الحُجَّةُ التي أوضح هنا قَطَعَها بإرسالِ الرُّسُلِ مُبَشِّرين ومُنذِرين، بيَّنها في آخِرِ سورةِ "طه" بقَولِه:
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 134] .
وأشار لها في سورةِ القَصَصِ بقَولِه:
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] ، وقَولِه جَلَّ وعلا:
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] ، وقَولِه:
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: 19] ، وكقَولِه:
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ [الأنعام: 155 - 157] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.
ويوضِّحُ ما دَلَّت عليه هذه الآياتُ المذكورةُ وأمثالُها في القُرآنِ العظيمِ مِن أنَّ اللهَ جَلَّ وعلا لا يُعَذِّبُ أحَدًا إلَّا بعد الإنذارِ والإعذارِ على ألسِنَةِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلَامُ: تصريحُه جَلَّ وعلا في آياتٍ كثيرةٍ بأنْ لم يُدخِلْ أحَدًا النَّارَ إلَّا بعد الإعذارِ والإنذارِ على ألسِنَةِ الرُّسُلِ، فمن ذلك قَولُه جَلَّ وعلا:
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْء [الملك: 8، 9]. ومعلومٌ أنَّ قَولَه جَلَّ وعلا:
كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ يعُمُّ جميعَ الأفواجِ الملْقِينَ في النَّارِ)
[849] ينظر: ((أضواء البيان)) (3/ 65). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي: يُبشِّرون من أطاع اللهَ واتَّبَع رِضوانَه بالخَيراتِ، ويُنذِرون من خالف أمْرَه وكَذَّب رُسُلَه بالعقابِ والعَذابِ. وقَولُه:
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] ، أي: أنَّه تعالى أنزَلَ كُتُبَه وأرسَلَ رُسُلَه بالبِشارةِ والنِّذارةِ، وبَيَّن ما يحِبُّه ويرضاه مِمَّا يَكرَهُه ويأباه؛ لئلَّا يبقى لمعتَذِرٍ عُذرٌ، كما قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [طه: 134] ، وكذا قَولُه تعالى:
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] .
وقد ثبت في الصَّحيحينِ عن
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا أحَدَ أغيَرُ مِنَ اللهِ؛ من أجْلِ ذلك حَرَّم الفواحِشَ ما ظَهَر منها وما بَطَن، ولا أحَدَ أحَبُّ إليه المدحُ من اللهِ؛ مِن أجْلِ ذلك مدح نَفْسَه، ولا أحَدَ أحَبُّ إليه العُذرُ مِنَ اللهِ، مِن أجْلِ ذلك بعَثَ النبيِّينَ مُبَشِّرين ومُنذِرين ))، وفي لفظٍ:
((من أجْلِ ذلك أرسَلَ رُسُلَه، وأنزل كُتُبَه)) [850] أخرجه البخاري (5220) مختصراً، ومسلم (2760) باختلاف يسير والحديث روي عن المغيرة، قال: (قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة) أخرجه البخاري (7416) واللفظ له، ومسلم (1499). [851] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/475). .
فمِمَّا يُعَدُّ مِن أحكامِ الآخِرةِ ثُبوتُ قيامِ الحُجَّةِ على المعيَّنين، ومن ثَمَّ الحُكمُ عليهم بالكُفرِ الحقيقيِّ، فدُخولِ النَّارِ والخُلودِ فيها، وهذا مِمَّا لم نُكَلَّفِ الخَوضَ فيه، بل هو موكولٌ إلى عِلمِ اللهِ تعالى وحِكمتِه وعَدْلِه في خَلْقِه.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ نُصوصَ الوعيدِ في الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ جِدًّا، والقَولَ بموجِبِها واجِبٌ على وَجهِ العُمومِ والإطلاقِ مِن غيرِ أن يُعَيَّنَ شَخصٌ من الأشخاصِ، فيُقالُ: هذا ملعونٌ أو مغضوبٌ عليه أو مستَحِقٌّ للنَّارِ، لا سِيَّما إن كان لذلك الشَّخصِ فضائِلُ وحَسَناتٌ، فإنَّ غيرَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلَامُ يجوُز عليهم الصَّغائِرُ والكبائِرُ، مع إمكانِ أن يكونَ ذلك الشَّخصُ صِدِّيقًا أو شهيدًا أو صالحًا؛ لِما تقَدَّم أنَّ مُوجِبَ الذَّنبِ قد يتخَلَّفُ عنه بتوبةٍ أو استغفارٍ، أو حَسَناتٍ ماحيةٍ، أو مصائِبَ مُكَفِّرةٍ، أو شفاعةٍ، أو بمَحضِ مَشيئةِ اللِه وَرحمتِه)
[852] يُنظر: ((رفع الملام)) (ص: 122). .
فالذي يجِبُ علينا اعتِقادُه في جملةِ الخَلقِ أنَّ الله تعالى وهو أعدَلُ العادلين لا يُعَذِّبُ أحدًا حتى تقومَ عليه حُجَّةُ الله تعالى بالرِّسالةِ، ثمَّ يعانِدَ ويُعرِضَ عنها
[853] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 414). .
أمَّا من انقاد للحُجَّةِ، أو لم تبلُغْه لعارضٍ مِن العوارضِ المعتبرةِ شَرعًا، فإنَّ اللهَ تعالى لا يعَذِّبُه، وهذا من تمامِ عَدْلِه وسَعةِ رحمتِه؛ ولهذا فإنَّ
أهلَ الفَترِة في أحكامِ الدُّنيا كُفَّارٌ، أمَّا في الآخرةِ فأمْرُهم إلى اللهِ، وهو أعلَمُ بحالِهم
[854] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 455). .
ومن عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّه لا يُخَلَّدُ في النَّارِ مَن معه شيءٌ من الإيمانِ، بل يخرُجُ منها مَن معه مثقالُ حَبَّةٍ، أو مِثقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يدخُلَ النَّارَ مِن أهلِ الكبائِرِ من يشاءُ اللهُ إدخالَه النَّارَ، ثمَّ يَخرُجَ منها بشفاعةِ الشَّافعين، أو بمَحْضِ رحمةِ أرحَمِ الرَّاحمين.
ومن عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّه لا يُقالُ على أحَدٍ مُعَيَّنٍ من أهلِ القِبلةِ: إنَّه من أهلِ الجَنَّةِ أو من أهلِ النَّارِ، إلَّا من جاء النَّصُّ فيه أنَّه من أهلِ الجَنَّةِ أو من أهلِ النَّارِ.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: شَهِدْنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُنَينًا، فقال لرجُلٍ ممَّن يُدعى بالإسلامِ: هذا من أهلِ النَّارِ، فلمَّا حضَرْنا القتالَ قاتَلَ الرَّجُلُ قِتالًا شديدًا، فأصابته جِراحةٌ، فقيل: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ الذي قُلتَ له آنفًا: إنَّه من أهلِ النَّارِ، فإنَّه قاتَلَ اليوم قتالًا شديدًا وقد مات! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إلى النَّارِ! فكاد بعضُ المُسلِمين أن يرتابَ، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنَّه لم يَمُتْ، ولكِنَّ به جراحًا شديدًا، فلمَّا كان من اللَّيلِ لم يصبِرْ على الجِراحِ فقَتَل نَفْسَه، فأُخبِرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقال:
((اللهُ أكبَرُ، أشهَدُ أنِّي عبدُ اللهِ ورَسولُه)) [855] أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111) مطولًا مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
أحمَدُ بْنُ حَنبَلٍ: (لا نشهَدُ على أحَدٍ مِن أهلِ القِبلةِ بعَمَلٍ يعمَلُه بجَنَّةٍ ولا نارٍ، نرجو للصَّالحِ ونخافُ عليه، ونخافُ على المسيءِ المذنِبِ، ونرجو له رحمةَ اللهِ)
[856] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/244). .
وقال أيضًا: (لا نُنزِلُ أحدًا من أهلِ القبلةِ جَنَّةً ولا نارًا، إلَّا من شَهِد له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ)
[857] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/312). .
وقال
المُزني: (لا نوجِبُ لمحسِنِهم الجِنانَ بعدَ مَن أوجب له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا نشهَدُ على مسيئِهم بالنَّارِ)
[858] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 78). .
وقال
الطحاوي: (نرجو للمُحسِنين من المؤمنين أن يعفوَ عنهم ويدخِلَهم الجنَّةَ برَحمتِه، ولا نأمَنُ عليهم، ولا نَشهَدُ لهم بالجنَّةِ، ونَستغفِرُ لِمُسيئِهم، ونخافُ عليهم، ولا نُقَنِّطُهم)
[859] يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 61). .
وقال
أبو الحَسَن الأشعري: (جملةُ ما عليه أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ... ولا يَشهَدونَ على أحدٍ مِن أهلِ الكبائِرِ بالنَّارِ، ولا يحكُمونَ بالجنَّةِ لأحَدٍ مِن الموحِّدين، حتى يكونَ اللهُ سُبحانَه يُنزِلُهم حيث شا،ء ويقولون: أمْرُهم إلى اللهِ؛ إن شاء عَذَّبهم، وإن شاء غَفَر لهم)
[860] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 226-228). .
وقال
أبو عَمرٍو الدَّاني: (مِن قَولِ أهلِ السُّنَّةِ: ألَّا يُنزَّلَ أحَدٌ مِن أهلِ القِبلةِ جَنَّةً ولا نارًا، إلَّا من ورد التوقيفُ بتنزيلِه، وجاء الخَبَرُ من اللهِ -تبارك وتعالى- ورسولِه عن عاقبةِ أمرِه، وأنَّ الصَّلاةَ واجِبةٌ على من مات منهم وإن عَمِلَ الكبائِرَ)
[861] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 188). .
وممَّا ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ عُقوبةَ الدُّنيا غيرُ مُستلزِمةٍ لعُقوبةِ الآخِرةِ، فقد تقامُ الحُدودُ على أشخاصٍ في الدُّنيا، إمَّا بقَتلٍ أو جَلْدٍ أو غيرِ ذلك، من غيرِ الحُكمِ عليهم بالكُفرِ، بل يصَلَّى عليهم، ويُستغفَرُ لهم.
وقد يكونُ هؤلاء الأشخاصُ غيرَ مُعَذَّبين في الآخِرةِ، ويدخُلُ في هذا البابِ قِتالُ البُغاةِ والمتأَوِّلين مع بقائِهم على العدالةِ، ومن ذلك إقامةُ الحَدِّ على من تاب بعد القُدرةِ عليه توبةً صحيحةً؛ فقد أقام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّ الرَّجمِ على ماعِزِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه وصَلَّى عليه
[862] أخرجه البخاري (6820)، ومسلم (1691) مِن حديثِ جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عنهما ولفظ البخاري: (عن جابر أن رجلا من أسلم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبك جنون؟)). قال: لا. قال: ((آحصنت؟)). قال: نعم. فأمر به فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك فرجم حتى مات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا وصلى عليه). ، كما أقام حَدَّ الرَّجمِ على الغامِديَّةِ، فنهى
خالِدَ بنَ الوليدِ عن سَبِّها، وقال:
((لقد تابت توبةً لو تابها صاحِبُ مَكسٍ لغُفِرَ له، ثمَّ صَلَّى عليها )) [863] أخرجه مسلم (1695) من حديثِ بريدة رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني. وإنه ردها. فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا. فوالله إني لحبلى. قال: ((إما لا فاذهبي حتى تلدي)). فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته. قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)).فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها. فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها. فقال: ((مهلا يا خالد. فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس، لغفر له)). ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت)) .
ومن هنا ذَهَب بعضُ السَّلَفِ إلى قَتْلِ الدُّعاةِ إلى
البِدعةِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لهذا كان أكثَرُ السَّلَفِ يأمُرون بقَتْلِ الدَّاعي إلى
البِدعةِ الذي يُضِلُّ النّاسَ؛ لأجْلِ إفسادِه في الدِّينِ، سواءٌ قالوا: هل هو كافِرٌ، أو ليس بكافرٍ)
[864] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/500) (12/524). .
قال
ابنُ رجَبٍ: (قد صَحَّ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمرُ بقِتالِ
الخوارجِ وقَتْلِهم
[865] الحديث أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064) من حديثِ بريدة رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: (عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة، فقسمها بين الأربعة الأقرع: بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا! قال: ((إنما أتألفهم)). فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال: اتق الله يا محمد. فقال: ((من يطع الله إذا عصيت، أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني؟!)). فسأله رجل قتله - أحسبه خالد بن الوليد - فمنعه، فلما ولى قال: ((إن من ضئضئ هذا - أو في عقب هذا - قوم يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) ، وقد اختلف العُلَماءُ في حُكمِهم.
فمنهم من قال: هم كُفَّارٌ، فيكونُ قَتْلُهم لكُفْرِهم.
ومنهم من قال: إنَّما يُقتَلون لفسادِهم في الأرضِ بسَفْكِ دِماءِ المُسلِمين وتكفيرِهم لهم، وهو قَولُ
مالكٍ وطائفٍة مِن أصحابِنا، وأجازوا الابتداءَ بقتالِهم، والإجهازَ على جَريحِهم.
ومنهم من قال: إنْ دَعَوا إلى ما هم عليه قُوتلوا، وإن أظهَروه ولم يَدْعوا إليه لم يُقاتَلوا، وهو نَصُّ
أحمدَ وإسحاقَ، وهو يرجِعُ إلى قتالِ من دعا إلى بدعةٍ مُغَلَّظةٍ.
ومنهم من لم يَرَ البداءةَ بقتالِهم حتى يَبدؤوا بقتالٍ يبيحُ قِتالَهم من سَفْكِ دِماءٍ ونَحوِه، كما رُوِيَ عن عَليٍّ، وهو قَولُ
الشَّافعيِّ وكثيرٍ مِن أصحابِنا)
[866] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/328). .
فظهر أنَّ التوَقُّفَ في أمرِ الآخرةِ لا يمنَعُ من عقابِ الدُّنيا.
وإنَّ التزامَ التفريقِ بين أحكامِ الدُّنيا وأحكامِ الآخرةِ عند الحديثِ في مسائِلِ التكفيرِ أو التبديعِ أو التفسيقِ، وكذا التفريقُ بين الفِعلِ والفاعِلِ، وأحكامِ المعَيَّن وغيرِ المُعَيَّن هو منهجُ أهلِ السُّنَّةِ، وهو الذي دلَّت عليه نصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وعَمَلُ السَّلَفِ الصَّالحِ، وهو العَدْلُ الذي أمَرَ اللهُ به في كتابِه، كما قال تعالى:
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا، وقال سُبحانَه:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58] [867] يُنظر: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق بن طاهر (ص: 131). .