الفَرعُ الخامِسُ: أقوالُ العُلَماءِ في القَرنِ الخامسِ
1. أبو القاسِمِ هِبةُ اللهِ بنُ الحَسَنِ اللَّالَكائيُّ. ت: 418هـنقل كلامَ أبي ثورٍ الذي تقَدَّمَ ذِكرُه ولم يتعقَّبْه بشَيءٍ، وهو قَولُه: (ولو قال: المسيحُ هو اللهُ، وجَحَد أمرَ الإسلامِ، وقال: لم يعتَقِدْ قلبي على شيءٍ من ذلك؛ أَنَّه كافِرٌ بإظهارِ ذلك، وليس بمُؤمِنٍ)
[1114] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/849). .
2. محمَّدُ بن الوليدِ السَّمَرقنديُّ (الحنفيُّ): كان حيًّا سنة450هـ قال في (الجامع الأصْغَر): (إذا أطلق الرَّجُلُ كَلِمةَ الكُفْرِ عَمْدًا لكنَّه لم يعتَقِدِ الكُفْرَ؛ قال بَعْضُ أصحابِنا: لا يَكفُرُ؛ لأَنَّ الكُفْرَ يتعلَّقُ بالضَّميرِ، ولم يَعقِدِ الضَّميرَ على الكُفْرِ، وقال بعضُهم: يكفُرُ، وهو الصَّحيحُ عندي؛ لأَنَّه استخفَّ بدينهِ)
[1115] يُنظر: ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (4/ 224). .
3. أبو محمَّد عليُّ بن حزم (الظَّاهريُّ) [1116] حَمِده ابنُ تيميَّةَ في مسائل الإيمان، وذَمَّه في مسائِلِ الصِّفات؛ فقال في ((مجموع الفتاوى)) (4/18-19): (وكذلك أبو محمَّد بنُ حزم فيما صنَّفه من المِلَل والنِّحَل، إنما يُستحمَدُ بموافقةِ السُّنَّة والحديث، مِثلُ ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء)، وقال: (وإن كان أبو محمَّد بن حزم في مسائِلِ الإيمان والقَدَرِ أقوَمُ من غيرِه، وأعلَمُ بالحديثِ وأكثَرُ تعظيمًا له ولأهلِه من غيرِه، لكن قد خالط من أقوالِ الفلاسِفةِ والمعتَزِلةِ في مسائِلِ الصِّفاتِ). . ت:456هـقال
ابنُ حزمٍ: (وأمَّا قَولُهم
[1117] يعني الجهميَّةَ والمرجِئةَ. : إِنَّ شَتْمَ اللهِ تعالى ليس كُفرًا، وكذلك شَتْمُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهو دعوى؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة: 74] ، فنصَّ تعالى على أَنَّ مِن الكلامِ ما هو كُفرٌ.
وقال تعالى:
إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140] ، فنصَّ تعالى أَنَّ من الكَلامِ في آيات ِاللهِ تعالى ما هو كفرٌ بعينِه مَسموعٌ.
وقال:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُواقَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة: 65،66]، فنصَّ تعالى على أَنَّ الاستهزاءَ باللهِ تعالى أو بآياتِه أو برَسولٍ من رُسُلِه كُفرٌ مُخْرِجٌ عن الإيمانِ، ولم يَقُلْ تعالى في ذلك: إِنِّي عَلِمتُ أَنَّ في قُلوبِكم كُفرًا، بل جعَلَهم كُفَّارًا بنَفسِ الاستهزاءِ. ومن ادَّعى غيرَ هذا فقد قوَّلَ الله تعالى ما لم يقُلْ، وكذَبَ على اللهِ تعالى)
[1118] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/244). .
وقال أيضًا: (الجَحْدُ لشَيءٍ ممَّا صحَّ البرهانُ أَنَّه لا إيمانَ إلَّا بتصديقِه: كُفرٌ، والنُّطقُ بشيءٍ من كلِّ ما قام البُرهانُ أَنَّ النُّطقَ به كُفرٌ: كُفرٌ، والعَمَلُ بشيءٍ ممَّا قام البرهانُ بأَنَّه كُفرٌ: كُفرٌ، فالكُفْرُ يزيدُ، وكلُّ ما زاد فيه فهو كُفرٌ، والكُفْرُ يَنقُصُ، وكُلُّه مع ذلك ما بقي منه وما نقَص فكُلُّه كُفرٌ، وبَعضُ الكُفْرِ أعظَمُ وأشدُّ وأشنَعُ من بعضٍ، وكُلُّه كُفرٌ)
[1119] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/256). .
وقال أيضًا: (إِنَّ الإقرارَ باللِّسانِ دونَ عَقدِ القَلْبِ لا حُكْمَ له عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأَنَّ أحَدَنا يَلفِظُ بالكُفْرِ حاكيًا وقارئًا له في القُرآنِ؛ فلا يكونُ بذلك كافِرًا حتى يُقِرَّ أَنَّه عَقَده.
قال أبو محمَّدٍ: فإن احتجَّ بهذا أهلُ المقالةِ الأولى -يعني
المُرجِئة- وقالوا: هذا يشهَدُ بأَنَّ الإعلانَ بالكُفْرِ ليس كفُرًا. قُلْنا له -وبالله التَّوفيق-: قد قُلْنا: إِنَّ التَّسميةَ ليست لنا، وإِنَّما هي للهِ تعالى، فلمَّا أمَرَنا تعالى بتلاوةِ القُرآنِ، وقد حكى لنا فيه قَولَ أهلِ الكُفْرِ، وأخبَرَنا تعالى أَنَّه لا يرضى لعبادِه الكُفْرَ؛ خرج القارئُ للقُرآنِ بذلك عن الكُفْرِ إلى رِضا اللهِ عزَّ وجَلَّ والإيمانِ، بحكايتِه ما نصَّ اللهُ تعالى بأداءِ الشَّهادةِ بالحقِّ، فقال تعالى:
إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلمُونَ [الزخرف: 86]، خرج الشَّاهِدُ المُخْبِرُ عن الكافِرِ بكُفْرِه عن أَنْ يكونَ بذلك كافِرًا إلى رِضا اللهِ عزَّ وجَلَّ والإيمانِ.
ولَمَّا قال تعالى:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106] خرج من ثَبَت إِكراهُه عن أَنْ يكونَ بإظهارِ الكُفْرِ كافِرًا إلى رُخصةِ اللهِ تعالى والثَّباتِ على الإيمانِ، وبَقِيَ من أظهَرَ الكُفْرَ -لا قارئًا، ولا شاهدًا، ولا حاكيًا، ولا مُكرَهًا- على وجوبِ الكُفْرِ له بإجماعِ الأمَّةِ على الحُكمِ له بحُكمِ الكُفْرِ، وبحُكمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، وبنصِّ القرآنِ على من قال كَلِمةَ الكُفْرِ: إِنَّه كافِرٌ، وليس قَولُ الله عزَّ وجل:
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا على ما ظنُّوه من اعتقادِ الكُفْرِ فقط، بل كلُّ من نَطَق بالكلامِ الذي يُحكَمُ لقائِلِه عند أهلِ الإسلامِ بحُكمِ الكُفْرِ، لا قارئًا، ولا شاهدًا، ولا حاكيًا، ولا مُكرَهًا؛ فقد شرح بالكُفْرِ صَدرًا، بمعنى أَنَّه شَرَح صَدْرَه لقَبولِ الكُفْر المحرَّمِ على أهلِ الإسلامِ وعلى أهلِ الكُفْرِ أَنْ يقولوه، وسواءٌ اعتقدوه أو لم يعتَقِدوه؛ لأَنَّ هذا العَمَل من إعلانِ الكُفْر على غيرِ الوُجوهِ المباحةِ في إيرادِه، وهو شَرحُ الصَّدرِ به، فبَطَل تمويهُهم بهذه الآيةِ. وباللهِ تعالى التَّوفيقُ)
[1120] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/249). .
وقال أيضًا: (وأمَّا قَولُهم -يعني
الجَهمِيَّةَ و
الأشاعِرةَ و
المرجِئةَ-: إِنَّ إخبارَ اللهِ تعالى بأَنَّ هؤلاء كلَّهم كُفَّارٌ دليلٌ على أَنَّ في قلوبهم كُفرًا، وأَنَّ شَتْمَ اللهِ تعالى ليس كُفرًا، ولكنَّه دليلٌ على أَنَّ في القَلْب كُفرًا، وإنْ كان كافِرًا لم يعرفِ اللهَ تعالى قطُّ؛ فهذه منهم دعوى مُفتراةٌ لا دليلَ لهم عليها ولا بُرهانَ؛ لا من نصٍّ، ولا سنَّةٍ صحيحةٍ ولا سقيمةٍ، ولا حجَّةٍ من عقلٍ أصلًا، ولا من إجماعٍ، ولا من قياسٍ، ولا من قَولِ أحدٍ من السَّلَفِ قبل اللَّعينِ جَهْمِ بنِ صفوانَ، وما كان هكذا فهو باطلٌ وإفكٌ وزورٌ؛ فسَقَط قولهم هذا مِن قُربٍ. ولله الحمدُ ربِّ العالَمينَ، فكيف والبرهانُ قائمٌ بإبطالِ هذه الدَّعوى من القُرآنِ والسُّنَنِ والإجماعِ والمعقولِ والحِسِّ والمشاهَدةِ الضَّروريَّة؟!)
[1121] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/241). .
وقال أيضًا: (ونقولُ للجَهميَّة والأشعريَّةِ في قَولِهم: إِنَّ جَحْدَ اللهِ تعالى وشتْمَه، وجحْدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان كلُّ ذلك باللِّسانِ؛ فإِنَّه ليس كُفرًا، لكنَّه دليلٌ على أنَّ في القَلْب كُفرًا … من ادَّعى أَنَّ الله شَهِدَ بأَنَّ من أعلنَ الكُفْرَ فإِنَّه جاحدٌ بقَلْبِه، فقد كذَبَ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، وافترى عليه، بل هذه شهادةُ
الشَّيطانِ التي أضلَّ بها أولياءَه، وما شَهِدَ اللهُ تعالى إلَّا بضدِّ هذا، وبأَنَّهم يَعرِفونَ الحقَّ ويَكتُمونه، ويَعرِفون أَنَّ الله تعالى حقٌّ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقٌّ، ويُظهِرون بألسِنَتِهم خِلافَ ذلك، وما سمَّاهم اللهُ عزَّ وجل قطُّ كفَّارًا إلَّا بما ظهر منهم بألسِنَتِهم وأفعالِهم، كما فعل
إبليسُ وأهلُ الكتابِ وغَيرُهم)
[1122] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/259). .
4. يوسُفُ بنُ عبدِ اللهِ بن عبدِ البَرِّ (المالكي). ت:463هـنقل كلامَ
إسحاقَ بنِ راهَوَيه ولم يتعقَّبْه بشيءٍ، فقال:
((قال إسحاقُ: أجمع العُلَماءُ أنَّ من سبَّ اللهَ عزَّ وجلَّ، أو رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو دفع شيئًا أنزَلَه اللهُ، أو قتل نبيًّا من أنبياءِ اللهِ، وهو مع ذلك مُقِرٌّ بما أنزَلَ الله؛ أنَّه كافِرٌ)) [1123] يُنظر: "التمهيد" (4/226). فائدةٌ: ابنُ عبد البَرِّ تكَلَّم عن أبي حنيفة في ((التمهيد)) (14/14)، ثم قال: ((وأما الإرجاءُ المنسوبُ إليه، فقد كان غيرُه فيه أَدْخَلَ، وبه أَقْوَلَ))، ففهم المحقِّق -أو هكذا أراد- أنَّه يقول: وبه أقُولُ! فعَلَّق قائلًا: (وهذا واضحٌ من ابن عبد البَرِّ القَول بالإرجاءِ، كما لا يخفى)! علمًا أنَّ ابنَ عبد البر نقل الإجماعَ في ((التمهيد)) نفسه (9/238) على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، ورَدَّ على المرجِئةِ. يُنظر: كتاب ((التوسط والاقتصاد)) لعلوي السقاف. .
5. عبدُ المَلِكِ بنُ عبدِ اللهِ الجُوَينيُّ (الشَّافعيُّ). ت:478هـقال
ابن حجر الهيتمي: (نقل إمامُ الحَرَمين عن الأصوليِّين أَنَّ من نطق بكَلِمة
الرِّدَّةِ، وزعم أَنَّه أضمر توريةً، كَفَرَ ظاهرًا وباطنًا، وأقرَّهم على ذلك)
[1124] يُنظر: ((الزواجر)) (1/54). .
6. عليُّ بن محمَّد البزدَويُّ (الحنفيُّ). ت:482هـقال البزدَويُّ: (فإنَّ الهَزْلَ ب
الرِّدَّةِ كُفرٌ، لا بما هَزَل به، لكن بعَيْنِ الهَزْلِ؛ لأَنَّ الهازلَ جادٌّ في نَفْسِ الهَزْلِ، مختارٌ راضٍ، والهَزْلُ بكَلِمةِ الكُفْرِ استخفافٌ بالدِّينِ الحقِّ، فصار مُرتدًّا بعينِه، لا بما هَزَل به، إلَّا أَنَّ أثَرَهما سـواءٌ، بخِلافِ المُكْرَه؛ لأَنَّه غيرُ مُعتقِـدٍ لِعَيْنِ ما أُكْرِهَ عليه)
[1125] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (4/600). .