المَطْلَبُ الثَّاني: النُّصوصُ الدَّالةُ على تكفيرِ المُعَيَّنِ إذا توافَرَت الشُّروطُ وانتَفَت الموانِعُ
قال ابنُ تيميَّةَ: (إذا عُرِف هذا فتكفيرُ المُعَيَّن من هؤلاء الجُهَّالِ وأمثالِهم بحيث يُحكَمُ عليه بأنَّه من الكُفَّارِ لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلَّا بعد أن تقومَ على أحَدِهم الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ التي يتبَيَّن بها أنهم مخالِفون للرُّسُلِ، وإن كانت هذه المقالةُ لا ريبَ أنَّها كُفرٌ، وهكذا الكلامُ في تكفيرِ جميع المُعَيَّنين مع أنَّ بَعْضَ هذه البِدَعِ أشَدُّ من بعضٍ، وبَعضَ المبتدعةِ يكونُ فيه من الإيمانِ ما ليس في بَعضٍ؛ فليس لأحدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا من المُسْلِمين، وإن أخطأ وغَلِط، حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتُبَيَّنَ له المحجَّةُ، ومن ثبت إيمانُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يُزالُ إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)
[1361] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/500). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/229). .
فإذا قامت الحُجَّةُ وزالتِ الشُّبهةُ وتيقنَّا إصرارَه على الكُفْرِ وتكذيبِه، فلا بدَّ من تكفيرِه، واستتابتِه، فإذا لم يَتُبْ قُتِلَ إجماعًا
[1362] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/264). .
وقد فعل السَّلَفُ ذلك مع من سبَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو من لم يَرْضَ بحُكْمِه
[1363] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (2/521). ، وفعلوا ذلك مع أعيانِ
الجَهميَّةِ؛ كالجَعْدِ بنِ دِرهَمٍ، وغيلانِ الدِّمَشقيِّ
[1364] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (2/344) (4/787)، ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (2/30)، ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 208). وما ورد مِن قَتْلِ السَّحَرةِ
[1365] يُنظر: ((فتح المجيد)) لعبدالرحمن بن حسن (2/30). .
قال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (يقالُ أيضًا: هؤلاء أصحابُ رَسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم يشهدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، ويؤذِّنون ويُصَلُّون، فإن قال: إنَّهم يقولون: إنَّ مُسيلِمةَ نبيٌّ، فقل: هذا هو المطلوبُ. إذا كان من رفع رجلًا إلى رتبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَفَر وحَلَّ مالُه ودَمُه، ولم تنفَعْه الشَّهادتان، ولا الصَّلاةُ، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًّا أو نبيًّا إلى مرتبةِ جَبَّارِ السَّمَواتِ والأرضِ؟!... ويقال أيضًا: الذين حَرَقهم عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه بالنَّارِ كُلُّهم يدَّعون الإسلامَ، وهم من أصحابِ عليٍّ، وتعَلَّموا العِلمَ من الصَّحابةِ، ولكِنَّهم اعتَقَدوا في عليٍّ مِثلَ الاعتقادِ في يوسف وشمسان وأمثالِهما، فكيف أجمع الصَّحابةُ على قَتْلِهم وكُفْرِهم؟ أتظنُّون أنَّ الصَّحابةَ يُكَفِّرون المُسْلِمين؟! ... ويقالُ أيضًا: بنو عبيد القَدَّاح الذين ملكوا المغرِبَ ومِصرَ في زمانِ بني العَبَّاسِ، كُلُّهم يشهدون بألسِنَتِهم أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، ويَدَّعون الإسلامَ، ويُصَلُّون الجُمُعةَ والجماعةَ، فلمَّا أظهروا مخالفةَ الشَّريعةِ في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العُلَماءُ على كُفْرِهم وقتالِهم، وأنَّ بِلادَهم بلادُ حَربٍ، وغزاهم المُسْلِمون حتى استنقَذوا ما بأيديهم من بِلدانِ المُسْلِمين... ويقال أيضًا: الذين قال اللهُ فيهم:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ [التوبة: 74] أمَا سَمِعتَ اللهَ كَفَّرَهم بكَلِمةٍ مع كَونِهم في زَمَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويجاهِدون معه ويُصَلُّون ويُزكُّون ويحجُّون ويوحِّدون؟! وكذلك الذين قال اللهُ فيهم:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65-66] ، فهؤلاء الذين صَرَّح اللهُ فيهم أنَّهم كَفَروا بعد إيمانِهم، وهم مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ، قالوا كَلِمةً ذَكَروا أنَّهم قالوها على وَجهِ المزاحِ)
[1366] يُنظر: ((كشف الشبهات)) (ص: 39-42). .
ومن التَّطبيقاتِ العَمَليَّةِ لتكفيرِ المُعَيَّنِ إذا قامت عليه الحُجَّةُ: إجماعُ السَّلَفِ على قتالِ الطَّائفةِ الممتَنِعةِ عن شريعةٍ من شرائِعِ الإسلامِ الظَّاهرةِ المتواترةِ، استنادًا لقتالِ الصَّحابةِ لمانعي الزكاةِ، رَغْمَ إقرارِهم بها، وقد اعتمد ابنُ تيميَّةَ هذه القاعِدةَ في فتواه في وجوبِ قِتالِ التَّتارِ، كحالِ المرتَدِّين، فقال: (كُلُّ طائفةٍ ممتَنِعةٍ عن التزامِ شَريعةٍ مِن شرائِعِ الإسلامِ الظَّاهرةِ المتواترةِ من هؤلاء القَومِ وغَيرِهم، فإنَّه يجِبُ قتالُهم حتى يلتَزِموا شرائِعَه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشَّهادتين، وملتَزِمين بَعْضَ شرائِعِه، كما قاتل
أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه مانعي الزَّكاةِ، وعلى ذلك اتَّفَق الفُقَهاءُ بَعْدَهم بعد سابقةِ مُناظرةِ عُمَرَ ل
أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فاتَّفَق الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم على القِتالِ على حُقوقِ الإسلامِ عَمَلًا بالكِتابِ والسُّنَّةِ... فأيُّما طائفةٍ امتَنَعَت من بَعْضِ الصَّلواتِ المفروضاتِ أو الصِّيامِ، أو الحَجِّ أو التزامِ تحريمِ الدِّماءِ والأموالِ، والخَمْرِ والزِّنا ... فإنَّ الطَّائفةَ الممتَنِعةَ تقاتَلُ عليها وإن كانت مُقِرَّةً بها، وهذا ما لا أعلَمُ فيه خلافًا بين العُلَماء ... وهؤلاء عند المحَقِّقين من العُلَماءِ ليسوا بمنزلةِ البُغاةِ الخارجين على الإمامِ أو الخارجين عن طاعتِه، كأهلِ الشَّامِ مع أميرِ المُؤمِنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فإنَّ أولئك خارجون عن طاعةِ إمامٍ مُعَيَّن، أو خارجون لإزالةِ ولايتِه، وأمَّا المذكورون فهم خارِجون عن الإسلامِ بمنزلةِ مانعي الزَّكاةِ، وبمنزلةِ
الخوارجِ الذين قاتَلَهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه)
[1367] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/502-504). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ -بعد ما ذكر بَعْضَ الأمثلةِ- (ولو ذهَبْنا نعَدِّدُ من كَفَّره العُلَماءُ مع ادِّعائِه الإسلامَ، وأفتَوا برِدَّتِه؛ لطال الكلامُ)
[1368] يُنظر: ((الرسائل الشخصية)) (220). .
ولا يخلو حالُ من التزمَ بغيرِ الشَّريعةِ -سواءٌ كان مُشرِّعًا أو حاكمًا- من ثلاثةِ أحوالٍ:
الحالُ الأُولى: من كان جاهِلًا أنَّه يلزَمُه اتِّباعُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والالتزامُ بالشَّريعةِ إجمالًا، فهذا كافِرٌ كُفرًا أصلِيًّا؛ لأنَّ مِن شُروطِ تحقيقِ شَهادةِ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ العِلمَ بمدلولِها، الذي هو تصديقُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والالتزامُ بالشَّريعةِ التزامًا إجماليًّا يقتضي التَّصديقَ والالتزامَ التَّفصيليَّ، وهذا الأمرُ لا يُعذَرُ فيه أحَدٌ بجَهلٍ أو تأوُّلٍ أو إكراهٍ، فلا يتحقَّقُ الإيمانُ إلَّا به، ولا تكونُ النَّجاةُ في الآخرةِ دونَ تحقيقِه، لكِنَّا لا نعلَمُ ذلك من حالِ المُعَيَّن بمجَرَّدِ فِعْلِه الظَّاهِرِ؛ فلا يجوزُ الجَزمُ بكُفرِ من ظهر منه ذلك إلَّا ما اطَّلَعْنا عليه بإخبارِ المُعَيَّنِ عن نَفْسِه بذلك، أو اعترافِه به.
الحالُ الثَّانيةُ: من كان غيرَ جاهلٍ بلُزومِ الالتزامِ بالشَّريعةِ في تحقيقِ أصلِ الدِّينِ -كما هو مفتَرَضٌ في كلِّ من أقرَّ بالإسلامِ- ورَدَّ الشَّريعةَ بالتزامِه بغَيرِها من القوانينِ الوَضعيَّةِ ونحوِها متعَمِّدًا لذلك؛ فهو كافِرٌ، ولا يُنظَرُ لكونِه مُستحِلًّا أو غيرَ مُستحِلٍّ، جاحدًا أو غيرَ جاحدٍ، وهذا هو مناطُ النِّزاعِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمرجِئةِ.
الحالُ الثَّالثةُ: العالمُ بلزومِ الالتزامِ بالشَّريعةِ لتحقيقِ شَهادةِ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، لكِنْ تحقَّقت منه المخالفةُ في الظَّاهِرِ بالالتزامِ بغيرِ الشَّريعةِ، ولكِنْ لا على جِهةِ رَفْضِها ورَدِّها، بل قد يكونُ عن ظَنٍّ بأنَّ فِعْلَه لا يُناقِضُ حقيقةَ الالتزامِ؛ فهذا لا يُحكَمُ بكُفْرِه بمجَرَّدِ الفِعْلِ.
وهذه الحالُ والتي قَبْلَها يلزَمُ فيهما التَّبيُّن عن حالِ المُعَيَّن قبل تكفيرِه، وهل فَعَل ما فعل ردًّا للشَّريعةِ أم أنَّ له شُبُهاتٍ وتأولاتٍ، فإنْ كان رَدُّه للشَّريعةِ عَمدًا، كان كافِرًا، وإن كان ممن يُعذَرُ بجَهلٍ أو تأوُّلٍ لم يُحكَمْ بكُفْرِه حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتُزالَ شُبهتُه.
قال ابنُ تيميَّةَ: (لا رَيبَ أنَّ من لم يَعتَقِدْ وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ على رَسولِه، فهو كافِرٌ، فمن استحَلَّ أن يحكُمَ بين النَّاسِ بما يراه عَدْلًا من غيرِ اتِّباعٍ لِما أنزَلَ اللهُ، فهو كافِرٌ؛ فإنَّه ما من أُمَّةٍ إلَّا وهي تأمُرُ بالحُكمِ بالعَدْلِ، وقد يكونُ العَدْلُ في دينِها ما رآه أكابِرُهم، بل كثيرٌ من المنتَسِبين إلى الإسلامِ يحكُمون بعاداتِهم التي لم يُنزِلْها اللهُ، كسواليفِ الباديةِ، وكأوامِرِ المطاعينَ فيهم، ويَرَونَ أنَّ هذا هو الذي ينبغي الحُكمُ به دونَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وهذا هو الكُفْرُ.
فإنَّ كثيرًا من النَّاسِ أسلموا ولكِنْ مع هذا لا يحكُمون إلَّا بالعاداتِ الجاريةِ لهم، التي يأمُرُ بها المطاعون، فهؤلاء إذا عَرَفوا أنَّه لا يجوزُ الحُكمُ إلَّا بما أنزل اللهُ، فلم يلتزموا ذلك، بل استحَلُّوا أن يحكُموا بخِلافِ ما أنزل الله؛ فهم كُفَّارٌ، وإلَّا كانوا جُهَّالًا)
[1369] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (5/130). .
وقال
محمَّدُ رشيد رضا عن آياتِ المائدةِ وحُكم المُعرِضِ عن شَرْعِ اللهِ: (في الآيةِ الأُولى كان الكلامُ في التَّشريعِ وإنزالِ الكِتابِ مُشتَمِلًا على الهدى والنُّور، والتزامِ الأنبياءِ وحُكَماءِ العُلَماءِ العَمَلَ والحُكمَ به، والوَصِيَّةِ بحِفْظِه، وخُتِمَ الكلامُ ببيانِ أن كُلَّ مُعرِضٍ عن الحُكمِ به لعَدَمِ الإذعانِ له؛ رَغبةً عن هدايتِه ونُورِه، مؤثِرًا لغيرِه عليه؛ فهو كافِر به، وهذا واضِحٌ لا يدخُلُ فيه من لم يتَّفِقْ له الحُكمُ به، أو من تَرَك الحُكمَ به عن جهالةٍ ثُمَّ تاب إلى اللهِ، وهذا العاصي بتَرْكِ الحُكمِ الذي يتحامى أهلُ السُّنَّةِ القَوْلَ بتكفيرِه)
[1370] يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/334). .
وقال
ابنُ عثيمين: (من وَضَع قوانينَ تشريعيَّةً مع عِلْمِه بحُكمِ اللهِ، وبمخالفةِ هذه القوانينِ لحُكمِ اللهِ؛ فهذا قد بَدَّل الشَّريعةَ بهذه القوانينِ، فهو كافِرٌ؛ لأنَّه لم يرغَبْ بهذا القانونِ عن شريعةِ اللهِ إلَّا وهو يَعتَقِدُ أنَّه خيرٌ للعِبادِ والبلادِ مِن شَريعةِ اللهِ، وعندما نقولُ بأنَّه كافِرٌ فمعنى ذلك أنَّ هذا الفِعْلَ يوصِلُ إلى الكُفْرِ. ولكن قد يكونُ الواضِعُ له مَعذورًا، مثل أن يُغَرَّرَ به، كأن يُقالَ: إنَّ هذا لا يخالِفُ الإسلامَ، أو هذا من المصالِحِ المُرسَلةِ، أو هذا ممَّا ردَّه الإسلامُ إلى النَّاسِ)
[1371] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/160). .