المَبحَثُ السَّادِسُ: السُّخْريةُ والاستهزاءُ بشَيءٍ جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
من استهزأَ باللهِ أو بآياتِه الكَونيَّةِ أو الشَّرعيَّةِ أو برُسُلِه، فهو كافِرٌ؛ لأنَّ مُنافاةَ الاستهزاءِ للإيمانِ مُنافاةٌ عظيمةٌ؛ إذ كيف يَسخَرُ ويَستهزئُ بأمرٍ يؤمِنُ به؟! فالمؤمِنُ بالشَّيءِ لا بدَّ أن يكونَ في قَلْبِه من تعظيمِه ما يليقُ به.
والكُفْرُ كُفرانِ: كُفرُ إعراضٍ، وكُفرُ مُعارضةٍ، والمستهزئُ كافِرٌ كُفرَ مُعارضةٍ، فمن سَخِرَ أو استهزأ بالصَّلاةِ ولو نافلةً، أو بالزكاةِ، أو الصَّومِ، أو الحَجِّ، فهو كافِرٌ بإجماعِ المُسلِمين، كذلك من استهزأ بالآياتِ الكونيَّةِ بأن قال مثلًا: إنَّ وجودَ الحَرِّ في أيَّامِ الشِّتاءِ سَفَهٌ، أو قال: إنَّ وُجودَ البَردِ في أيامِ الصَّيفِ سَفَهٌ، فهذا كُفرٌ مخرِجٌ عن المِلَّةِ؛ لأنَّ الرَّبَّ عَزَّ وجَلَّ كُلُّ أفعالِه مَبنيَّةٌ على الحِكمةِ.
قال اللهُ تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التَّوبة: 65-66] .
قال
الرازي مُبَيِّنًا ما تدُلُّ عليه هذه الآيةُ من الأحكامِ: (الحُكْم الأوَّلُ: أنَّ الاستهزاءَ بالدِّينِ كيف كان، كفرٌ باللهِ؛ وذلك لأَنَّ الاستهزاءَ يَدُلُّ على الاستخفافِ؛ والعُمدةُ الكبرى في الإيمانِ تعظيمُ اللهِ تعالى بأقصى الإمكانِ؛ والجَمعُ بينهما محالٌ.
الحُكْم الثَّاني: أَنَّه يدلُّ على بُطلانِ قَولِ من يقولُ: الكُفْرُ لا يدخُلُ إلَّا في أفعالِ القُلوبِ.
الحُكْمُ الثَّالثُ: يدلُّ على أَنَّ قولَهم الذي صدر منهم كفرٌ في الحقيقةِ، وإِنْ كانوا منافقينَ من قبلُ، وأَنَّ الكُفْرَ يمكِنُ أَنْ يتجدَّد من الكافِر حالًا فحالًا.
الحُكْم الرَّابعُ: يدلُّ على أنَّ الكُفْرَ إِنَّما حدَثَ بعد أنْ كانوا مؤمنين)
[2241] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/ 95). .
وقال
ابنُ عثيمين: (قَولُه:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ الاستفهامُ للإنكارِ والتعَجُّبِ، فيُنكِرُ عليهم أن يَستَهزِئوا بهذه الأمورِ العظيمةِ، ويتعَجَّبُ كيف يكونُ أحَقُّ الحَقِّ محَلًّا للسُّخْريةِ؟
قَولُه:
أَبِاللَّهِ أي: بذاتِه وصفاتِه. قَولُه:
وَآيَاتِهِ: جمعُ آيةٍ، ويشمَلُ: الآياتِ الشَّرعيةَ، كالاستهزاءِ بالقُرآنِ، بأن يقالَ: هذا أساطيرُ الأوَّلينَ -والعياذُ باللهِ- أو يستهزئُ بشيءٍ من الشَّرائعِ، كالصَّلاةِ والزكاةِ والصَّومِ والحَجِّ. والآياتِ الكونيَّةَ، كأن يسخَرَ بما قدَّره اللهُ تعالى، كيف يأتي هذا في هذا الوقتِ؟ كيف يخرجُ هذا الثَّمَرُ من هذا الشَّيءِ؟ كيف يُخلَقُ هذا الذي يضُرُّ النَّاسَ ويَقتُلُهم؟ استهزاءً وسُخريةً.
قَولُه:
وَرَسُولِهِ المرادُ هنا: مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... قَولُه:
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أي: بالاستهزاءِ، وهم لم يكونوا منافِقين خالصين، بل مؤمنون، ولكِنْ إيمانُهم ضعيفٌ؛ ولهذا لم يمنَعْهم من الاستهزاءِ باللهِ وآياتِه ورَسولِه...
ويُستفادُ من الآيتينِ: أنَّ الاستهزاءَ باللهِ وآياتِه ورَسولِه: من أعظَمِ الكُفْرِ، بدليلِ الاستفهامِ والتَّوبيخِ.
وأنَّ الاستهزاءَ باللهِ وآياتِه ورَسولِه أعظَمُ استهزاءً وقبحًا؛ لِقَولِه:
أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وتقديُم المتعِّلقِ يدُلُّ على الحَصرِ، كأنَّه ما بقي إلَّا أن تَستهزِئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلًّا للاستهزاءِ، بل أحَقُّ الحَقِّ هؤلاء الثَّلاثةِ. وأنَّ المستهزئَ باللهَ يَكفُرُ؛ لِقَولِه:
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... ويستفادُ أيضًا: قَبولُ توبةِ المستهزئِ باللهِ؛ لِقَولِه:
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ، وهذا أمرٌ قد وقع؛ فإنَّ من هؤلاء من عُفِيَ عنه وهُدِيَ للإسلامِ وتاب الله عليه، وهذا دليلٌ للقَولِ الرَّاجِحِ؛ أنَّ المستهزئَ بالله تُقبَلُ توبتُه، لكِنْ لا بدَّ من دليلٍ بيِّنٍ على صِدقِ توبتِه؛ لأنَّ كُفْرَه مِن أشَدِّ الكُفْرِ، أو هو أشَدُّ الكُفْرِ، فليس مِثلَ كُفرِ الإعراضِ أو الجُحودِ)
[2242] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/270). .
عن
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((قال رجلٌ في غزوةِ تَبُوك في مجلسٍ: ما رَأَينا مِثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغَبَ بُطونًا [2243] أي: أوسعُ بطونًا. يُنظر: ((الفائق في غريب الحديث)) للزمخشري (2/69). ، ولا أكذَبَ ألسُنًا، ولا أجبَنَ عند اللقاءِ، فقال رجلٌ في المجلس: كَذَبْتَ، ولكِنَّك منافِقٌ، لأخبِرَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونزل القُرآن. قال عبدُ اللهِ بنُ عُمَر: فأنا رأيتُه مُتعَلِّقًا بحَقَبِ [2244] الحَقَب: حَبلٌ يُشَدُّ به رَحْلُ البعيرِ إلى بطنِه. يُنظر: ((المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث)) للمديني (1/469). ناقةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تَنكُبُه الحجارةُ، وهو يقولُ: يا رسولَ اللهِ إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعَبُ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم)) [2245] [ضعيف] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (16912)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (10515) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (1/94): إسناده فيه مقال. .
وعن زيدِ بنِ أسلَمَ: أنَّ رَجُلًا من المنافقيِن قال لعَوفِ بنِ مالكٍ في غزوةِ تَبُوكَ: ما لقُرَّائِنا هؤلاء؟! أرغَبُنا بطونًا، وأكذبُنا ألسنةً، وأجْبَنُنا عندَ اللقاءِ! فقال له عوفٌ: كَذَبْتَ، ولكِنَّك مُنافِقٌ! لأخبِرَنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذهب عوفٌ إلى رسولِ اللهِ ليُخبِرَه، فوجد القُرآنَ قد سبقه. قال زيدٌ: قال
عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: فنظَرْتُ إليه متعَلِّقًا بحَقَبِ ناقةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَنكُبُه الحِجارةُ، يقولُ: إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعَبُ، فيقولُ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ما يزيدُه
[2246] [ضعيف] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (16911). .
قال
أبو يوسُفَ: (أيُّما رجُلٍ مُسلِمٍ سَبَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو كذَّبه أو عابه أو تنقَّصَه؛ فقد كَفَر باللهِ، وبانت منه زوجتُه، فإن تاب وإلَّا قُتِلَ)
[2247] يُنظر: ((الخراج)) (ص: 199). .
وقال
السَّرخسيُّ: (الاستِخفافُ بالدِّينِ كُفرٌ)
[2248] يُنظر: ((المبسوط)) (24/59). .
وقال عِياضٌ: (جميعُ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو عابه، أو ألحقَ به نقصًا في نَفْسِه أو نسَبِه أو دينِه أو خَصلةٍ مِن خصالِه، أو عَرَّض به، أو شَبَّهه بشيءٍ على طريقِ السَّبِّ له أو الإزراءِ عليه، أو التصغيرِ لشَأنِه أو الغَضِّ منه والعيبِ له؛ فهو سابٌّ له، والحُكْمُ فيه حُكمُ السَّابِّ يُقتَلُ ... وهذا كُلُّه إجماعٌ من العُلَماءِ وأئمَّةِ الفتوى من لَدُنِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم إلى هَلُمَّ جَرًّا)
[2249] يُنظر: ((الشفا)) (2/214). .
وقال
ابنُ باز: (وهكذا لو قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وصَلَّى وصام ولكِنَّه يَسُبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يتنقَّصُه أو يهزَأُ به، أو يقولُ: إنَّه لم يُبَلِّغِ الرِّسالةَ كما ينبغي، بل قَصَّر في ذلك، أو يَعيبُه بشيءٍ من العيوبِ؛ صار كافِرًا، وإن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ آلافَ المرَّاتِ، وإن صَلَّى وصام)
[2250] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/21). .
وقال أيضًا: (وهكذا من يستهزِئُ باللهِ سُبحانَه أو برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو بالجنَّةِ أو النَّارِ، أو بالقُرآنِ، وما أشبَهَ ذلك؛ فإنَّه كافِرٌ إجماعًا؛ لأنَّ هذا الاستهزاءَ والتنَقُّصَ دليلٌ على أنَّ دعواه الإيمانَ باطِلةٌ، وأنَّه ليس عنده إيمانٌ يَحجُزُه عن الاستهزاءِ بما ذُكِرَ)
[2251] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/38). .
وقال أيضًا: (لقد نطق كِتابُ اللهِ الكريمُ بكُفرِ من استهزأ بالرَّسولِ العظيمِ، أو بشَيءٍ مِن كِتابِ اللهِ المُبِينِ، وشَرْعِه الحكيمِ؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ الآية، فهذه الآيةُ الكريمةُ نَصٌّ ظاهِرٌ وبُرهانٌ قاطِعٌ على كُفرِ من استهزأَ باللهِ العظيمِ، أو رَسولِه الكريمِ، أو كِتابه المُبِينِ.
وقد أجمع عُلَماءُ الإسلامِ في جميعِ الأعصارِ والأمصارِ على كُفرِ من استهزأ باللهِ أو رَسولِه أو كِتابِه أو شَيءٍ من الدِّينِ، وأجمعوا على أنَّ من استهزأ بشيءٍ من ذلك، وهو مُسلِمٌ؛ أنَّه يكونُ بذلك كافِرًا مرتَدًّا عن الإسلامِ يجِبُ قَتْلُه؛ لِقَولِ الرَّسولِ: «من بَدَّل دينَه فاقْتُلوه»
[2252] أخرجه البخاري (3017) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. .
ومن الأدِلَّةِ القاطعةِ على كُفرِ من استهزأَ باللهِ أو رَسولِه أو كِتابِه: أنَّ الاستهزاءَ تنَقُّصٌ واحتقارٌ للمُستهزَأِ به. واللهُ سُبحانَه له صفةُ الكَمالِ، وكِتابُه من كلامِه، وكلامُه من صفاتِ كَمالِه عَزَّ وجَلَّ، ورسولُه مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أكمَلُ الخَلْقِ وسَيِّدُهم وخاتَمُ المُرسَلين وخليلُ رَبِّ العالَمين، فمن استهزَأَ باللهِ أو رسولِه أو كِتابِه أو شَيءٍ من دينِه، فقد تنَقَّصَه واحتَقَره، واحتقارُ شَيءٍ من ذلك وتنَقُّصُه كُفرٌ ظاهِرٌ، ونفاقٌ سافِرٌ، وعداءٌ لرَبِّ العالَمين، وكُفرٌ برَسولِه الأمينِ)
[2253] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/253). .
وقال
ابنُ عثيمين: (الاستِهزاءُ باللهِ تعالى أو برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُفرٌ ورِدَّةٌ يخرُجُ به الإنسانُ من الإسلامِ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66]، فكُلُّ من استهزأ باللهِ أو برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو بدينِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه كافِرٌ مرتَدٌّ، يجِبُ عليه أن يتوبَ إلى اللهِ تعالى، وإذا تاب إلى اللهِ فإنَّ الله تعالى يَقبَلُ توبتَه؛ لِقَولِه تعالى في هؤلاء المُستَهزِئينَ:
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 66]، فبَيَّن اللهُ تعالى أنَّه قد يعفو عن طائفةٍ منهم، ولا يكونُ ذلك إلَّا بالتَّوبةِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ من كُفْرِهم الذي كان باستِهزائِهم باللهِ وآياتِه ورَسولِه)
[2254] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/155). .