الفَرعُ الثَّالِثُ: من أمثِلةِ الشِّرْكِ الأصغَرِ في العباداتِ القَوليَّةِ: الاستِسقاءُ بالأنواءِ
الاستِسقاءُ يعني: طَلَبَ نزولِ الغَيثِ. والأنواءُ: جَمعُ نَوءٍ، وهو النَّجمُ، وفي السَّنةِ الشمسيَّة ثمانية وعشرون نوءًا، أي: نجمًا، كنَجمِ الثُّريَّا، ونجمِ الحُوتِ، وغَيرِهما.
قال
البَغَوي: (النَّوءُ للكواكبِ الثمانيةِ والعشرين التي هي منازِلُ القَمَرِ، يسقُطُ منها في كُلِّ ثلاثَ عَشْرةَ ليلةً نَجمٌ منها في المغرِبِ مع طُلوعِ الفَجْرِ، ويَطلُعُ آخَرُ يقابِلُه من المشرِقِ مِن ساعتِه، فيكونُ انقِضاءُ السَّنَةِ مع انقِضاءِ هذه الثمانيةِ والعشرينَ. وأصلُ النَّوءِ، هو النُّهوضُ، سُمِّي نَوْءًا؛ لأنَّه إذا سَقَط السَّاقِطُ منها بالمغربِ ناء الطَّالِعُ بالمشرقِ ينوءُ نَوءًا، وذلك النهوضُ، وقد يكونُ النَّوءُ للسُّقوطِ. وكانت العَرَبُ تقولُ في الجاهليَّةِ: إذا سقط منها نجمٌ، وطَلَع آخَرُ، لا بدَّ من أن يكونَ عند ذلك مطرٌ، فيَنسُبون كُلَّ غيثٍ يكونُ عند ذلك إلى النَّجمِ، فيقولون: مُطِرْنا بنَوءِ كذا!)
[464] يُنظر: ((شرح السنة)) (4/420). .
وقال
النَّوويُّ: (أمَّا النَّوءُ ففيه كلامٌ طويلٌ قد لخَّصَه الشَّيخُ
أبو عَمرِو بنُ الصَّلاحِ رحمه الله، فقال: النَّوءُ في أصلِه ليس هو نَفْسَ الكوكَبِ، فإنَّه مصدَرُ: ناء النَّجمُ ينوءُ نوءًا، أي: سَقَط وغاب. وقيل: أي: نَهَض وطَلَع، وبيانُ ذلك أنَّ ثمانيةً وعشرين نجمًا معروفةَ المطالِعِ في أزمنةِ السَّنةِ كُلِّها، وهي المعروفةُ بمنازِلِ القَمَرِ الثمانيةِ والعشرينِ، يَسقُطُ في كلِّ ثلاثَ عَشْرةَ ليلةً منها نجمٌ في المغرِبِ مع طُلوعِ الفَجرِ، ويَطلُعُ آخَرُ يقابِلُه في المشرِقِ من ساعتِه، وكان أهلُ الجاهليَّةِ إذا كان عند ذلك مطرٌ يَنسُبونه إلى السَّاقِطِ الغارِبِ منهما. وقال الأصمعيُّ: إلى الطَّالِعِ منهما. قال أبو عُبَيدٍ: ولم أسمَعْ أحدًا يَنسُبُ النَّوءَ للسُّقوطِ إلَّا في هذا الموضِعِ، ثمَّ إنَّ النَّجمَ نَفْسَه قد يُسَمَّى نوءًا تسميةً للفاعِلِ بالمصدَرِ، قال
أبو إسحاقَ الزَّجَّاجُ في بعضِ أماليه: السَّاقِطةُ في الغَرْبِ هي الأنواءُ، والطَّالِعةُ في المشرِقِ هي البوارِحُ. واللهُ أعلَمُ)
[465] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/61). .
فالمرادُ بالاستِسقاءِ بالأنواءِ: أن يُطلَبَ مِنَ النَّجمِ إنزالُ الغَيثِ. ويدخُلُ فيه نسبةُ نُزولِ الغَيثِ إلى النَّجمِ، كما كان أهلُ الجاهليَّةِ يَزعُمونَ، فكانوا إذا نَزَل مَطَرٌ في وَقتِ نجمٍ مُعَيَّنٍ نَسَبوا المطَرَ إلى ذلك النَّجمِ، فيقولون: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، أو هذا مَطَرُ الثُّرَيَّا، ونحوَ ذلك
[466] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبدالبر (16/287)، ((شرح السنة)) للبغوي (4/420)، ((النهاية)) (5/122)، ((جامع الأصول)) كلاهما لابن الأثير (11/577)، ((شرح مسلم)) (2/61). .
فالاستِسقاءُ بالأنواءِ ينقَسِمُ إلى قِسمَينِ:القِسمُ الأوَّلُ: أن يَنسُبَ المطَرَ إلى النَّجمِ مُعتَقِدًا أنَّه هو المنَزِّلُ للغيثِ بدونِ مشيئةِ اللهِ وفِعْلِه جَلَّ وعلا، فهذا شِركٌ أكبَرُ بالإجماعِ.
القِسمُ الثَّاني: أن ينسُبَ المطَرَ إلى النَّوءِ مُعتَقِدًا أنَّ اللهَ جَعَل هذا النَّجمَ سَبَبًا في نُزولِ هذا الغيثِ، فهذا من الشِّرْكِ الأصغَرِ؛ لأنَّه جَعَل ما ليس بسَبَبٍ سَبَبًا، فاللهُ تعالى لم يجعَلْ شيئًا من النُّجومِ سَبَبًا في نزولِ الأمطارِ، ولا صِلةَ للنُّجومِ بنُزولِها بأيِّ وجهٍ، وإنَّما أجرى اللهُ العادةَ بنزولِ بعضِ الأمطارِ في وقتِ بعضِ النُّجومِ
[467] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (3/234)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (2/18)، ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبدالله الجبرين (ص: 430). .
ومن الأدِلَّةِ الواردةِ في تحريمِ الاستِسقاءِ بالأنواءِ:1- عن أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِليَّةِ لا يَتْرُكونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاستِسْقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ)) [468] أخرجه مسلم (934). .
فيذكرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمورًا أربعةً مِن أُمورِ أهلِ الجاهليَّةِ لا تزالُ واقِعةً في هذه الأُمَّةِ، فَحذَّرنا مِنها، وأنَّ مَن أَتى بواحدةٍ مِنها فقدْ أَتى بإحْدَى الصِّفاتِ الجاهليَّةِ.
ومِن تلك الخِصالِ: الاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والاستسقاءُ هو طَلَبُ السُّقْيا، والمرادُ اعتقادُ أنَّ نُزولَ المطَرِ هو بظُهورِ نَجْمِ كذا، ومتى اعتَقَد أنَّ للنَّجمِ تأثيرًا مُستَقِلًّا في إنزالِ المطَرِ، أشرَكَ شِركًا أكبَرَ؛ قالَ اللهُ تعالَى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] .
ومَن جعَلَ هذه الأنواءَ سَبَبًا مع اعتقادِه أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ هو الخالِقُ الفاعِلُ، كان ذلك شِرْكًا أصغَرَ؛ لأن َّكُلَّ مَن جَعَل سَبَبًا لم يجعَلْه اللهُ سَبَبًا لا بوَحْيِه ولا بقَدَرِه، فهو مُشرِكٌ شِرْكًا أصغَرَ.
2- عن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: مُطِرَ النَّاسُ علَى عَهْدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شاكِرٌ، ومِنْهُمْ كافِرٌ، قالوا: هذِه رَحْمَةُ اللهِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذا وكَذا)) قالَ: فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ:
فَلا أُقْسِمُ بمَواقِعِ النُّجُومِ، حتَّى بَلَغَ:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أنَّكُمْ تُكَذِّبُون [الواقعة: 75-82] ))
[469] أخرجه مسلم (73). .
قال
السعديُّ: (قَولُه:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي: تَجعَلونَ مُقاَبلةَ مِنَّةِ اللهِ عليكم بالرِّزقِ التكذيبَ والكُفرَ لنِعمَةِ اللهِ، فتقولونَ: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، وتُضيفون النِّعمةَ لغَيرِ مُسْدِيها ومُوْلِيها! فهَلَّا شَكَرْتُم اللهَ تعالى على إحسانِه؛ إذ أنزَلَه اللهُ إليكم ليزيدَكم من فَضْلِه، فإنَّ التكذيبَ والكُفرَ داعٍ لرَفعِ النِّعَمِ وحُلولِ النِّقَمِ)
[470] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836). .
3- عن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبيَةِ في إثْرِ السَّماءِ كانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فلمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ فقالَ:
((هلْ تَدْرُونَ ماذا قالَ رَبُّكُم؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُه أعلَمُ. قالَ: قالَ: أصْبَحَ مِن عِبادِي مُؤْمِنٌ بي وكافِرٌ؛ فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِه فذلكَ مُؤْمِنٌ بي كافِرٌ بالكَوكَبِ، وأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا وكذا فذلكَ كافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بالكَوكَبِ )) [471] أخرجه البخاري (1038)، ومسلم (71) واللَّفظُ له. .
ففي هذا الحديثِ يقَرِّرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا نافِعَ ولا ضارَّ سِوى اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه مِن الكُفرِ والشِّركِ اعتِقادُ النَّفعِ والضُّرِّ في الأسبابِ بَعيدًا عن اللهِ تعالى؛ فقد حَدَث أن أمطَرَت السَّماءُ ليلًا «بالحُدَيبيَةِ» -وهي قَريةٌ قريبةٌ مِن مَكَّةَ سُمِّيَت باسمِ بِئرٍ فيها- فلمَّا صلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الفَجرِ من تلك الليلةِ، أقبلَ على النَّاسِ بوَجْهِه الشَّريفِ، فسَألَهم: هل تَدرونَ ماذا قالَ ربُّكم عزَّ وجلَّ؟ فأجابوه: اللهُ ورَسولُه أعلمُ. فأعلَمَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: أصبَحَ النَّاسُ بالنِّسبةِ إلى نُزولِ الأمطارِ على قِسمَينِ:
قِسمٍ مُؤمِنٍ باللهِ تعالى لا يُشرِكُ به شَيئًا، ويَعلَمُ أنَّ اللهَ هو مُدَبِّرُ الأمرِ ومُنزِلُ هذا المطَرِ.
وقِسمٍ كافِرٍ بِوَحدانيَّةِ اللهِ تعالى ويُشرِكُ معه غيرَه.
فأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بِفَضلِ اللهِ ورَحمتِه، فأسندَ إنزالَ الأمطارِ حقيقةً إلى اللهِ تعالى، فذلِك مُؤمِنٌ ومُوَحِّدٌ للهِ، وكافِرٌ بالكَوكِبِ، وأمَّا مَن قال: مُطرِنا بنَوءِ كذا وكذا، فذلِك كافِرٌ بالله مُؤمِنٌ بالكَوكَبِ، فمَن نسَبَ الأمطارَ وغيرَها مِن الحوادِثِ الأرضيَّةِ إلى تَحرُّكاتِ الكَواكِب في طُلوعِها وسُقوطِها، مُعتقِدًا أنَّها الفاعِلُ الحقيقيُّ، فهو كافِرٌ مُشرِكٌ في تَوحيدِه لرَبِّه.
وإنْ لم يعتَقِدْ ذلك فهو مِنَ الشِّركِ الأصغَرِ؛ لأنَّه نَسَب نِعمةَ اللهِ إلى غيرِه، ولأنَّ اللهَ لم يجعَلِ النَّوءَ سَبَبًا لإنزالِ المطَرِ فيه، وإنَّما هو فَضلٌ مِن اللهِ ورحمةٌ، يَحبِسُه إذا شاء، ويُنزِلُه إذا شاء.
والمسْنونُ لكُلِّ مؤمنٍ أن يقولَ كما وجَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتهِ»
[472] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 77). .
قال
ابنُ عبد البرِّ: (أمَّا قَولُه حاكيًا عن اللهِ عزَّ وجَلَّ:
((أصبح من عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ))، فمعناه عندي على وجهينِ:
أمَّا أحَدُهما: فإنَّ المعتَقِدَ أنَّ النَّوءَ هو الموجِبُ لنزولِ الماءِ، وهو المنشئُ للسَّحابِ دونَ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ فذلك كافِرٌ كُفرًا صريحًا، يجِبُ استتابتُه عليه وقَتْلُه؛ لِنَبذِه الإسلامَ ورَدِّه القرآنَ.
والوَجهُ الآخَرُ: أن يعتَقِدَ أنَّ النَّوءَ يُنزِلُ اللهُ به الماءَ، وأنَّه سَبَبُ الماءِ على ما قَدَّرَه اللهُ وسَبَق في عِلْمِه، فهذا وإن كان وجهًا مباحًا، فإنَّ فيه أيضًا كُفرًا بنعمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وجَهلًا بلطيفِ حِكمتِه؛ لأنَّه يُنزِلُ الماءَ متى شاء مرَّةً بنوءِ كذا ومَرَّةً دونَ النَّوءِ، وكثيرًا ما يخوى النَّوءُ فلا يَنزِلُ معه شيءٌ من الماء، وذلك مِنَ اللهِ لا من النَّوءِ)
[473] يُنظر: ((التمهيد)) (16/286). .
وقال
ابنُ رجبٍ: (لا تُضافُ النِّعَمُ إلى الأسبابِ، بل إلى مُسَبِّبِها ومُقَدِّرِها، كما في الحديثِ الصَّحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّه صَلَّى بهم الصُّبحَ في أثرِ سماءٍ، ثم قال: أتدرون ما قال ربُّكم اللَّيلةَ؟ قال: أصبح من عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ، فأمَّا المؤمِنُ فقال: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورحمتِه، فذلك مؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا الكافِرُ فقال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، فذلك كافِرٌ بي مؤمِنٌ بالكواكِبِ)) [474] أخرجه البخاري (1038)، ومسلم (71) باختلاف يسير من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. ... وهذا مما يدُلُّ على أنَّ المرادَ نَفيُ تأثيرِ هذه الأسبابِ بنَفْسِها من غيرِ اعتقادِ أنَّها بتقديرِ اللهِ وقَضائِه، فمن أضاف شيئًا من النِّعَمِ إلى غيرِ اللهِ مع اعتقادِه أنَّه ليس من اللهِ فهو مُشرِكٌ حقيقةً، ومع اعتقادِ أنَّه من اللهِ فهو نوعُ شِركٍ خَفِيٍّ)
[475] يُنظر: ((لطائف المعارف)) (ص: 71). .
وقال ابنُ مُفلحٍ: (يُستحَبُّ أن يقولَ: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، ويَحرُمُ بنَوءِ كذا؛ لخَبَرِ زيدِ بنِ خالدٍ، وهو في الصَّحيحَينِ، وإضافةُ المطَرِ إلى النَّوءِ دونَ اللهِ كُفرٌ إجماعًا)
[476] يُنظر: ((المبدع شرح المقنع)) (2/193). .
فإذا قال المسلِمُ: (مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا) ومَقصَدُه أنَّ اللهَ أنزل المطَرَ في وَقتِ هذا النَّجمِ، مُعتَقِدًا أنَّه ليس للنَّجمِ أَدنى تأثيرٍ لا استقلالًا ولا تسَبُّبًا؛ فقد اختَلَف أهلُ العِلمِ في حُكمِ هذا اللَّفظِ.
فمِمَّن ذهَبَ إلى تحريمِه سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ؛ حيثُ قال: (فالصَّحيحُ أنَّه لا يجوز؛ لِما تقَدَّم أنَّ معنى الحديثِ هو نِسبةُ السُّقْيا إلى الأنواءِ لَفْظًا، وإن كان القائِلُ لذلك يعتَقِدُ أنَّ اللهَ هو المنَزِّلُ للمَطَرِ، فهذا من بابِ الشِّرْكِ الخَفِيِّ في الألفاظِ، كقَولِه: لولا فلانٌ لم يكُنْ كذا)
[477] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 395). .
وممَّن ذَهَب إلى كراهتِه:
النَّوويُّ، فقال: (أمَّا معنى الحديثِ فاختَلَف العُلَماءُ في كُفرِ من قال: مُطِرْنا بنوءِ كذا، على قَولَينِ: أحَدُهما: هو كُفرٌ باللهِ سُبحانَه وتعالى، سالِبٌ لأصلِ الإيمانِ، مخرِجٌ مِن مِلَّةِ الإسلامِ، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتَقِدًا أنَّ الكوكَبَ فاعِلٌ مُدَبِّرٌ مُنشِئٌ للمَطَرِ، كما كان بعضُ أهلِ الجاهليَّةِ يَزعُمُ، ومن اعتَقَد هذا فلا شَكَّ في كُفْرِه، وهذا القَولُ هو الذي ذهب إليه جماهيرُ العُلَماءِ، و
الشَّافِعيُّ منهم، وهو ظاهِرُ الحديثِ، قالوا: وعلى هذا لو قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، معتَقِدًا أنَّه مِنَ اللهِ تعالى وبرَحمتِه، وأنَّ النَّوءَ ميقاتٌ له وعلامةٌ، اعتبارًا بالعادةِ، فكأنَّه قال: مُطِرْنا في وَقتِ كذا، فهذا لا يَكْفُرُ، واختلفوا في كراهتِه، والأظهَرُ كراهتُه، لكِنَّها كراهةُ تنزيهٍ لا إثمَ فيها، وسَبَبُ الكراهةِ أنَّها كَلِمةٌ مُتَرَدِّدةٌ بين الكُفرِ وغَيْرِه، فيُساءُ الظَّنُّ بصاحِبِها، ولأنَّها شِعارُ الجاهليَّةِ، ومَن سلك مَسْلَكَهم، والقَولُ الثَّاني في أصلِ تأويلِ الحَديثِ: أنَّ المرادَ كُفرُ نِعمةِ اللهِ تعالى؛ لاقتِصارِه على إضافةِ الغَيثِ إلى الكوكَبِ، وهذا فيمن لا يعتَقِدُ تدبيرَ الكوكَبِ)
[478] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/60). .
وممَّن ذهب إلى جوازِ قَولِ ذلك:
البَغَويُّ، فقال: (هذا التغليظُ فيمن يرى ذلك من فِعلِ النَّجمِ، فأمَّا من قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، وأراد: سقانا اللهُ تعالى بفَضْلِه في هذا الوَقتِ، فذلك جائِزٌ)
[479] يُنظر: ((شرح السنة)) (4/421). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (نسبةُ المطَرِ إلى النَّوءِ تنقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
نِسبةُ إيجادٍ، وهذه شِركٌ أكبَرُ.
نِسبةُ سَبَبٍ، وهذه شِركٌ أصغَرُ.
نِسبةُ وَقتٍ، وهذه جائزةٌ بأن يريدَ بقَولِه: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، أي: جاءنا المطَرُ في هذا النَّوءِ، أي: في وَقْتِه.
ولهذا قال العُلَماءُ: يَحرُمُ أن يقولَ: مُطِرْنا بنوءِ كذا، ويجوزُ: مُطِرْنا في نَوءِ كذا، وفَرَّقوا بينهما أنَّ الباءَ للسَّبَبيَّةِ، و«في» للظَّرفيَّةِ، ومِن ثمَّ قال أهلُ العِلمِ: إنَّه إذا قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، وجعل الباءَ للظَّرفيَّةِ، فهذا جائِزٌ، وهذا وإن كان له وجهٌ مِن حيثُ المعنى، لكِنْ لا وَجْهَ له من حيثُ اللَّفظُ؛ لأنَّ لَفظَ الحَديثِ:
((مَن قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا))، والباءُ للسَّببيَّةِ أظهَرُ منها للظَّرفيَّةِ، وهي وإن جاءت للظَّرفيَّةِ، كما في قَولِه تعالى:
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137، 138]، لكِنْ كَونُها للسَّبَبيَّةِ أظهَرُ، والعَكسُ بالعَكْسِ، «في» للظَّرفيَّةِ أظهَرُ منها للسَّببيَّةِ... والحاصِلُ: أنَّ الأقربَ المنعُ، ولو قَصَد الظَّرفيَّةَ، لكِنْ إذا كان المتكَلِّمُ لا يَعرِفُ مِن الباءِ إلَّا الظَّرفيَّةَ مُطلقًا، ولا يظُنُّ أنَّها تأتى سَبَبيَّةً، فهذا جائِزٌ، ومع ذلك فالأَولى أن يُقالَ لهم: قُولوا: في نَوءِ كذا... ومنه ما يُذكَرُ في بعضِ كُتُبِ التوقيتِ: «وقَلَّ أن يُخلَفَ نَوْؤُه»، أو: «هذا نَوْؤه صادِقٌ»، وهذا لا يجوزُ، وهو الذي أنكَرَه اللهُ عَزَّ وجلَّ على عِبادِه، وهذا شِركٌ أصغَرُ، ولو قال: بإذنِ اللهِ، فإنَّه لا يجوزُ؛ لأنَّ كُلَّ الأسبابِ مِنَ اللهِ، والنَّوءُ لم يجعَلْه اللهُ سَبَبًا)
[480] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/31). .
فالذي ينبغي: تَرْكُه واستِبدالُه بالألفاظِ الأُخرى التي لا إيهامَ فيها، فيقولُ: (مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه)، أو يقولُ: (هذا مَطَرٌ أنزَلَه اللهُ في وَقتِ نَجمِ كذا)، أو يقولُ: (مُطِرْنا في نَوءِ كذا)، ونحوَ ذلك من العباراتِ الصَّريحةِ التي لا لَبْسَ ولا إشكالَ فيها
[481] يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (1/259)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/63)، ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبد الله الجبرين (ص: 433). .