المطلبُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ على ذَمِّ البِدَعِ
1- عن
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من أحدَثَ في أَمْرِنا هذا ما لَيسَ منه، فهو رَدٌّ )))
[1073] رواه البخاري (2695)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له. وفي رِوايةٍ ل
مُسلِمٍ:
((من عَمَلِ عَمَلًا لَيسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [1074] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350)، وأخرجه موصولًا مسلم (1718) واللَّفظُ له. .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((من أحدَثَ في أمرِنا هذا ما لَيسَ منه فهو رَدٌّ)) أي: من اختَرَعَ في الشَّرعِ ما لا يَشهَدُ لَهُ أصلٌ من أصولِه فهو مَفسوخٌ، لا يُعمَلُ به، ولا يُلتَفَتُ إليه)
[1075] يُنظر: ((المفهم)) (5/171). .
2- عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ في خُطبَتِه:
((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خَيرَ الحَديثِ كِتابُ اللَّهِ، وخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) [1076] رواه مسلم (867). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (قَولُه:
((وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها)) يَعني كُلَّ ما أُحدِثَ بَعدَهُ في كُلِّ شَيءٍ إذا كان مُخالِفًا لِما شَرعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وكَذلك قَولُه:
((كُلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ)) إذا كانت مُخالِفةً أيضًا، وأصلُ
البِدعةِ من حَيثُ الاشتِقاقُ: الانفِرادُ، فصاحِبُها يَنفَرِدُ بها من جِهةِ أنَّه ابتَدَأها، ومنه قَولُه: أُبدِعَ بي، أي: أُفرِدْتُ، فلَمَّا لم يَرَها المُسْلِمونَ حَسَنةً، كانت ضَلالةً)
[1077] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/352). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من دَعا إلى هُدًى كان لَهُ من الأجرِ مِثلُ أجورِ مَن يَتبَعُه لا يَنقُصُ ذلك من أجورِهم شَيئًا، ومن دَعا إلى ضَلالةٍ كان عليه من الإثمِ مِثلُ آثامِ من تَبِعَه لا يَنقُصُ ذلك من آثامِهم شَيئًا )) [1078] رواه مسلم (2674). .
قال
الصَّنعانيُّ: (
((من دَعا إلى هُدًى)) من أمرِ اللهِ وأمرِ رَسولِه، أي: ما يُهتَدى به، ونَكَّرَه ليَدخُلَ فيه كُلُّ هدًى حَتَّى آدابِ الطَّريقِ وإماطةِ الأذَى عنها، قال الطِّيبيُّ: الهُدَى إمَّا الدَّلالةُ الموصِلةُ إلى البُغيةِ أو مُطلَقُ الإرشادِ، وهو في الحَديثِ ما يُهتَدَى به من الأعمالِ
[1079]) يُنظر: ((شرح المشكاة)) (2/625). ((كان لَهُ من الأجرِ)) في دُعائِه
((مِثلُ أجورِ من تَبِعَه)) إذِ الدَّالُّ على الخَيرِ كفاعِلِه
((لا يَنقُصُ ذلك)) الَّذي يُعطاهُ من الأجرِ.
((مِن أجورِهم)) المُتَّبِعينَ لَهُ
((شَيئًا))؛ ولِذا كان المُصطَفَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعظَمَ النَّاسِ أجرًا؛ لأنَّه ما من هدًى إلَّا وهو الدَّاعي إليه والدَّالُّ عليه، وفيه فضلُ العُلماءِ الدَّاعين للعِبادِ إلى الهُدَى.
((ومن دَعا إلى ضَلالةٍ)) ابتَدَعَها أو سَبَقَ إليها
((كان عليه من الإثمِ مِثلُ آثامِ من تَبِعَه)) لتوَلُّدِ الضَّلالةِ عن فعلِه، وأعمالِ الضَّالِّين عن دُعائِه، والعَبدُ يُثابُ بالأسبابِ ويُعاقَبُ عليها
((لا يَنقُصُ ذلك من آثامِهم شَيئًا))...
وفيه تَرغيبٌ عَظيمٌ في دُعاءِ العِبادِ إلى الخَيرِ ودَلالَتِهم عليه، وتَرهيبٌ بالِغٌ في الدُّعاءِ إلى الضَّلالِ والبِدَعِ، وكُلُّ خَصلةٍ تُنافي أمرَ اللَّهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1080] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (10/215). .
4- قال العِرباضُ بنُ سارِيةَ رَضيَ اللهُ عنه:
((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ ثُمَّ أقبَلَ عَلينا فوعَظَنا موعِظةً بليغةً ذَرَفَت منها العُيونُ ووَجِلَت منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ فماذا تَعهَدُ إلينا؟ فقال: أُوصيكُم بتَقوَى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعةِ وإنْ عَبدًا حَبشيًّا؛ فإنَّه من يَعِشْ منكُم بَعْدي فسيرَى اختِلافًا كَثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ المَهْديِّين الرَّاشِدين، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)) [1081] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبدالبر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). .
قال
عَلِي القاري: (
((تَمسَّكوا بها)) أي: بالسُّنَّةِ
((وعَضُّوا)) بفَتحِ العين
((عليها)) أي: على السُّنَّة
((بالنَّواجِذِ)) جَمعُ ناجِذةٍ بالذَّالِ المُعجَمةِ، وهيَ الضِّرسُ الأخيرُ... والعَضُّ كِنايةٌ عن شِدَّةِ مُلازَمةِ السُّنَّةِ والتمَسُّكِ بها؛ فإنَّ من أرادَ أن يَأخُذَ شيئًا أخذًا شَديدًا يَأخُذُه بأسنانِه. أو: المُحافَظةِ على هذه الوَصيَّةِ بالصَّبرِ على مُقاساةِ الشَّدائِدِ كمَن أصابَه ألمٌ لا يُريدُ أن يُظهِرَهُ فيَشتَدُّ بأسنانِه بَعضِها على بَعضٍ، قال بَعضُ المُحَقِّقينَ: هذه استِعارةٌ تَمثيليَّةٌ، شَبَّه حالَ المُتَمَسِّكِ بالسُّنَّةِ المُحَمَّديَّةِ بجَميعِ ما يُمكِنُ من الأسبابِ المُعينةِ عليه بحالِ مَن يَتَمَسَّكُ بشيءٍ بيديه، ثُمَّ يَستَعينُ عليه استِظهارًا للمُحافَظةِ في ذلك؛ لأنَّ تَحصيلَ السَّعاداتِ الحَقيقيَّةِ بَعدَ مُجانَبةِ كُلِّ صاحِبٍ يُفسِدُ الوَقتَ، وكُلِّ سَبَبٍ يَفتِنُ القَلبَ: مَنُوطٌ باتِّباعِ السُّنَّةِ بأن يَمتَثِلَ الأمرَ على مُشاهدةِ الإخلاصِ، ويُعظِّمَ النَّهيَ على مُشاهدةِ الخَوفِ، بَل باقتِفاءِ آثارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ مَوارِدِه ومَصادِرِه وحَرَكاتِه وسَكَناتِه ويَقَظَتِه ومَنامِه، حَتَّى يُلجِمَ النَّفسَ بلجامِ الشَّريعةِ)
[1082] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/253). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمورِ)):
((إياكُم)): هذه للتَّحذيرِ، أي: أحَذِّرُكُم.
و
((الأمورُ)): بمَعنى: الشُّؤونِ، والمُرادُ بها أمورُ الدِّينِ، أمَّا أمورُ الدُّنيا فلا تَدخُلُ في هذا الحَديثِ؛ لأنَّ الأصلَ في أمورِ الدُّنيا الحِلُّ؛ فما ابتُدِعَ منها فهو حَلالٌ، إلَّا أن يَدُلَّ الدَّليلُ على تَحريمِه. لَكِنَّ أمورَ الدِّينِ الأصلُ فيها الحَظْرُ؛ فما ابتُدِعَ منها فهو حَرامٌ
بدعةٌ، إلَّا بدَليلٍ من الكِتابِ والسُّنَّةِ على مَشروعيَّتِه.
قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((فإنَّ كُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)): الجُملةُ مُفَرَّعةٌ على الجُملةِ التحذيريَّةِ، فيَكونُ المُرادُ بها هُنا تَوكيدَ التحذيرِ وبَيانَ حُكمِ
البِدعةِ.
((كُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)): هذا كلامٌ عامٌّ مَسوقٌ بأقوَى لَفظٍ دالٍّ على العُمومِ، وهو لَفظُ
((كُلِّ))، فهو تَعميمٌ مُحكَمٌ صَدرَ من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أعلمُ الخَلقِ بشَريعةِ اللَّهِ، وأنصَحُ الخَلقِ لعِبادِ اللهِ، وأفصَحُ الخَلقِ بَيانًا، وأصدَقُهم خَبرًا؛ فاجتَمَعَت في حَقِّه أربَعةُ أمورٍ: عِلمٌ، ونُصْحٌ، وفَصاحةٌ، وصِدْقٌ، نَطَقَ بقَولِه:
((كُلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ)).
فعلى هذا: كُلُّ من تَعَبَّدَ للهِ بعَقيدةٍ أو قَولٍ أو فعلٍ لم يَكُن شَريعةَ اللَّهِ؛ فهو مُبتَدِعٌ)
[1083] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/314). .
5- عن حُذيفةَ بن اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه قال: كان النَّاسُ يَسألونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الخيرِ، وكُنتُ أسألُه عنِ الشَّرِّ مُخافةَ أن يُدرِكَني، فقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا في جاهِليَّةٍ وشَرٍّ فجاءِنا اللَّهُ بهذا الخيرِ، فهل بَعدَ هذا الخيرِ من شَرٍّ؟ قال:
((نَعَم)). قُلتُ: وهل بَعدَ ذلك الشَّرِّ من خيرٍ؟ قال:
((نَعَم، وفيه دَخَنٌ))، قُلتُ: وما دَخَنُه؟ قال:
((قَومٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيي، تَعرِفُ منهم وتُنكِرُ ))، قُلتُ: فهل بَعدَ ذلك الخيرِ من شَرٍّ؟ قال:
((نَعَم دُعاةٌ على أبوابِ جَهنَّمَ، من أجابَهم إليها قَذَفوهُ فيها))، قَلتُ: يا رَسولَ اللهِ صِفْهم لَنا. قال:
((هم من جِلدَتِنا، ويَتَكَلَّمونَ بألسِنَتِنا))، قُلتُ: فما تَأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال:
((تَلزَمُ جَماعةَ المُسلِمينَ وإمامَهم))، قُلت: فإنْ لم يَكُن لَهم جَماعةٌ ولا إمامٌ؟! قال:
((فاعتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّها، ولَو أن تَعَضَّ بأصلِ شَجَرةٍ حَتَّى يُدرِكَكَ المَوتُ وأنتَ على ذلك)) [1084] رواه البخاري (7084) ومسلم (1847) واللَّفظُ له. .
قال النَّوَويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((ويَهتَدُونَ بغَيرِ هَدْيِي)) الهَدْيُ: الهيئةُ والسِّيرةُ والطَّريقةُ، قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دُعاةٌ على أبوابِ جَهنَّمَ من أجابَهم إليها قَذَفوهُ فيها)) قال العُلماءُ: هؤلاء مَن كان من الأمراءِ يَدعو إلى
بِدْعةٍ أو ضَلالٍ آخَرَ كالخَوارِجِ والقَرامَطةِ وأصحابِ المِحنةِ)
[1085] يُنظر: ((شرح مسلم)) (12/237). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ دَجَّالونَ كذَّابون يَأتونَكُم من الأحاديثِ بما لم تَسمَعوا أنتُم ولا آباؤُكُم، فإيَّاكُم وإيَّاهم، لا يُضلُّونَكُم ولا يَفتِنونَكُم )) [1086] أخرجه من طرق مسلم في ((مقدمة الصَّحيح)) (7) واللَّفظُ له، وأحمد (8596). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6766)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (8151)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8596)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/245). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ من الفِقهِ تَشديدُ النَّهيِ عنِ الابتِداعِ، والتحذيرُ من أهلِ البِدَعِ، والحَضُّ على الاتِّباعِ، وهو يُنَبِّهُ الإنسانَ ألَّا يَكونَ في شَيءٍ من أمرِه إلَّا مُتَّبِعًا لِمَن يَثِقُ بسَلامةٍ ناحيَتِه، وكَونِه مِمَّن يَصلُحُ اتِّباعُه على سَبيلِ سُنَّةٍ، وحالِ رِوايةٍ)
[1087] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/195). .