المبحثُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من النَّظَرِ على ذَمِّ البِدَعِ
ثَمَّةَ أدِلَّةٌ من النَّظَرِ على ذَمِّ البِدَعِ، وذلك من وُجوهٍ
[1088] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/61-69). :
1- أنَّه قد عُلِمَ بالتجارِبِ والخِبرةِ أنَّ العُقولَ غَيرُ مُستَقِلَّةٍ بمَصالِحِها استِجلابًا لَها، أو بمَفاسِدِها استِدفاعًا لَها؛ لأنَّها إمَّا دُنيَويَّةٌ أو أُخرَويَّةٌ.
فأمَّا الدُّنيَويَّةُ فلا يُستَقَلُّ باستِدراكِها على التفصيلِ البَتَّةَ لا في ابتِداءِ وَضعِها، ولا في استِدراكِ ما يُمكِنُ أن يَعرِضَ في طَريقِها.
وأمَّا المَصالِحُ الأُخرَويَّةُ فأبعَدُ عن مَصالِحِ المَعقولِ من جِهةِ وضعِ أسبابِها، وهيَ العِباداتُ مَثَلًا، فإنَّ العَقلَ لا يَعلمُ بها على الجُملةِ، فضلًا عنِ العِلمِ بها على التفصيلِ.
فالعُقولُ لا تَستَقِلُّ بإدراكِ مَصالِحِها دونَ الوَحيِ، فالابتِداعُ مُضادٌّ لهذا الأصلِ؛ لأنَّه لَيسَ لَهُ مُستَنَدٌ شَرعيٌّ بالفَرضِ، فلا يَبقَى إلَّا ما ادَّعوهُ من العَقلِ، والمُبتَدِعُ لَيسَ على ثِقةٍ من بِدْعَتِه أن يَنالَ بسَبَبِ العَمَلِ بها ما رامَ تَحصيلَه من جِهتِها، فصارَت كالعَبَثِ.
2- أنَّ الشَّريعةَ جاءَت كامِلةً لا تَحتَمِلُ الزِّيادةَ ولا النُّقصانَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال فيها:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، وفي حَديثِ العِرباضِ بنِ سارِيةَ:
((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ ثُمَّ أقبَلَ عَلينا فوعَظَنا موعِظةً بليغةً ذَرَفَت منها العُيونُ ووَجِلَت منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ فماذا تَعهَدُ إلينا؟ فقال أُوصيكُم بتَقوَى اللهِ والسَّمعِ والطَّاعةِ وإنْ عَبدًا حَبشيًّا؛ فإنَّه من يَعِشْ منكُم بَعْدي فسيرَى اختِلافًا كَثيرًا، فعليكم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ المَهْديِّين الرَّاشِدين..)) الحَديثِ
[1089] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). .
فالمُبتَدِعُ إنَّما مَحصولُ قَولِه بلسانِ حالِه أو مَقالِه: إنَّ الشَّريعةَ لم تَتِمَّ، وأنَّه بَقيَ منها أشياءُ يَجِبُ أو يُستَحَبُّ استِدراكُها؛ لأنَّه لَو كان مُعتَقِدًا لكَمالِها وتَمامِها من كُلِّ وجهٍ، لم يَبتَدِعْ ولا استَدرَكَ عليها، وقائِلُ هذا ضالٌّ عنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ.
3- أنَّ المُبتَدِعَ مُعانِدٌ للشَّرعِ ومُشاقٌّ لَهُ؛ لأنَّ الشَّارِعَ قد عَيَّنَ لِمَطالِبِ العَبدِ طُرُقًا خاصَّةً على وُجوهٍ خاصَّةٍ، وقَصَرَ الخَلقَ عليها بالأمرِ والنَّهيِ والوَعدِ والوَعيدِ، وأخبَرَ أنَّ الخَيرَ فيها، وأنَّ الشَّرَّ في تَعدِّيها، إلى غَيرِ ذلك؛ لأنَّ اللهَ يَعلمُ، ونَحنُ لا نَعلمُ، وأنَّه إنَّما أرسَلَ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَحمةً للعالَمينَ، فالمُبتَدِعُ رادٌّ لهذا كُلِّه، فإنَّه يَزعُمُ أنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَرَ، وأنَّه لَيسَ ما حَصرَهُ الشَّارِعُ بمَحصورٍ، ولا ما عَيَّنَه بمُتَعَيِّنٍ، كأنَّ الشَّارِعَ يَعلمُ، ونَحنُ أيضًا نَعلمُ، بَل رُبَّما يُفهَمُ من استِدراكِه الطُّرقَ على الشَّارِعِ أنَّه عَلِمَ ما لم يَعلَمْه الشَّارِعُ، وهذا المَعنى إن كان مَقصودًا للمُبتَدِعِ فهو كُفرٌ بالشَّريعةِ والشَّارِعِ، وإن كان غَيرَ مَقصودٍ فهو ضَلالٌ مُبينٌ.
4- أنَّ المُبتَدِعَ قد نَزَّلَ نَفسَهُ مَنزِلةَ المُضاهي للشَّارِعِ؛ لأنَّ الشَّارِعَ وضعَ الشَّرائِعَ وألزَمَ الخَلقَ الجَريَ على سَنَنِها، وصارَ هو المُنفَرِدَ بذلك؛ لأنَّه حَكَمَ بَينَ الخَلقِ فيما كانوا فيه يَختَلِفونَ، وإلَّا فلَو كان التشريعُ من مُدرَكاتِ الخَلقِ لم تَنزِلِ الشَّرائِعُ، ولم يَبقَ الخِلافُ بَينَ النَّاسِ، ولا احتيجَ إلى بَعثِ الرُّسُلِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهذا الَّذي ابتَدَعَ في دينِ اللَّهِ قد صيَّرَ نَفسَه نَظيرًا ومُضاهيًا للهِ تعالى؛ حَيثُ شَرعَ مَعَ الشَّارِعِ، وفَتحَ للِاختِلافِ بابًا، ورَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ في الانفِرادِ بالتشريعِ.
5- أنَّه اتِّباعٌ للهوى؛ لأنَّ العَقلَ إذا لم يَكُن مُتَّبِعًا للشَّرعِ لم يَبقَ لَهُ إلَّا الهوى والشَّهوةُ؛ ومن المَعلومِ ما في اتِّباعِ الهوى وأنَّه ضَلالٌ مُبينٌ؛ قال اللَّهُ تعالى:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص: 26] ، فحَصرَ اللَّهُ تعالى الحُكْمَ في أمرَينِ لا ثالِثَ لَهما عِندَهُ، وهو الحَقُّ والهوى.
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف: 28] ، فجَعَلَ الأمرَ مَحصورًا بَينَ أمرَينِ: اتِّباعِ الذِّكْرِ، واتِّباعِ الهوى، وقال اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] ، وهذه الآيةُ صَريحةٌ في أنَّ من لم يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ، فلا أحَدَ أضَلُّ منه.
وهذا شَأنُ المُبتَدِعِ، فإنَّه اتَّبَعَ هواهُ بغَيرِ هدًى من اللَّه، وهُدَى اللهِ هو القُرآنُ.
وما بَيَّنَتْه الشَّريعةُ وبَيَّنَتْه الآيةُ أنَّ اتِّباعَ الهوى على ضَربَينِ:
الأوَّلُ: أن يَكونَ تابِعًا للأمرِ والنَّهيِ، فلَيسَ بمَذمومٍ ولا صاحِبُه بضالٍّ.
والثَّاني: أن يَكونَ هواهُ هو المُقدَّمَ، والمُبتَدِعُ قد قدَّمَ هوى نَفسِهِ على هُدَى اللَّهِ، فكان أضَلَّ النَّاسِ، وهو يَظُنُّ أنَّه على هُدًى.
وهُنا مَعنًى يَتَأكَّدُ التنبيهُ عليه، وهو أنَّ الآيةَ المَذكورةَ قد عَيَّنَت -باعتبارِ الاتِّباعِ وعدمِهِ للأحكامِ الشَّرعيَّةِ- طَريقَين:
الطَّريقُ الأولَى: الشَّريعةُ، ولا مِرْيةَ في أنَّها عِلمٌ وحقٌّ وهُدًى.
والطَّريقُ الثَّانيةُ: الهوى، وهو المَذمومُ؛ لأنَّه لم يُذكَرْ في القُرآنِ إلَّا في سياقِ الذَّمِّ، ولم يَجعَلْ ثَمَّ طَريقًا ثالِثًا، ومن تَتَبَّع الآياتِ ألفَى ذلك كذلك.