المَطلَبُ السَّادِسُ: اعتقادُ أنَّ ظاهِرَ النُّصوصِ هو ما يتبادَرُ منها إلى الذِّهنِ مِن المعاني، وهو يختَلِفُ بحَسَبِ السِّياقِ وما يُضافُ إليه
فالكَلِمةُ الواحِدةُ يكونُ لها معنًى في سياقٍ، ويكونُ لها معنًى آخَرُ في سياقٍ آخَرَ، كما أنَّ تركيبَ الكلامِ يُفيدُ معنًى على وَجهٍ، ويفيدُ معنًى آخَرَ على وجهٍ آخَرَ؛ فتقولُ مثَلًا: ما عندك إلَّا زيدٌ، وما زيدٌ إلَّا عندك، فالجُملةُ الثَّانيةُ تفيدُ معنًى غيرَ ما تفيدُه الجُملةُ الأُولى مع حُصولِ اتِّحادِ الكَلِماتِ، لكِنْ لاختِلافِ التركيبِ تغَيَّرَ المعنى به.
وتقولُ: صنَعْتُ هذا بيَدي، فلا تكونُ اليَدُ هنا كاليَدِ في قَولِه تعالى:
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ؛ لأنَّ اليَدَ في المِثالِ السَّابِقِ أُضيفَت إلى المخلوقِ فتكونُ مُناسِبةً له، وفي الآيةِ أُضيفَت إلى الخالِقِ فتكونُ لائِقةً به، فلا أحَدَ سَليمَ الفِطرةِ صَريحَ العَقلِ يَعتَقِدُ أنَّ يَدَ الخالِقِ كيَدِ المخلوقِ، أو بالعَكسِ.
وقد انقَسَم النَّاسُ في ظاهِرِ النُّصوصِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
القِسمُ الأَوَّلُ: مَن جَعَلوا الظَّاهِرَ المتبادِرَ منها معنًى حَقًّا يَلِيقُ باللهِ عزَّ وجَلَّ، وأبقَوا دَلالتَها على ذلك، وهؤلاء هم السَّلَفُ الذين اجتَمَعوا على ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، والذين لا يَصْدُقُ لَقَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إلَّا عليهم.
القِسمُ الثَّاني: من جَعَلوا الظَّاهِرَ المتبادِرَ مِن نُصوصِ الصِّفاتِ معنًى باطِلًا لا يَليقُ باللهِ، وهو: التَّشبيهُ، وأَبقَوا دَلالتَها على ذلك، وهؤلاء هم المُشَبِّهةُ، ومَذهَبُهم باطِلٌ مُحرَّمٌ، وقد قال اللهُ تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وكما أنَّ لله ذاتًا لا تُشبِهُ الذَّواتِ، فله صِفاتٌ لا تُشبِهُ الصِّفاتِ، وإذا كان هناك تبايُنٌ بين المخلوقاتِ في الحقيقةِ والكيفيَّةِ مع اتِّفاقِ الاسمِ -مِثلُ اليَدِ، فيَدُ الإنسانِ مَثَلًا ليست كيَدِ الحَيوانِ- فالتبايُنُ بين الخالِقِ والمخلوقِ أظهَرُ وأعظَمُ.
القسم الثَّالِثُ: من جَعلوا المعنى المتبادِرَ مِن نُصوصِ الصِّفاتِ معنًى باطِلًا لا يَليقُ باللهِ، وهو التَّشبيهُ، ثمَّ إنَّهم مِن أجلِ ذلك أنكَروا ما دَلَّت عليه من المعنى اللَّائِقِ باللهِ، وهم أهلُ
التَّعطيلِ، سواءٌ كان تعطيلُهم عامًّا في الأسماءِ والصِّفاتِ، أم خاصًّا فيهما، أو في أحَدِهما، فهؤلاء صَرَفوا النُّصوصَ عن ظاهِرِها إلى معانٍ عَيَّنوها بعُقولِهم، واضْطَربوا في تعيينِها اضطرابًا كثيرًا، وسَمَّوا ذلك تأويلًا، وهو في الحقيقةِ تحريفٌ، ومَذهَبُهم باطِلٌ، فهو جِنايةٌ على النُّصوصِ؛ حيث جَعَلوها دالَّةً على معنًى باطِلٍ غيرِ لائقٍ باللهِ، ولا مُرادٍ له. وهو صَرفٌ لكلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ظاهِرِه، واللهُ تعالى خاطَبَ النَّاسَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبينٍ؛ لِيَعقِلوا الكلامَ ويَفهَموه على ما يَقتَضيه هذا اللِّسانُ العَرَبيُّ، وهو قَولٌ على اللهِ بلا عِلمٍ، وقد قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] وقال سُبحانَه:
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا [الإسراء:36] [1094] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 36). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (إذا قال القائِلُ: ظاهِرُ النُّصوصِ مُرادٌ، أو ظاهِرُها ليس بمُرادٍ، فإنَّه يُقالُ: لَفظُ «الظَّاهِر» فيه إجمالٌ واشتراكٌ، فإن كان القائِلُ يَعتَقِدُ أنَّ ظاهِرَها
التَّمثيلُ بصِفاتِ المخلوقينَ، أو ما هو من خصائِصِهم، فلا رَيبَ أنَّ هذا غيرُ مرادٍ، ولكِنَّ السَّلَفَ والأئِمَّةَ لم يكونوا يُسَمُّونَ هذا ظاهِرًا، ولا يَرتَضونَ أن يكونَ ظاهِرُ القُرآنِ والحديثِ كُفرًا وباطِلًا، واللهُ سُبحانَه وتعالى أعلَمُ وأحكَمُ من أن يكونَ كلامُه الذي وَصَف به نَفْسَه لا يَظهَرُ منه إلَّا ما هو كُفرٌ وضَلالٌ.
والذين يَجعَلونَ ظاهِرَها ذلك يَغلَطونَ مِن وَجهَينِ:
تارةً يَجعَلونَ المعنى الفاسِدَ ظاهِرَ اللَّفظِ، حتى يجعَلوه مُحتاجًا إلى تأويلٍ يخالِفُ الظَّاهِرَ، ولا يكونُ كذلك.
وتارةً يَرُدُّونَ المعنى الحَقَّ الذي هو ظاهِرُ اللَّفظِ؛ لاعتقادِهم أنَّه باطِلٌ)
[1095] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 69). .
وقال عبدُ العزيزِ البُخاريُّ: (قال بعضُ المحَقِّقينَ: إنَّه لا يجوزُ أن يَثبُتَ بخِطابِ الشَّارعِ إلَّا ما يَقتَضِيه ظاهِرُه إنْ تجَرَّد عن قرينةٍ، وإن احتَمَل غيرَ ظاهِرِه أو ما يقتضيه مع قرينةٍ إن وُجدَت معه قرينةٌ؛ إذ لو جاز أن يَثبُتَ به غيرُ ما يَدُلُّ عليه ظاهِرُه، لَمَا حَصَل الوُثوقُ بخِطابِه؛ لجوازِ أن يكونَ المرادُ به غيرَ ظاهِرِه، مع أنَّه لم يُبَيِّنْه، وذلك يُفضي إلى اشتباهِ الأمرِ على النَّاسِ، ألا ترى أنَّا نَعلَمُ الشَّيءَ جائِزَ الوقوعِ قَطْعًا، ثمَّ نَقطَعُ بأنَّه لا يقَعُ؛ فإنَّه يجوزُ انقِلابُ ماءِ جَيحونَ دَمًا، وانقِلابُ الجُدرانِ ذَهَبًا، وظهورُ الإنسانِ الشَّيخِ لا من الأبوَينِ دَفعةً واحِدةً، ومع ذلك نقطَعُ بأنَّه لا يَقَعُ، فكذا هاهنا، وإن جَوَّزْنا من الله تعالى كُلَّ شَيءٍ، ولكِنَّه تعالى خَلَق فينا عِلمًا بَديهيًّا؛ فإنَّه لا يعني لهذه الألفاظِ إلَّا ظواهِرَها، فكذلك أَمِنَّا عن الالتِباسِ، وعَرَفْنا أنَّ الظَّواهِرَ قاطِعةٌ يجوزُ التمَسُّكُ بها في الأحكامِ القَطعيَّةِ)
[1096] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (3/ 255). .
وقال
السُّبكيُّ: (قاعِدةٌ: حَملُ اللَّفظِ إلى ما يتبادَرُ إلى الذِّهن ِأَولى. ومِن ثَمَّ يُحمَلُ على الحقيقةِ ما لم يترجَّحِ المجازُ بشُهرةٍ أو غَيرِها، كما لو قال: لا آكُلُ مِنَ الشَّجَرةِ، فإنَّه يُحمَلُ على ثَمَرِها، وإن كان خِلافَ الحقيقةِ؛ لترَجُّحِه)
[1097] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (1/ 274). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (اعلَموا أنَّ هنا قاعِدةً أُصوليَّةً أطبَقَ عليها من يُعتَدُّ به من أهْلِ العِلْمِ، وهي أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يجوزُ في حَقِّه تأخيرُ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، ولا سِيَّما لو مَشَينا على فَرْضِهم الباطِلِ؛ أنَّ ظاهِرَ آياتِ الصِّفاتِ الكُفْرُ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُؤَوِّلِ الاستواءَ «بالاستيلاءِ»، ولم يُؤَوِّلْ شيئًا من هذه التأويلاتِ، ولو كان المرادُ بها هذه التَّأويلاتِ لبادَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيانِها؛ لأنَّه لا يجوزُ في حَقِّه تأخيرُ البيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، فالحاصِلُ أنَّه يجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ أن يعتَقِدَ هذا الاعتِقادَ الذي يَحُلُّ جميعَ الشُّبَهِ ويُجيبُ عن جميعِ الأسئلةِ، وهو أنَّ الإنسانَ إذا سَمِعَ وَصفًا وَصَف به خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ نَفْسَه أو وَصَفَه به رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، امتلأَ صَدرُه من التعظيمِ، فيَجزِمُ بأنَّ ذلك الوَصفَ بالِغٌ من غاياتِ الكَمالِ والشَّرَفِ والعُلُوِّ ما يَقطَعُ جميعَ علائِقِ أوهامِ المشابَهةِ بينه وبين صِفاتِ المخلوقينَ، فيكونُ القَلبُ مُنَزِّهًا مُعَظِّمًا له جَلَّ وعلا، غيرَ مُتنَجِّسٍ بأقذارِ التَّشبيهِ، فتكونُ أرضُ قَلْبِه قابِلةً للإيمانِ والتصديقِ بصِفاتِ اللهِ التي تمدَّحَ بها أو أثنى عليه بها نَبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على غِرارِ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، والشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ في عَدَمِ تعظيمِ اللهِ، وأن يَسبِقَ في ذِهنِ الإنسانِ أنَّ صِفةَ الخالِقِ تُشبِهُ صِفةَ المخلوقِ، فيُضطرُّ المسكينُ أن ينفيَ صفةَ الخالِقِ بهذه الدَّعوى الكاذِبةِ)
[1098] يُنظر: ((الأسماء والصفات نقلًا وعقلًا)) (ص: 23). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (كُلُّ من قال: إنَّ ظاهِرَ نُصوصِ الصِّفاتِ
التَّمثيلُ، فإنَّه كاذِبٌ، سواءٌ تعَمَّد الكَذِبَ أم لم يتعَمَّدْه؛ لأنَّه حتى الذي يَقولُ عن تأويلٍ خاطئٍ يُسَمَّى كاذِبًا، أليس الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد «قال لأبي السَّنابِلِ لَمَّا أُخبِرَ بأنَّ أبا السَّنابِلِ قال لسُبَيعةَ الأسلَمِيَّةَ: لن تَنكِحي حتى يمضيَ عليكِ أربعةُ أشهُرٍ وعَشرٌ، قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَذَب أبو السَّنابِلِ» مع أنَّه ما تعَمَّد الكَذِبَ، لكِنَّه قال قولًا خاطِئًا، فنحن نقولُ: هذا كاذِبٌ، سواءٌ تعَمَّد أم لم يتعَمَّدْ؛ فليس في نُصوصِ الصِّفاتِ -ولله الحَمدُ- ما يقتضي
التَّمثيلَ لا عَقلًا ولا سَمعًا، ثمَّ إنَّ لدينا آيةً مِن كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ تمحو كُلَّ ما ادُّعِيَ أنَّ فيه تمثيلًا، وهي قَولُه:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . فأنت إذا جاءك نَصُّ إثباتِ فاقرِنْه بنَصِّ هذا النَّفيِ، ولا تؤمِنْ ببَعضِ الكِتابِ وتَكفُرْ ببَعضٍ، بل اقرِنْه به؛ فمثلًا قَولُه تعالى:
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] نقولُ: وليس كمِثْلِ وَجْهِ اللهِ شَيءٌ؛ لأنَّ اللهَ يَقولُ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وعلى هذا فقِسْ، والأمرُ -ولله الحَمدُ- ظاهِرٌ جِدًّا، ولولا كثرةُ النَّاسِ الذين سَلَكوا هذا المسلَكَ -أعني: مَسلَكَ التأويلِ في قَولِهم، والتَّحريف فيما نرى- لولا كثْرَتُهم لكان الأمرُ غيرَ مُشكِلٍ على أحَدٍ إطلاقًا؛ لأنَّه واضِحٌ ليس فيه إشكالٌ)
[1099] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (1/ 210). .