التَّوْبُ
صفةٌ فِعليَّةٌ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، و(التَّوَّابُ) مِن أسمائِه تعالى.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ: 1- قولُه تعالى:
فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (تأويلُ قَولِه:
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه هو التَّوَّابُ على من تاب إليه من عبادِه المُذنِبينَ مِن ذُنوبِه، التَّارِكُ مجازاتَه بإنابتِه إلى طاعتِه بعد معصيتِه بما سَلَف من ذَنْبِه. وقد ذكَرْنا أنَّ معنى التَّوبةِ مِن العَبدِ إلى رَبِّه: إنابتُه إلى طاعتِه، وأَوْبتُه إلى ما يُرضيه بتَرْكِه ما يُسخِطُه من الأُمورِ التي كان عليها مُقيمًا ممَّا يَكرَهُه رَبُّه، فكذلك توبةُ اللهِ على عَبْدِه هو أن يَرزُقَه ذلك، ويتوبَ مِن غَضَبِه عليه إلى الرِّضا عنه، ومِن العُقوبةِ إلى العَفْوِ والصَّفحِ عنه)
[1798] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 587). .
وقال
السَّعْديُّ: (
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ لِمن تاب إليه وأناب. وتوبتُه نوعان: توفيقُه أوَّلًا، ثمَّ قَبولُه للتَّوبةِ إذا اجتَمَعَت شُروطُها ثانيًا)
[1799] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 50). .
2- قَولُه:
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] .
الدَّليلُ من السُّنَّةِ: 1- حديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((مَن تاب قبْلَ أن تطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغربِها، تابَ اللهُ عليه )) [1800] أخرجه مسلم (2703). .
2- حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مرفوعًا:
((لو أنَّ لابنِ آدَمَ واديًا مِن ذهَبٍ، أحَبَّ أن يكونَ له واديانِ، ولن يملَأَ فاه إلَّا التُّرابُ، ويتوبُ اللهُ على مَن تابَ )) [1801] أخرجه البخاري (6436)، ومسلم (1049). .
قال
الزَّجَّاجيُّ: (التَّوَّابُ فَعَّالٌ مِن «تاب يتوبُ» أي: يَقبَلُ توبةَ عِبادِه، كما قال عَزَّ وجَلَّ:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى: 25] ، وقال:
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] فاللهُ تعالى يَقبَلُ توبةَ عِبادِه.
و «فَعَّال» من أبنيةِ المبالغةِ، مِثلُ ضَرَّابٍ: للكثيرِ الضَّربِ، وقَتَّالٍ: للكثيرِ القَتلِ... فجاء توَّابٌ على أبنيةِ المبالَغةِ؛ لقَبولِه توبةَ عبادِه، وتكريرِ الفِعلِ منهم دفعةً بعد دفعةٍ، وواحدًا بعد واحدٍ على طولِ الزَّمانِ، وقَبولِه عَزَّ وجَلَّ ممَّن يشاءُ أن يَقبَلَ منه؛ فلذلك جاء على أبنيةِ المبالغةِ، فالعَبدُ يتوبُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُقلِعُ عن ذُنوبِه، واللهُ يتوبُ عليه، أي: يَقبَلُ توبتَه، فالعبدُ تائبٌ، واللهُ توَّابٌ.
فإن قال قائِلٌ: أفيجوزُ أن يُقالَ: اللهُ عَزَّ وجَلَّ تائِبٌ على عبادِه، أي: يَقبَلُ توبتَهم، كما قيل له عَزَّ وجَلَّ: توَّابٌ؟
قيل له: ليس لنا أن نُطلِقَ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ من الصِّفاتِ إلَّا ما أطلقه جماعةُ المسلمينَ، وجاء في الكِتابِ، وإن كان في اللُّغةِ مُحتَمِلًا. وقد قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ [التوبة: 117] ، وقال في مَوضِعٍ آخَرَ:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى: 25] ؛ فقد جاء الفِعلُ منه على فَعَل يَفعُل، وما نطق منه بفَعَل يَفعُل فاسمُ الفاعِلِ منه قياسًا فاعِلٌ، كقولك: ضَرَب زيدٌ يَضرِبُ فهو ضارِبٌ، وذَهَب يَذهَب فهو ذاهِبٌ، فكذلك يُقالُ قياسًا: تاب زيدٌ يتوبُ، فهو تائِبٌ. فإن كانت الأُمَّةُ تُطلِقُ ذلك على اللهِ عَزَّ وجَلَّ فقياسُه في اللُّغةِ مُستقيمٌ، وإن لم تُطلِقْ ذلك على اللهِ عَزَّ وجَلَّ فلا يجوزُ الإقدامُ عليه وإن كان في اللُّغةِ جائزًا، على أنَّه إنَّما قيل للهِ عَزَّ وجَلَّ: توَّابٌ؛ لمبالغةِ الفِعلِ، وكَثرةِ قَبولِه توبةَ عِبادِه، ولكثرةِ من يتوبُ إليه. وترَدُّدُ هذا الفِعلِ وتَكرارُه وقَبولُه منهم ليَدُلَّ على هذا المعنى، فلا يجاوَزُ هذا)
[1802] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) (ص: 62-64). .
وقال الأزهريُّ: (التَّوَّابُ مِن صِفاتِ اللهِ تعالى: هو الذي يتوبُ على عبادِه، والتوَّابُ مِن النَّاسِ: هو الذي يتوبُ إلى رَبِّه)
[1803] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) (14/ 237). .
وقال
الخطَّابيُّ: (التوَّابُ: هو الذي يتوبُ على عَبدِه، ويَقبَلُ توبتَه، كُلَّما تكَرَّرَت التوبةُ تكَرَّر القَبولُ، وهو حرفٌ يكونُ لازمًا ويكونُ متعدِّيًا. يقال: تاب اللهُ على العبدِ -بمعنى: وفَّقه للتَّوبةِ- فتاب العَبدُ، كقَولِه تعالى:
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: 118] ، ومعنى التوبةِ: عَودُ العبدِ إلى الطَّاعةِ بعد المعصيةِ)
[1804] يُنظر: ((شأن الدعاء)) (1/ 90). .
قال
ابنُ القيِّمِ:
(وَكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بِتَوْبَةِ عَبْدهِ وَقَبُولُهَا بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَّانِ)
[1805] يُنظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 724). .
قال محمد خليل هرَّاس في شرحِ هذينِ البيْتَيْنِ: (أمَّا التَّوَّابُ فهو الكثيرُ التَّوْبِ، بمعنى: الرُّجوعِ على عبدِه بالمغفرةِ، وقَبولِ التَّوبةِ... وتوبتُه سُبحانَه على عبدِه نوعانِ:
أحدُهما: أنَّه يُلهِمُ عبدَه التَّوبةَ إليه، ويُوفِّقُه لتحصيلِ شروطِها؛ مِن النَّدمِ، والاستغفارِ، والإقلاعِ عن المعصيةِ، والعزمِ على عدمِ العودِ إليها، واستبدالِها بعمَلِ الصَّالحاتِ.
والثَّاني: توبتُه على عبدِه بقَبولِها، وإجابتِها، ومَحْوِ الذُّنوبِ بها؛ فإنَّ التَّوبةَ النَّصوحَ تجُبُّ ما قبْلَها)
[1806] يُنظر: ((شرح القصيدة النونية)) (2/ 101). .