الجَبْرُ والجَبَرُوتُ
صِفةٌ ذاتيَّةٌ فِعْليَّةٍ للهِ عزَّ وجلَّ، ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، و(الجَبَّارِ) اسمٌ له سُبحانَه وتَعالَى.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ: قولُه تعالى:
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
الْجَبَّارُ [الحشر: 23] يعني: المصلِحَ أمورَ خَلْقِه، المُصَرِّفَهم فيما فيه صلاحُهم. وكان قَتادةُ يَقولُ: جَبَرَ خَلْقَه على ما يشاءُ مِن أَمْرِه)
[1807] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 554). .
وقال
السَّعْديُّ: (الجَبَّارُ: هو بمعنى العَلِيِّ الأعلى، وبمعنى القَهَّارِ، وبمعنى الرُّؤوفِ الجابِرِ للقُلوبِ المنكَسِرةِ، وللضَّعيفِ العاجِزِ، ولِمن لاذ به ولجأَ إليه)
[1808] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 946). تنبيه: بعد أن شرَح السعديُّ معنى (الجبَّار) شرَع في شرح معنى (المُتكبِّرِ) حسَب ترتيبِهما في سورةِ الحشر، فقال: (المُتكبِّرُ) عن النقائصِ والعيوبِ...، فتوهَّم البعضُ أنَّه معنًى رابعٌ للجبَّارِ فأدرَجه في معنى الجبَّارِ. .
الدَّليلُ من السُّنَّةِ:1- حديثُ عوفِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قُمْتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً، فلمَّا ركَعَ مكَثَ قَدْرَ سورةِ البقَرةِ، يَقولُ في ركوعِه:
((سُبحانَ ذي الجَبُروتِ والمَلكوتِ والكِبْرياءِ والعَظَمةِ )) [1809] أخرجه أبو داود (873)، والنسائي (1049) واللفظ له، وأحمد (23980) صَحَّحه النووي في ((المجموع)) (4/67)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1049)، وحسَّنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/74)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1035) .
2- حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه في الرُّؤيةِ مرفوعًا:
((... قال: فيأتيهم الجبَّارُ في صورةٍ غيرِ صورتِه الَّتي رأَوْه فيها أوَّلَ مرَّةٍ ...)) [1810] أخرجه البخاري (7439) واللفظ له، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
قال
ابنُ قُتَيبةَ: (جَبَروتُه: تجبُّرُه، أي: تعَظُّمُه)
[1811] يُنظر: ((تفسير غريب القرآن)) (ص: 19). .
وقال
الزَّجَّاجُ: (الجَبَّارُ: أصلُ جَبَرَ في الكلامِ إنَّما وُضِع للنَّماءِ والعُلُوِّ، ويقال: جبَرَ اللهُ العَظْمَ: إذا نَمَّاه... واللهُ تعالى عالٍ على خَلْقِه بصِفاتِه العاليةِ وآياتِه القاهِرةِ، وهو المستَحِقُّ للعُلُوِّ والجَبَروتِ تعالى)
[1812] يُنظر: ((تفسير أسماء الله الحسنى)) (ص: 34). .
وقال ابنُ الأنباريِّ: (الجَبَّارُ في كلامِ العَرَبِ: ذو الجَبَريَّةِ، وهو القَهَّارُ)
[1813] يُنظر: ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (1/ 80). .
وقال
الزَّجَّاجيُّ: (الجَبَّارُ والجَبَريَّةُ: العَظَمةُ، يقال: قومٌ فيهم جَبَرَّيةٌ بفتحِ الباءِ: أي: عَظَمةٌ وكِبْرٌ، وقومُ جَبْريَّةٌ بإسكانِ الباء: خِلافُ القَدَريَّةِ. فاللهُ عَزَّ وجَلَّ الجَبَّارُ ذو الجَبَريَّةِ والكبرياءِ والعَظَمةِ، وتقولُ العَرَبُ: ناقةٌ جَبَّارةٌ بالهاء: عظيمةٌ سَمينةٌ، وجمعُها جبابيرُ، ونخلةٌ جَبَّارٌ بغيرِ هاء: إذا فاتت الأيدي طُولًا وارتفاعًا، فكأنَّ اشتقاقَ الجَبَّارِ يَصلُحُ أن يكونَ من هذا)
[1814] يُنظر: ((اشتقاق أسماء الله)) (ص: 240). .
وقال
الخَطَّابيُّ: (الجَبَّارُ: هو الذي جَبَر الَخْلَق على ما أراد من أَمْرِه ونَهْيِه؛ يقال: جَبَرَه السُّلطانُ وأجبَرَه بالألف. ويقالُ: هو الذي جَبَرَ مفاقِرَ الخَلْقِ وكفاهم أسبابَ المعاشِ والرِّزقِ، ويقالُ: بل الجَبَّارُ: العالي فوقَ خَلْقِه؛ مِن قَولِهم: تَجَّبَر النَّباتُ: إذا علا واكتَهَل. ويقالُ للنَّخلةِ التي لا تنالُها اليَدُ طُولًا: الجَبَّارةُ. ويقال: جَبَّارٌ بيِّنُ الجَبَريَّةِ، والجَبَرُوَّةِ والجَبَروتِ)
[1815] يُنظر: ((شأن الدعاء)) (1/ 48). .
وقال
البَيهقيُّ: (الجَبَّارُ: هو الذي لا تنالُه الأيدي، ولا يجري في مُلكِه غيرُ ما أراد، وهو من الصِّفاتِ التي يَستحِقُّها بذاتِه، وقيل: هو الذي جَبَر الخَلْقَ على ما أراد، وقيل: هو الذي جَبَرَ مفاقِرَ الخَلْقِ، وهو على هذا المعنى من صِفاتِ فِعْلِه)
[1816] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 60). .
وقال
ابنُ سِيْدَهْ: (الجَبَّارُ: تأويلُه الذي جَبَرَ الخَلْقَ على ما أراد مِن أمْرِه، وقيل: الجَبَّارُ: العَظيمُ الشَّأنِ في المُلْكِ والسُّلطانِ، ولا يَستحِقُّ أن يُوصَفَ به على هذا الإطلاقِ إلَّا اللهُ تعالى؛ فإنْ وُصِف به العبدُ فإنَّما هو على وَضْعِ نَفْسِه في غيرِ مَوضِعِها، وهو ذَمٌّ على هذا المعنى)
[1817] يُنظر: ((المخصص)) (5/ 229). .
وقال
ابنُ القيِّمِ:
(وَكَذَلِكَ الجَبَّارُ مِن أَوْصَافِهِ وَالْجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ نوعانِ
جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلُّ قَلْبٍ قَدْ غَدَا ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ
والثَّانِ جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذِي لا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ
وَلَهُ مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهْوَ العُلُــــ ـوُّ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ)
[1818] يُنظر: ((الكافية الشافية)) (ص: 726). قال محمد خليل هرَّاس في شرحِه لهذه الأبياتِ: (ذكَرَ المؤلِّفُ هنا لاسمِه الجبَّارِ ثلاثةَ مَعانٍ، كلُّها داخلةٌ فيه، بحيث يصِحُّ إرادتُها منه:
أحدُها: أنَّه الَّذي يجبُرُ ضعفَ الضُّعفاءِ مِن عبادِه، ويجبُرُ كَسْرَ القلوبِ المنكسرةِ مِن أجلِه، الخاضعةِ لعظَمتِه وجلالِه؛ فكم جبَرَ سُبحانَه مِن كَسيرٍ، وأغنَى مِن فقيرٍ، وأعزَّ مِن ذَليلٍ، وأزال مِن شدَّةٍ، ويسَّرَ مِن عَسيرٍ! وكم جبَرَ مِن مُصابٍ، فوفَّقَه للثَّباتِ والصَّبرِ، وأعاضه مِن مُصابِه أعظَمَ الأجرِ! فحقيقةُ هذا الجَبْرِ هو إصلاحُ حالِ العبدِ بتخليصِه مِن شِدَّتِه، ودَفْعِ المَكارِهِ عنه.
المعنى الثَّاني: أنَّه القهَّارُ، دانَ كُلُّ شيءٍ لعظَمتِه، وخضَعَ كُلُّ مخلوقٍ لجَبُروتِه وعزَّتِه؛ فهو يُجْبِرُ عبادَه على ما أراد ممَّا اقتضَتْه حِكمتُه ومَشيئتُه، فلا يستطيعون الفَكاكَ منه.
والثَّالثُ: أنَّه العَليُّ بذاتِه فوقَ جميعِ خَلْقِه؛ فلا يستطيعُ أحَدٌ منهم أن يدنُوَ منه)
[1819] يُنظر: ((الكافية الشافية)) (2/ 104). .
وأكَّدَ هذه المعانيَ
السَّعْديُّ، فقال: (
الجَبَّارُ الذي قَهَر جميعَ العبادِ، وأذعَنَ له سائِرُ الخَلْقِ، الذي يَجبُرُ الكسيرَ، ويُغني الفَقيرَ)
[1820] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 854). .