المَبحَثُ الثَّالِثُ: من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: الإيمانُ والتَّسليمُ والتَّعظيمُ لنُصوصِ الوحيَينِ
من أُصولِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ التَّسليمُ لِما جاء في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما صحَّ من سنَّة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم.
قال الله تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (أقسم سُبحانَه بنَفْسِه أنَّا لا نؤمِنُ حتى نحَكِّمَ رسولَه في جميعِ ما شَجَر بيننا، وتتَّسِعَ صُدورُنا بحُكمِه، فلا يبقى منها حَرَجٌ، ونسَلِّمَ لحُكمِه تسليمًا، فلا نعارِضَه بعَقلٍ، ولا رأيٍ، ولا هوًى، ولا غيرِه؛ فقد أقسم الرَّبُّ سُبحانَه بنفسِه على نفيِ الإيمانِ عن هؤلاء الذين يقدِّمون العَقلَ على ما جاء به الرَّسولُ، وقد شَهِدوا هم على أنفُسِهم بأنَّهم غيرُ مُؤمِنينَ بمعناه، وإن آمَنوا بلَفْظِه)
[95] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (3/828). .
وقد جاءتْ آثارٌ عن السَّلَفِ الصَّالحِ ومَن بَعْدَهم مِن أهلِ العِلمِ في الحَثِّ على الإيمانِ والتَّسليمِ والتَّعظيمِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ ومِن ذلك:
1- قال
الزُّهْريُّ: (مِن اللهِ عزَّ وجلَّ العِلمُ، وعلى الرَّسولِ البلاغُ، وعلينا التَّسليمُ)
[96] أخرجه الخلال في ((السنة)) (3/579). .
2- ذكَرَ
عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يزني الزاَّني حينَ يزني وهو مؤمِنٌ ... )) الحديث
[97] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديثِ أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه. ، فقال قائِلٌ: ما هذا؟! على معنى الإنكارِ، فغَضِبَ
ابنُ المبارك وقال: يمنعُنا هؤلاء الأُنَّانُ
[98] أي: كثيرو الشَّكوى. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/31). أن نحدِّثَ بحديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أكلَّما جَهِلْنا معنى حديثٍ تَرَكْناه؟ لا بل نَرويه كما سَمِعْنا، ونُلزِمُ الجَهلَ أنفُسَنا
[99] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (1/504). .
3- قال
الشَّافعيُّ: (لم أسمَعْ أحدًا نسَبَه النَّاسُ أو نَسَب نَفْسَه إلى علمٍ، يخالِفُ في أنَّ فَرْضَ اللهِ عزَّ وجَلَّ اتِّباعُ أمرِ رَسولِ الله، والتَّسليمُ لحُكمِه بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يجعَلْ لأحَدٍ بَعْدَه إلَّا اتِّباعَه، وأنَّه لا يَلزَمُ قولٌ بكُلِّ حالٍ إلَّا بكتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِه، وأنَّ ما سِواهما تَبَعٌ لهما)
[100] يُنظر: ((جماع العلم)) (ص: 3). .
4- قال صالحُ بنُ أحمَدَ بنِ حَنْبل: (كتَبَ رجُلٌ إلى أبي يسألُه عن مناظرةِ أهلِ الكلامِ والجُلوسِ معهم، فأملى عليَّ جوابَه:
أحسنَ اللهُ عاقبَتَك، ودَفَع عنك كلَّ مكروهٍ ومَحذورٍ، الذي كنَّا نسمَعُ وأدرَكْنا عليه من أدرَكْنا من أهلِ العِلمِ: أنَّهم كانوا يكرهونَ الكلامَ والخَوضَ مع أهلِ الزَّيغِ، وإنَّما الأمرُ في التَّسليمِ والانتهاءِ إلى ما في كتابِ اللهِ جَلَّ وعزَّ، لا يَعْدُو ذلك)
[101] يُنظر: ((مَسائِل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح)) (ص: 180). .
5- قال
ابنُ خزيمة: (إنَّ الأخبارَ في صفاتِ الله موافِقةٌ لكتابِ اللهِ تعالى، نقَلَها الخَلَفُ عن السَّلَف قرنًا بعد قرنٍ مِن لَدُن الصَّحابةِ والتَّابعينَ إلى عَصْرِنا هذا، على سَبيلِ الصِّفاتِ لله تعالى، والمعرفةِ والإيمانِ به، والتَّسليمِ لِما أخبَرَ اللهُ تعالى في تنزيلِه، ونبيُّه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كتابِه، مع اجتِنابِ التَّأويلِ والجُحودِ، وتركِ
التَّمثيلِ والتَّكييفِ)
[102] يُنظر: ((ذم التأويل)) لابن قدامة (ص: 18). .
وأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يقدِّمونَ كلامَ أحدٍ مِنَ النَّاسِ على كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
قال
عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَوْلِ اللهِ تعالى:
لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: (لَا تَقُولُوا خِلَافَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ)
[103] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (22/272)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (19102)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/398) .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (من الأُصولِ المتَّفَقِ عليها بين الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ أنَّه لا يُقبَلُ مِن أحَدٍ قَطُّ أن يعارِضَ القرآنَ لا برأيِه ولا ذوقِه، ولا مَعقولِه ولا قياسِه، ولا وَجْدِه؛ فإنَّهم ثبت عنهم بالبراهينِ القطعيَّاتِ والآياتِ البيِّناتِ أنَّ الرَّسولَ جاء بالهُدى ودينِ الحقِّ، وأنَّ القُرآنَ يَهْدي للتي هي أقوَمُ... ولهذا لا يُوجَدُ في كلامِ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّه عارَضَ القرآنَ بعَقلٍ ورأيٍ وقياسٍ، ولا بذَوقٍ ووَجدٍ ومُكاشَفةٍ، ولا قال قطُّ: قد تعارَضَ في هذا العَقلُ والنَّقلُ!)
[104] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/28). .