المَبحَثُ الرَّابِعُ: من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتِقادِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: جمعُ النُّصوصِ في البابِ الواحِدِ، وإعمالُها بعد تصحيحِها
يَجِبُ عند بيانِ مسألةٍ عَقَديَّةٍ جمعُ كلِّ ما يتعلَّقُ بها من أدلَّةٍ مع تحريرِ دَلالةِ كلِّ دليلٍ منها، وتصحيحُ النَّقل ِعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واعتمادُ فَهْمِ الصَّحابةِ والثِّقاتِ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ الصَّالحِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فإنْ بدا ما ظاهرُه التَّعارُضُ بين تلك الأدلَّةِ عند المجتَهِدِ لا في الواقعِ ونَفسِ الأمرِ، فيَجِبُ الجمعُ بينها، وعدمُ إهمالهِا بردِّ ما غَمُضَ منها واشتَبَه إلى ما ظهر منها واتَّضح، وتقييدُ مُطلَقِها بمقيَّدِها، وتخصيُص عامِّها بخاصِّها، فإن كان التَّعارُضُ في الواقِعِ ونَفْسِ الأمرِ فبنَسْخِ مَنسوخِها بناسخِها، وذلك في الأحكامِ دونَ الأخبارِ، فلا يَدخُلُها نَسخٌ، وإنْ لم يكُنْ إلى عِلمِ ذلك من سَبيلٍ، فيرُدُّه إلى عالِمِه تبارك وتعالى
[105] يُنظر: ((علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة)) لمحمد يسري (ص: 337). .
قال الله تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
وقال اللهُ تعالى:
وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ * تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42] .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا رَأَيْتُم الذين يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه فأولئك الذين سَمَّى اللَّهُ؛ فاحْذَروهم )) [106] أخرجه البخاري (4547)، ومسلم (2665) واللَّفظُ له. .
فاتِّباع المتشابهِ مِن طُرقِ أهل البِدَعِ في الاستِدلالِ.
قال
الآجُرِّيُّ: (
المعتزلةُ يخالفون هذا كُلَّه، لا يلتَفِتون إلى سُنَنِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا إلى سُنَنِ أصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم، وإنَّما يُعارِضونَ بمُتشابهِ القُرآنِ، وبما أراهم العَقلُ عندهم، وليس هذا طريقَ المسلِمينَ، وإنَّما هذا طريقُ من قد زاغ عن طريقِ الحقِّ، وقد لَعِبَ به
الشيَّطانُ، وقد حذَّرَنا اللهُ عزَّ وجَلَّ ممَّن هذه صفتُه، وحذَّرَناهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحذَّرَناهم أئمةُ المسلمينَ قديمًا وحديثًا)
[107] يُنظر: ((الشريعة)) (3/1198). .
وقال
الشَّاطبي: (مدارُ الغَلَطِ في هذا الفَصلِ إنَّما هو على حَرفٍ واحدٍ، إنَّما هو الجَهلُ بمقاصِدِ الشَّرعِ، وعدمُ ضمِّ أطرافِه بَعضِها إلى بعضٍ؛ فإنَّ مأخَذَ الأدِلَّة عند الأئمَّة الرَّاسخينَ إنَّما هو على أن تؤخَذَ الشَّريعةُ كالصُّورةِ الواحِدةِ، بحَسَبِ ما ثبت من كليَّاتِها وجزئيَّاتها المرتَّبةِ عليها، وعامِّها المرتَّبِ على خاصِّها، ومُطلَقِها المحمولِ على مُقيَّدِها، ومجمَلِها المفسَّر بمُبَيِّنِها، إلى ما سوى ذلك من مَناحيها، فإذا حَصَل للنَّاظرِ مِن جُملتِها حُكْمٌ من الأحكامِ، فذلك هو الذي نطَقَت به حين استُنطِقَت، وما مثَلُها إلَّا مثَلُ الإنسانِ الصَّحيحِ السَّويِّ، فكما أنَّ الإنسانَ لا يكونُ إنسانًا يُستنطَقُ فينطِقُ باليدِ وَحْدَها، ولا بالرِّجل وَحْدَها، ولا بالرَّأسِ وَحْدَه، ولا باللِّسانِ وَحْدَه، بل بجُملتِه التي سمِّيَ بها إنسانًا، كذلك الشَّريعةُ لا يُطلَبُ منها الُحكمُ على حقيقةِ الاستنباطِ إلَّا بجملتِها، لا من دليلٍ منها، أيَّ دليلٍ كان، وإن ظهر لبادي الرَّأيِ نُطقُ ذلك الدَّليلِ، فإنَّما هو توهُّميٌّ لا حقيقيٌّ، كاليَدِ إذا استُنطِقَت فإنَّما تَنطِقُ توهُّمًا لا حقيقةً، من حيثُ عَلِمت أنَّها يدُ إنسانٍ، لا من حيثُ هي إنسانٌ؛ لأنَّه محالٌ.
فشأنُ الرَّاسخين تصوُّرُ الشَّريعةِ صورةً واحدةً يخدُمُ بعضُها بعضًا؛ كأعضاءِ الإنسانِ إذا صُوِّرت صورةً متَّحِدةً.
وشأنُ متَّبِعي المتشابِهاتِ أخذُ دليلٍ ما -أيَّ دليل كان- عفوًا وأخذًا أوَّليًّا، وإن كان ثَمَّ ما يعارِضُه من كُليٍّ أو جُزئيٍّ، فكما أنَّ العُضوَ الواحِدَ لا يعطى في مفهومِ أحكامِ الشَّريعةِ حُكمًا حقيقيًّا، فمتَّبِعُه مُتَّبِعُ مُتشابهٍ، ولا يتَّبِعُه إلَّا من في قَلْبِه زَيغٌ، كما شَهِدَ اللهُ به)
[108] يُنظر: ((الاعتصام)) (2/61). .
وقال
أحمدُ بنُ حَنبلٍ: (الحديثُ إذا لم تُجَمْع طُرُقُه لم تَفهَمْه، والحديثُ يفَسِّرُ بعضُه بعضًا)
[109] يُنظر: ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (2/212). .
وقال
ابنُ خُزيمةَ: (لا أعرِفُ أنَّه رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حديثانِ بإسنادَينِ صحيحينِ متضادَّانِ، فمن كان عِندَه فليأتِ به حتى أؤلِّفَ بينهما)
[110] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 432). .
وقال
الخطيبُ البغداديُّ: (قلَّما يتمهَّرُ في عِلمِ الحديثِ، ويقِفُ على غوامِضِه، ويستثيرُ الخَفِيَّ من فوائِدِه؛ إلَّا من جَمَع متفَرِّقَه، وألَّف مُتشَتِّتَه، وضَمَّ بعضَه إلى بعضٍ، واشتغل بتصنيفِ أبوابِه، وترتيبِ أصنافِه)
[111] يُنظر: ((الجامع لأخلاق الراوي)) (2/280). .
وقال
ابنُ حَجَر: (المتعيِّنُ على من يتكلَّمُ على الأحاديثِ أن يجمَعَ طرُقَها، ثم يجمَعَ ألفاظَ المتونِ إذا صحَّت الطُّرُقُ، ويَشرَحَها على أنَّه حديثٌ واحدٌ؛ فإنَّ الحديثَ أَولى ما فُسِّر بالحديثِ)
[112] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/475). .
وممَّا يَلتحِقُ بهذا المعنى جمعُ رواياتِ الحديثِ الواحِدِ، والنَّظَرُ في أسانيدِه وألفاظِه معًا، وقَبولُ ما ثَبَت، وطَرْحُ ما لم يَثبُتْ.
وقد كانت لأهلِ البِدَعِ مواقِفُ خالفوا بها إجماعَ أهلِ السُّنَّةِ بسَبَبِ مخالفتِهم لهذا الأصلِ العَظيمِ، فكانوا يجتَزئون من النُّصوصِ بطَرَفٍ، مع إغضاءِ الطَّرْفِ عن بقيَّةِ الأطرافِ، فصارت كلُّ فرقةٍ منهم من الدِّينِ بطَرَفٍ، وبَقِيَ أهلُ السُّنَّة في كُلِّ قضيَّةٍ عَقَديَّةٍ وَسَطًا بين طرَفَينِ.
قال أبو بكرٍ الباقِلَّانيُّ: (الأخبارُ على ضربينِ: ضربٌ منها يُعلَمُ أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّم به؛ إما بضَرورةٍ أو دليلٍ، ومنها ما لا يُعلَمُ كونُه متكَلِّمًا به، فكُلُّ خبرين عُلِمَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلَّم بهما، فلا يصِحُّ دخولُ التَّعارُضِ فيهما على وَجهٍ، وإن كان ظاهِرُهما متعارضَينِ؛ لأنَّ معنى التعارُضِ بين الخبرَينِ والقُرآنِ مِن أمرٍ ونهيٍ وغيرِ ذلك: أن يكونَ مُوجِبُ أحَدِهما منافيًا لموجِبِ الآخَرِ، وذلك يُبطِلُ التَّكليفَ إن كانا أمرًا ونهيًا، وإباحةً وحظرًا، أو يوجِبُ كونَ أحَدِهما صِدقًا، والآخرِ كَذِبًا إن كانا خبرينِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منزَّهٌ عن ذلك أجمعَ، ومعصومٌ منه باتِّفاقِ الأمَّةِ، وكلٌّ مُثبِتٌ للنبُوَّةِ، وإذا ثبتت هذه الجُملةُ، وجب متى عُلِمَ أنَّ قولَينِ ظاهِرُهما التَّعارضُ، ونفى أحدُهما لموجِبِ الآخَرِ، أن يُحمَلَ النَّفيُ والإثباتُ على أنَّهما في زمانينِ أو فريقينِ، أو على شَخصَينِ، أو على صِفتَينِ مختلفتَينِ، هذا ما لا بدَّ منه مع العِلمِ بإحالةِ مناقضتِه عليه السَّلامُ في شيءٍ من تقريرِ الشَّرعِ والبَلاغ، وهذا مِثلُ أن يُعلَمَ أنَّه قال: الصَّلاةُ واجبةٌ على أمَّتي، وقال أيضًا: ليست بواجبةٍ، أو الحَجُّ واجبٌ على زيدٍ هذا، وهو غيرُ واجبٍ عليه، وقد نهيتُه عنه، ولم أنْهَه عنه، وهو مطيعٌ لله فيه وهو عاصٍ به، وأمثال ذلك؛ فيَجِبُ أن يكونَ المرادُ بهذا أو نحوِه أنَّه آمِرٌ للأُمَّةِ بالصَّلاةِ في وَقتٍ، وغيرُ آمرٍ لها بها في غَيرِه، وآمِرٌ لها بها إذا كانت مُتطهِّرةً، وناهٍ عنها إذا كانت مُحدَثةً، وآمِرٌ لزيدٍ بالحَجِّ إذا قدَرَ، وغيرُ آمرٍ إذا لم يَقدِرْ، فلا بُدَّ من حَملِ ما عُلِمَ أنَّه تكلَّمَ به من التَّعارُضِ على بعضِ هذه الوُجوهِ، وليس يقع التعارضُ بين قَولَيه)
[113] يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 433). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا طريقةُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ الحديثِ؛ ك
الشَّافعيِّ، و
الإمامِ أحمدَ، و
مالكٍ، و
أبي حنيفةَ، و
أبي يوسُفَ، و
البُخاريِّ، و
إسحاقَ، فعكسُ هذه الطَّريقِ، وهي أنَّهم يردُّون المتشابِهَ إلى المحكَمِ، ويأخُذونَ من المحكَمِ ما يُفسِّرُ لهم المتشابِهَ ويبيِّنُه لهم، فتتَّفِقُ دَلالتُه مع دَلالة المحكَمِ، وتوافِقُ النُّصوص بعضُها بعضًا، ويصدِّقُ بعضُها بعضًا؛ فإنَّها كُلَّها من عند اللهِ، وما كان من عندِ اللهِ فلا اختِلافَ فيه ولا تناقُضَ، وإنَّما الاختِلافُ والتَّناقُضُ فيما كان مِن عندِ غَيرِه)
[114] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (4/58). .