المَطْلَبُ الثَّاني والعِشرون: الآثارُ الإيمانيَّةُ لاسمَيِ اللهِ: المَلِكِ والمَلِيكِ
إنَّ المُلْكَ الحَقيقيَّ لله وَحْدَه لا يَشرَكُه فيه أحدٌ، وكُلُّ من ملك شيئًا فإنما هو بتمليكِ اللهِ له.
فاللهُ تبارك وتعالى هو المالِكُ لخزائِنِ السَّمَواتِ والأرضِ، بيَدِه الخيرُ، يَرزُقُ من يشاءُ، وهو المالِكُ للموتِ والحياةِ والنُّشورِ، والنَّفعِ والضُّرِّ، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كُلُّه؛ فهو المالِكُ لجَميعِ الممالِكِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ، وجميعُ من فيهما مماليكُ لله فُقَراءُ مُدَبَّرونَ.
ومن النَّاسِ من يطغى ويظُنُّ أنَّه المالِكُ الحقيقيُّ، وينسى أنَّه مُستخلَفٌ فقط فيما آتاه اللهُ من مُلكٍ ومالٍ وجاهٍ وعَقارٍ، فيتكبَّرُ ويتجبَّرُ، ويَظلِمُ النَّاسَ بغيرِ حَقٍّ، كما حكى اللهُ سُبحانَه عن فرعونَ الذي نَسِي نَفْسَه وضَعَّفها وزعم لنَفْسِه المُلْكَ بل والألوهيَّةَ، فقال تعالى عنه:
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزُّخرف: 51] .
وإذا كان المُلْكُ المُطلَقُ إنَّما هو لله وَحْدَه لا شريكَ له، فالطَّاعةُ المُطلَقةُ إنَّما هي له وَحْدَه لا شريكَ له؛ لأنَّ مَن سِواه من مُلوكِ الأرضِ إنما هم عَبيدٌ له وتحت إمْرتِه.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (لَمَّا كان المُلْكُ الحَقُّ لله وَحْدَه، ولا مُلْكَ على الحقيقةِ سِواه، كان أخنَعَ اسمٍ وأوضَعَه عند اللهِ، وأغضَبَه له اسمُ «شاهان شاه» أي: مَلِكُ الملوكِ، وسُلطانُ السَّلاطين؛ فإنَّ ذلك ليس لأحدٍ غيرِ اللهِ، فتسميةُ غيرِه بهذا من أبطَلِ الباطِلِ، واللهُ لا يحِبُّ الباطِلَ.
وقد ألحق بعضُ أهلِ العِلمِ بهذا «قاضي القضاة» وقال: ليس قاضي القُضاةِ إلَّا من يقضي الحَقَّ وهو خيرُ الفاصِلينَ، الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقولُ له: كُنْ فيكونُ)
[3562] يُنظر: ((زاد المعاد)) (2/ 311). ، وقد جوَّز بَعْضُ العُلَماءِ أن يُقَيَّدَ ببَلَدٍ مُعَيَّنٍ
[3563] قال ابنُ عُثَيمين: ((إنْ قُلْتَ: إذا أضَفْنا القُضاةَ وحَصَرْناها بطائفةٍ مُعَيَّنةٍ، أو ببلَدٍ مُعَيَّنٍ، أو بزَمانٍ مُعَيَّنٍ، مِثلُ أن يقالَ: قاضي القُضاةِ في الفِقْهِ، أو قاضي قُضاةِ المملَكةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّةِ، أو قاضي قُضاةِ مِصرَ أو الشَّامِ، أو ما أشبَهَ ذلك؛ فهل يجوزُ هذا؟ فالجوابُ: أنَّ هذا جائِزٌ؛ لأنَّه مُقَيَّدٌ، ومعلومٌ أنَّ قَضاءَ اللهِ لا يتقيَّدُ، فحينئذٍ لا يكونُ فيه مُشاركةٌ للهِ عزَّ وجَلَّ، ... فإذا قُيِّدَ بزمانٍ أو مكانٍ ونَحوِهما؛ قُلْنا: إنَّه جائزٌ، ولكِنَّ الأفضَلَ ألَّا يُفعَلَ) ((مجموع فتاوى ابن عثيمين) .(10/ 834) .
وعن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أخنَعُ اسمٍ عند اللهِ -وقال سُفيانُ غَيرَ مَرَّةٍ: أخنَعُ الأسماءِ عندَ اللهِ- رجلٌ تَسَمَّى بمَلِكِ الأملاكِ )) [3564] أخرجه البخاري (6206) واللفظ له، ومسلم (2143). ، وفي روايةٍ
((أخنى الأسماءِ يومَ القيامةِ...)) [3565] أخرجه البخاري (6205). .
ومعنى أخْنَع: أوضَعُ اسمٍ وأذَلُّه
[3566] يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/84). . ومعنى أخنى: أي: أفحَشُ اسمٍ مِن الخَنَا، وهو الفُحشُ في القَولِ
[3567] يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/86). .
وجاء في روايةٍ:
((أغيَظُ رجلٍ على اللهِ يومَ القيامةِ وأخبَثُه وأغيَظُه عليه)) [3568] أخرجه مسلم (2143) من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (استُدِلَّ بهذا الحديثِ على تحريمِ التسَمِّي بهذا الاسمِ؛ لورودِ الوَعيدِ الشَّديدِ، ويلتَحِقُ به ما في معناه؛ مِثلُ: خالِقِ الخَلقِ، وأحكَمِ الحاكِمين، وسُلطانِ السَّلاطينِ، وأميرِ الأُمَراءِ)
[3569] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/590). .
واللهُ سُبحانَه هو الملِكُ الوحيدُ يومَ القيامةِ؛ فيُحاسِبُ بالعَدلِ ولا يَظلِمُ ولا يجورُ.
قال اللهُ تعالى:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ فلمَّا أثبت لنَفْسِه المُلْكَ أردَفَه بأن وصف نَفْسَه بكونِه رحمانًا، يعني: إن كان ثبوتُ المُلْكِ له في ذلك اليومِ يدُلُّ على كَمالِ القَهرِ، فكَونُه رحمانًا يدُلُّ على زوالِ الخوفِ وحُصولِ الرَّحمةِ.
وقال اللهُ تعالى:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 1-2] ، فذكر أولًا كونَه ربًّا للنَّاسِ، ثم أردفه بكونِه مَلِكًا للنَّاسِ.
وهذه الآياتُ دالَّةٌ على أنَّ المُلْكَ لا يَحسُنُ ولا يَكمُلُ إلَّا مع الإحسانِ والرحمةِ
[3570] يُنظر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (1/ 206). .