المَطْلَبُ الحادي والعِشرون: الآثارُ الإيمانيَّةُ لاسْمِ اللهِ: القَريبِ
أنَّ الإيمانَ بقُربِ اللهِ تعالى العامِّ لجَميعِ الخلائِقِ، بالإحاطةِ والعِلمِ والرِّقابةِ والسَّمعِ والبَصَرِ؛ يُثمِرُ في القَلْبِ الخوفَ منه سُبحانَه، ومراقَبَتَه والحياءَ منه، وامتثالَ أوامِرِه، واجتنابَ نواهيه.
ومن الآثارِ الإيمانيَّةِ لهذا الاسمِ: قُوَّةُ الرَّجاءِ في اللهِ سُبحانَه، وعَدَمُ اليأسِ مِن رحمتِه، والتضَرُّعُ بين يديه؛ فهو قريبٌ لِمن ناجاه مجيبٌ لِمن دعاه، وهذا يُثمِرُ الأمَلَ وحُسنَ الظَّنِّ في اللهِ، والتوكُّلَ عليه وَحْدَه، ويُخَلِّصُ القَلْبَ من شوائِبِ الشِّركِ، والتعَلُّقِ بالمخلوقين، ودُعاءِ غيرِ اللهِ. والعياذُ باللهِ.
قال اللهُ تعالى:
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 106-107] .
ومن الآثارِ كذلك: أنَّ إيمانَ العَبدِ بقُربِ اللهِ تعالى وأنَّه أقرَبُ إليه من كُلِّ قريبٍ؛ يؤدِّي إلى إخفاءِ الدُّعاءِ والإسرارِ به.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (من النُّكَتِ السِّرِّيةِ البديعةِ جِدًّا أنَّه دالٌّ على قُربِ صاحِبِه من اللهِ، وأنَّه لاقترابِه منه وشِدَّةِ حُضورهِ يسألُه مسألةَ أقرَبِ شَيءٍ إليه، فيسألُه مسألةَ مُناجاةٍ للقَريبِ، لا مسألةَ نداءِ البعيدِ للبعيدِ؛ ولهذا أثنى سُبحانَه على عَبْدِه زكريَّا بقَولِه:
إِذْ نادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا، فكُلَّما استحضر القَلْبُ قُربَ اللهِ تعالى منه وأنَّه أقرَبُ إليه من كُلِّ قريبٍ، وتصَوَّر ذلك؛ أخفى دعاءَه ما أمكنه، ولم يتأتَّ له رَفعُ الصَّوتِ به، بل يراه غيرَ مُستحسَنٍ، كما أنَّ من خاطب جليسًا له يسمَعُ خَفِيَّ كلامِه، فبالغ في رَفعِ الصَّوتِ؛ استهجن ذلك منه
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى سُبحانَه، وقد أشار النَّبيُّ هذا المعنى بعينِه بقَولِه في الحديثِ الصَّحيحِ لَمَّا رفع الصَّحابةُ أصواتَهم بالتكبيرِ وهم معه في السَّفَرِ، فقال: (ارْبَعوا على أنفُسِكم؛ إنَّكم لا تَدْعُون أصَمَّ ولا غائِبًا، إنَّكم تَدْعون سَميعًا قريبًا أقرَبَ إلى أحَدِكم من عُنُقِ راحِلَتِه)
[3556] أخرجه مسلم (2704). ، وقال تعالى:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] ، وقد جاء أنَّ سَبَبَ نزولِها أنَّ الصَّحابةَ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، رَبُّنا قريبٌ فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] ، وهذا يدُلُّ على إرشادِهم للمُناجاةِ في الدُّعاءِ لا للنِّداءِ الذي هو رفعُ الصَّوتِ؛ فإنَّهم عن هذا سألوا فأُجيبوا بأنَّ رَبَّهم تبارك وتعالى قريبٌ لا يحتاجُ في دعائِه وسُؤالِه إلى النداءِ، وإنما يُسأَلُ مسألةَ القَريبِ المناجَى لا مسألةَ البعيدِ المنادى، وهذا القُربُ من الدَّاعي هو قُربٌ خاصٌّ ليس قُربًا عامًّا من كُلِّ أحدٍ؛ فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابِدِه)
[3557] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (3/ 844). .
ومن الآثارِ كذلك: طَلَبُ قُربِ الله عَزَّ وجَلَّ والتقَرُّبُ إليه بالطَّاعاتِ؛ لأنَّ الله سُبحانَه قريبٌ ممن أطاعه، قال تعالى:
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أي: إنَّ رحمتَه مُرصَدةٌ للمُحسِنين، الذين يتَّبِعون أوامِرَه ويتركون زواجِرَه، كما قال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ... وقال:
قَرِيبٌ ولم يقُلْ: "قريبةٌ"؛ لأنَّه ضَمَّن الرحمةَ معنى الثوابِ، أو لأنَّها مضافةٌ إلى اللهِ؛ فلهذا قال: قريبٌ مِن المحسِنين)
[3558] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 429). .
وقال اللهُ تعالى في الحديثِ القُدُسيِّ:
((... مَن تقرَّبَ منِّي شِبرًا تقرَّبتُ منه ذِراعًا، ومَن تقرَّبَ منِّي ذِراعًا تقرَّبتُ منه بَاعًا... )) [3559] أخرجه مسلم (2677) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. .
قال
ابنُ تَيميَّةَ في شَرحِ هذا الحديثِ القُدسيِّ: (تقَرُّبُ العبدِ إلى اللهِ وتقريبُه له نطَقَت به نصوصٌ مُتعَدِّدةٌ؛ مِثلُ قَولِه:
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، ونحو ذلك، فهذا قُربُ الرَّبِّ نَفْسِه إلى عبيدِه، وهو مِثلُ نُزولِه إلى سماءِ الدُّنيا. وفي الحديثِ الصَّحيحِ:
((إنَّ الله تعالى يدنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ ويُباهي الملائِكةَ بأهلِ عَرَفةَ )) [3560] أخرجه مسلم (1348) باختلاف يسير من حديث عائشة رضي الله عنها. [3561] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/ 129). .