المَطْلَبُ الرَّابعُ: كَيفيَّةُ مَعرفةِ القَلْبِ المَكانيِّ:
يُعرَفُ القَلْبُ بسِتَّةِ أمورٍ؛ يَتَّفِقُ الصَّرْفيُّون على أرْبعةٍ منها، والأمْرانِ الآخَرانِ مُختلَفٌ فيهما؛ فأمَّا ما يَتَّفِقون عليه فهُو:
الأوَّلُ: الاشْتقاقُ (الأصْلُ)، مِثْلُ:(ناءَ يَنَاء) مَقْلوبُ (نأى يَنْأى)؛ إذِ المَصْدَرُ هو النَّأيُ لا النَّيء، جعَلنا اللَّامَ في مَوضِعِ العَينِ، فيكونُ وَزْنُ (ناءَ يَناءُ) (فَلَعَ يَفْلَعُ)
[1888] يُنظر: ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 23) .
وكما في (جاه)، فإنَّ التَّوجُّهَ والمُواجَهةَ والتَّوجيهَ والوَجَاهةَ يدُلُّ على أنَّ الكَلِمةَ مَقْلوبةٌ، وأنَّ أصْلَه (وَجه)، ويكونُ (جاه) على وَزْنِ (عَفَل).
وكما في قِسِيٍّ، فإِنَّ ورودَ مُفْرَدِه -وهو قَوْسٌ، قوَّسَ الشَّيخُ واسْتقوسَ، ورَجُلٌ مُتقوِّسٌ-دلَّ على أنَّ أصْلَه (قُوُوس) ووَزْنُها (فُعُول)، ثُمَّ نُقِلتِ اللَّامُ إلى مَوضِعِ العَينِ، فأصْبحتْ (قُسُووٌ)، ثُمَّ قُلِبتِ الياءُ المُتَطرِّفةُ ياءً، فصارت (قُسُويٌ)، ثُمَّ اجْتَمعت الواوُ والياءُ، والسَّابِقُ منهما ساكِنٌ، فقُلِبتِ الواوُ ياءً وأُدغِمتْ في الياءِ، وكُسرتِ السِّينُ لِتُناسِبَ الياءَ، فأصبحتِ (القُسِيَّ)، ثُمَّ غُيِّرتْ حَرَكةُ القافِ (الضَّمَّةُ) إلى الكسْرةِ إتباعًا، فصارت (قِسِيًّا)، ووزنُها (فُلُوع).
وكما في حادِي أيضًا، فإنَّ التَّوحيدَ والوَحدةَ والتَّوحُّدَ يدُلُّ على أنَّ أصْلَه (واحِد)، ثُمَّ نُقلتِ الفاءُ (الواو) لِمَوضعِ اللَّامِ (الدَّال)، ولا يُمكِنُ الابتداءُ بالألِفِ، فقدَّمنا عليها الحاءَ، فصارتْ (الحادو)، ثُمَّ قُلِبتْ الواوُ ياءً، لانْكسارِ ما قبلَها، فصارتِ (الحادِي)، ووَزْنُها (عَالِف).
الثَّاني: التَّصحيحُ معَ وُجودِ مُوجِبِ الإعْلالِ، كما في أَيِسَ، فإِنَّ تَصحيحَه معَ وُجودِ مُوجِبٍ لإعْلالِ الياءِ، وهُو تَحريكُها وانْفِتاحُ ما قبلَها -دَليلٌ على أنَّه مَقْلوبُ (يَئِسَ)، فيكونُ أيِسَ على وَزْنِ (عَفِلَ)، ويُعرَفُ القَلْبُ هنا أيضًا بأصْلِه، وهُو اليَأسُ.
الثَّالِثُ: نُدْرَةُ الاسْتعمالِ، كآرَامٍ؛ جمعِ رِئْمٍ -وهُو الظَّبْيُ- مَقْلوبِ (أَرْآم)، وعُرِف القَلْبُ مِن نُدْرَةِ اسْتعمالِ (آرام) وكَثْرةِ اسْتعمالِ أرآمٍ، ووَزْنُ أرْآم: أفْعَال، قُدِّمتِ العَينُ (الهَمْزةُ الثَّانيةُ) في مَوضِعِ الفاءِ، وسُهِّلَتْ، فصارتْ: آرام، بوَزْنُ: أعْفال، ومثلُه آراءٌ، بِدَليلِ أنَّ مُفْرَدَه (رأي)، ويُمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّ عَلامةَ القَلْبِ هُنا وُرودُ الأصْلِ، وهُو رِئْم ورَأي
[1889] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 381)، ((الخصائص)) لابن جِنِّي (2/ 71 وما بعدها)، ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 21 – 24)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 392، 393)، ((ارتشاف الضرب من لسان العرب)) لأبي حيان الأندلسي (1/ 336)، ((همع الهوامع في شرح جمع الجوامع)) للسيوطي (3/ 481). .
تَنبيهاتٌ:ذكَر
سِيبَوَيهِ عَلامةً أخْرى للقلْبِ، وهَيَ ألَّا تأتيَ الكَلِمةُ المَقْلوبةُ إلَّا مع حُروفٍ زائِدةٍ، فيكونُ المُجَرَّدُ مِنَ الزَّوائِدِ هو الأصْلَ، وعلى ذلك حَكَم
سِيبَوَيهِ في (اطمأنَّ وطأمنَ) أنَّ الأصْلَ فيهما طأمَنَ، وليس الأصْلُ اطمَأنَّ؛ لأنَّ الزِّيادةَ تُضعِفُ الكَلِمةَ، والكَلِمةُ إذا لَحِقها ضَعْفٌ أسرَع إليها ضعْفٌ آخَرُ، وهو القَلْبُ، وخالَفه في ذلك الجَرميُّ؛ إذْ رأى أنَّ اطمأنَّ هي الأصْلُ؛ لأنَّ المَصْدَرَ الاطْمِئنانُ
[1890] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 381)، ((الخصائص)) لابن جِنِّي (2/ 76، 77)، ((المنصف)) لابن جِنِّي (2/ 104)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 392، 393). .
ويَختلِفُ الصَّرْفيونَ في أمْرينِ:
1- أنْ يؤدِّيَ ترْكُ القَلْبِ إلى اجْتِماعِ هَمْزتينِ، وذلك عندَ الخَليلِ بنِ أحْمدَ، ويَتحقَّقُ في مَسائِلَ ثَلاثٍ، وهِيَ:
أ- في الجَمْعِ الأقْصى لمُفْرَدٍ لامُه هَمْزةٌ قبلَها مدٌّ، مِثْلُ: خَطايا.إذِ الأصْلُ في خطايا: خطايِئ، فلو لم نَقُلْ بِالقَلْبِ المَكانيِّ، لانْقلَبتِ الياءُ هَمْزةً كما في صَحائِفَ؛ ما يؤدِّي لاجْتِماعِ هَمْزتَين، فيَفِرُّ الخَليلُ مِنِ اجْتِماعِ الهَمْزتَين بالقَولِ بِالقَلْبِ المَكانيِّ، فتَصيرُ (خَطائِي)، وذلك حتَّى لا يَتوالى إعْلالانِ كما هو رأيُ
سِيبَوَيهِ والجُمْهورِ؛ إذْ يَروْن أنَّ الياءَ تُقلَبُ هَمْزةُ أوَّلًا، فتَصيرُ (خطائِئ) بهَمْزتين، ثُمَّ تُقلَبُ الهَمْزةُ الثَّانيةُ منهما ياءً (خَطائِي)، وهُو ما وصَل إليه الخَليلُ عن طَريقِ القَلْبِ المَكانيِّ مُتفادِيًا تَواليَ إعْلالَين، ثُمَّ يَشْتركُ الخَليلُ و
سِيبَوَيهِ في سائِرِ الخُطواتِ وُصولًا إلى (خَطايا)، وعلى ذلك يكونُ وَزْنُ خَطايا عندَ الخَليلِ -وعلى رأيِه الكُوفِيُّونَ- (فَعَالَى)، ووَزْنُها عندَ
سِيبَوَيهِ والجُمْهورِ (فَعَائِل)، ويَرجَحُ رأيُ الجُمْهورِ لأنَّه قد ثبَت عنِ العَربِ النُّطقُ بالهَمْزتَينِ في قولِهم: غفَر اللهُ خطائِئَه
[1891] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (3/ 553)، ((المنصف)) لابن جِنِّي (2/ 57، 58)، ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لابن الأنباري (2/ 665)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (4/ 215). .
ب- في اسمِ الفاعِلِ مِنَ الأجْوفِ الثُّلاثيِّ المَهْموزِ اللَّامِ، مِثْلُ: جاءٍ، مِن جاءَ.القَلْبُ فيها بأنْ تُقلَبَ اللَّامُ في مَوضِعِ العَينِ، فلا يَحدُثُ الْتقاءٌ للهَمْزتَين؛ فأصْلُ جاءٍ (جايئٌ)، ثُمَّ حدَث قلْبٌ: (جائِي)، ثُمَّ جرَتْ مَجْرى قاضٍ، فتكونُ (جاءٍ)، ويكونُ الوَزْنُ (فالِع) ثُمَّ (فالٍ)، والَّذي دفَعه للقَولِ بِالقَلْبِ المَكانيِّ الفِرارُ مِن كَثْرةِ التَّغييراتِ وتَوالي إعْلالَين كما في مَذْهبِ
سِيبَوَيهِ الَّذي يقلِبُ الياءَ في (جايِئ) هَمْزةً كما في قائِل وبائِع، ثُمَّ يَقلِبُ الهَمْزةَ الثَّانيةَ ياءً، ثُمَّ يُجريها مَجْرى قاضٍ، ويكونُ وَزْنُ الكَلِمةِ (فاعِل) ثُمَّ (فاعٍ)
[1892] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 376 وما بعدها)، ((المقتضب)) للمبرد (1/ 114 وما بعدها). ((المنصف)) لابن جِنِّي (2/ 52 – 54)، ((شرح المفصل)) لابن يعيش (9/ 117)، ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 25 وما بعدها)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 328 وما بعدها)، ((المساعد)) لابن عقيل (4/ 213). .
وقد أيَّد رأيَ الخَليلِ كَثيرٌ مِنَ النُّحاةِ ك
أبي عليٍّ الفارِسيِّ [1893] يُنظر: ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 327). ، وابنِ يَعيشَ
[1894] يُنظر: ((شرح المفصل)) لابن يعيش (9/ 117). ، و
ابنِ عَقيلٍ [1895] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 378)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (4/ 213). وأجازَه
سِيبَوَيهِ، فقال: (إنَّ كِلا القولَينِ حَسَنٌ جَميلٌ)
[1896] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 378)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 328)، ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 25). ، وأيَّد مَذْهبَ
سِيبَوَيهِ ابنُ مالِكٍ [1897] يُنظر: ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (4/ 213). ، والرَّضيُّ
[1898] يُنظر: ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 25). .
والرَّاجِحُ: أنَّ كِلا القَولَين جَميلٌ، كما ذكَر
سِيبَوَيهِ، وإلى هذا ذهَب
المُبرِّدُ [1899] يُنظر: ((المقتضب)) للمبرد (1/ 116)، قال: (وكلا القولين حسن جميل). و
ابنُ جِنِّي [1900] يُنظر: ((المنصف)) لابن جِنِّي (2/ 53)؛ قال: (وقال غيره: ليس هذا مقلوبًا... وكلا القولين حسن جميل). و
أبو حيَّانَ [1901] يُنظر: ((ارتشاف الضرب من لسان العرب)) لأبي حيان الأندلسي (1/ 335)، قال: (وكلا القولين حسن). .
ج- في جَمْعِ اسمِ الفاعِلِ مِنَ الأجْوفِ الثُّلاثيِّ المَهْموزِ، مِثْلُ: جَواءٍ (فَواعِل) جمْعُ جائِية.فقدْ ذهَب الخَليلُ إلى أنَّ أصْلَ جَواءٍ: (جَوَايئٌ)، ثُمَّ حدَث قلْبٌ، قُلِبتِ اللَّامُ في مَوضِعِ العَينِ؛ كَيْ لا تَلتقِيَ هَمْزتانِ، فصارتْ (جَوائِي) بوَزْنِ (فَوَالِع)، ثُمَّ عُومِل مُعامَلةَ (قاضٍ): (جَواءٍ) بوَزْنِ (فَوَالٍ)، أمَّا
سِيبَوَيهِ فلا يَقولُ بِالقَلْبِ، وإن أدَّى لاجْتِماعِ هَمْزتَين -وهُو ما فرَّ منه الخَليلُ- إنَّما يَرَى أنَّ أصْلَ جَوَاءٍ: (جَوايِئ) أُبدِلتِ الياءُ هَمْزةً؛ لِوُقوعِها بعدَ الألِفِ، فصارت: (جوائِئ)، فاجْتمَعتْ هَمْزتانِ فأُبدِلتِ الثَّانيةُ ياءً؛ لانْكسارِ ما قبلَها، فصارت: (جَوائِي) بوَزْنِ (فَواعِل)، ثُمَّ جرَت مَجْرى قاضٍ: جَواءٍ بوَزْنِ (فَوَاعٍ).
والرَّاجِحُ ما ذهَب إليه
سِيبَوَيهِ، وهُو ما ذهَب إليه الجُمْهورُ
[1902] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 377)، ((المنصف)) لابن جِنِّي (2/ 63)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 328)، ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (1/ 25). .
2- أنْ يُؤدِّيَ ترْكُ القَلْبِ إلى المَنْعِ مِنَ الصَّرْفِ بِلا عِلَّةٍ، وأتى ذلك في كَلِمةٍ واحِدةٍ، وهِيَ أشياءُ، وذلك على مَذْهبِ الخَليلِ و
سِيبَوَيهِ، فإنَّنا لو لم نقُلْ بِقَلْبِها، للزِمَ منعُ (أفْعَال/ أَشْيَاء) مِنَ الصَّرْفِ من دونِ علَّةٍ؛ إذْ جاءتْ مَمْنوعةً مِنَ الصَّرْفِ في قولِه تعالى:
لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [المائدة: 101] ، فرأى الخَليلُ و
سِيبَوَيهِ أنَّ أشْياءَ أصْلُها: شَيْئَاء (فَعْلَاء) مِن لفْظِ شَيءٍ، وهُو اسمُ جمْعٍ كقَصْبَاء وطَرْفَاء، ثُمَّ وقَع قلْبٌ مَكانيٌّ، فقُدِّمتِ الهَمْزةُ (لامُ الكَلِمةِ) في مَوضِعِ الفاءِ، فصار أشْياءَ على وَزْنِ لَفْعَاءَ، فَمُنِعتْ مِنَ الصَّرْفِ بالنَّظرِ إلى الأصْلِ، الَّذي هو فَعْلاء، وهِي مِن أوْزانِ المَمْدودِ، فيُمنَعُ مِنَ الصَّرْفِ، وهُو الرَّأيُ الرَّاجِحُ.
ومَنْ لم يَقُلْ بِالقَلْبِ في (أشياء) ذهَب مَذْهبَين:مَذْهبُ
الكِسائيِّ ويرى أنَّها أفْعالٌ جَمْعُ شَيءٍ.
ومَذْهبُ الفَرَّاءِ والأخْفَشِ أنَّها (أفْعِلاء) والأصْلُ (أشْيِئَاء) فحُذِفتِ اللَّامُ (الهَمْزة)، وانْفتَحتِ الياءُ لأجْلِ الألِفِ، ويُخالِفُ أبو الحَسنِ الفرَّاءَ في وَزْنِ (شيءٍ)؛ فأبُو الحَسنِ يَرى أنَّه (فَعْلٌ) كبَيْتٍ، والفَرَّاءُ يَرَى أنَّه مُخفَّفٌ مِن (فَيْعِل)، والأصْلُ (شيِّئٌ)، فخُفِّف كما خُفِّف (هيِّن وميِّت)، فقالوا: (هَيْنٌ ومَيْتٌ)
[1903] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 380) ((المنصف)) لابن جِنِّي (94 – 99)، ((الإنصاف)) لابن الأنباري (2/ 670 وما بعدها)، ((شرح الملوكي)) لابن يعيش (ص: 376 وما بعدها)، ((الممتع الكبير في التصريف)) لابن عصفور (ص: 329)، ((شرح الشافية)) للرضي الإستراباذي (29 – 31). .