المَبْحَثُ الثَّاني: أغْراضُ التَّشْبيهِ
تَرجِعُ القِيمةُ الأدبيَّةُ والبَلاغيَّةُ للتَّشْبيهِ إلى عدَّةِ أمورٍ:
1- بَيانُ إمْكانِ المُشبَّهِ، وذلك إذا كان أمرًا غَريبًا لا يُمكِنُ فَهْمُه وتَصوُّرُه إلَّا بالمِثالِ، كقولِ
البُحْتُريِّ: الوافر
دنَوتَ تواضُعًا وعلَوْتَ مجْدًا
فشَأناكَ انْحدارٌ وارْتفاعُ
كذاك الشَّمسُ تبعُدُ أنْ تُسامَى
ويَدْنو الضَّوءُ منْها والشُّعاعُ
فحين أثْبَت للمَمْدوحِ صِفتَينِ مُتناقِضتَينِ، هما القرْبُ والبعْدُ، وكان ذلك غيرَ مُمكِنٍ في مَجْرى العُرْفِ والعادَةِ، ضرَب لذلك المَثلَ بالشَّمسِ؛ ليُبيِّنَ إمْكانَ ما قال.
2- بَيانُ حالِ المَوْصوفِ، كقولِ النَّابِغَةِ الذُّبْيانيِّ: الطويل
بأنَّك شمسٌ والمُلوكُ كواكِبٌ
إذا طلَعَتْ لم يَبْدُ مِنهنَّ كوكَبُ
يُريدُ النَّابغةُ أنْ يُبيِّنَ حالَ المَمْدوحِ (النُّعمانِ بنِ المُنْذرِ صاحِبِ الحِيرةِ)، وهُي عِظَمُه وصَغارُ المُلوكِ الآخَرينَ حِيالَه.
3- بَيانُ مِقْدارِ المَوْصوفِ قوَّةً وضَعْفًا، كقولِ الأعْشى: البسيط
كأنَّ مِشيتَها مِن بيتِ جارَتِها
مَرُّ السَّحابَةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
فالشَّاعِرُ هنا أرادَ بَيانَ هَيئةِ مِشيةِ مَحْبوبتِه، ووصْفَ رقَّتِها واعْتدالِها في المِشيةِ، فشبَّهَها بمُرورِ السَّحابِ؛ حيثُ يَسيرُ في تُؤَدَةٍ وطُمأنِينةٍ من غيرِ إبْطاءٍ ولا كسَلٍ، فهِي -كما يَصفُها الشَّاعِرُ-: لا ريْثٌ ولا عجَلُ.
4- تَقْريرُ الأمرِ وتَوْكيدُه، كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
إنَّ القُلوبَ إذا تَنافَر وُدُّها
مِثلُ الزُّجاجةِ كسْرُها لا يُجبَرُ
يُريدُ أنْ يُؤكِّدَ اسْتِحالةَ الْتِئامِ القُلوبِ بعد تَنافُرِها، فشبَّه ذلك باسْتِحالةِ جبْرِ كسْرِ الزُّجاجِ والْتِئامِ فُتاتِه.
5- تَحْسينُ المُشبَّهِ، كقَولِ ابنِ المُعْتزِّ: الكامل
أهْلًا بفِطرٍ قدْ أنارَ هِلالُه
فالآنَ فاغدُ على الشَّرابِ وبَكِّرِ
انْظُرْ إليه كزَوْرَقٍ مِن فِضَّةٍ
قد أثْقلَتْه حُمولَةٌ مِن عَنْبرِ
فأجادَ ابنُ المُعْتزِّ في تَحْسينِ صُورةِ هِلالِ العِيدِ، حين صوَّره بزَوْرَقٍ مِن فِضَّةٍ مُحَمَّلٍ بالعَنْبرِ، وفي هذا ما يُرَغِّبُ في المُشبَّهِ.
6- تَشْويهُ المُشبَّهِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الخفيف
كلَفٌ في شُحوبِ وجْهِك يَحْكي
نُكَتًا فوقَ وجْنةٍ بَرْصاءَ
ففي هذا التَّشْبيهِ ذمٌّ وتَرْغيبٌ عنِ المُشبَّهِ.
7- إيْهامُ أنَّ المُشبَّهَ أقْوى مِنَ المُشبَّهِ به، وذلك في التَّشْبيهِ المَعْكوسِ أوِ المَقْلوبِ؛ حيثُ يَتبادَلُ فيه المُشبَّهُ والمُشبَّهُ به الأدْوارَ، فيكونُ المُشبَّهُ مُشبَّهًا به والعكْسُ، كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
وبدا الصَّباحُ كأنَّ غُرَّتَه
وجْهُ الخَليفةِ حين يُمْتدَحُ
فالشَّاعِرُ هنا يُشبِّهُ الصَّباحَ وضَوءَه بوجْهِ الخَليفةِ، ومِن شأنِ المُشبَّهِ به أنْ يكونَ أقْوى وأتَمَّ مِنَ المُشبَّهِ، كأنَّه يقولُ: إنَّ وجْهَ الخَليفةِ أشَدُّ وأكْثرُ ضَوءًا ونُورًا وبَياضًا مِنَ الصُّبحِ.
ومنه قولُه تعالى حِكايةً عن مُسْتَحِلِّي
الرِّبا:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة: 275] ؛ فقد كان الأصْلُ أنْ يقولوا: إنَّما
الرِّبا مِثلُ البَيْعِ، أيْ: في حِلِّه، فعَكَسوا ذلك وكأنَّ الأصْلَ في التَّحليلِ هو
الرِّبا، والبيْعُ طارِئٌ عليه أو نوعٌ منه.
ومنه قولُ
البُحْتُريِّ: البسيط
في طَلعةِ البدْرِ شيءٌ مِن مَحاسِنِها
وللقَضيبِ نَصيبٌ مِن تَثَنِّيها
فشبَّه طَلعَةَ البدْرِ ببعضِ مَحاسِنِ مَحْبوبتِه، وجعَل لعُودِ السِّواكِ نَصيبًا مِنِ اعْتدالِ جِسمِها ورشاقَةِ قَوامِها، والحالُ أنْ تُشبَّهَ المَحْبوبةُ بالبدْرِ، وحُسْنُ قدِّها بالعُودِ لا العَكْسُ
[286] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 78)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 234). .