المَبْحَثُ الخامِسُ: أدَاةُ التَّشْبيهِ
الأصْلُ في أداةِ التَّشْبيهِ الكافُ، وهِي حرْفُ جرٍّ، يَليه المُشبَّهُ به، كقولِك: زيدٌ كالأسَدِ، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنْيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا )) [295] أخرجه البخاري (2446)، ومسلم (2585) من حَديثِ أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عنه. ، ففي المِثالِ الأوَّلِ شُبِّه زيدٌ بالأسدِ، ولهذا جاء المُشبَّهُ به بعدَ الكافِ، وفي الحَديثِ أيضًا شُبِّه المُؤمِنُ لأخيه بالبُنْيانِ، وهُو المُشبَّهُ به؛ ولِهذا جاء بعدَ الكافِ كذلك.
وقد لا يَليه المُشبَّهُ به، وذلك إذا كان المشبَّهُ به مُركَّبًا مِن عدَّةِ عَناصِرَ، كقَولِه تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف: 45] ؛ فإنَّ الحَياةَ الدُّنيا لا تُشبِهُ الماءَ فحسْبُ، وإنَّما المُرادُ تَشْبيهُ تَبدُّلِ حالِها مِنَ النَّضارةِ إلى الزَّوالِ والعدَمِ بحالِ النَّباتِ الَّذي يَرويه الماءُ فيَخْضَرُّ ويَترعْرعُ، ثمَّ ما يَلبَثُ أنْ يَتحوَّلَ إلى الذُّبولِ والاصْفرارِ.
ومِثلُه كذلك قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
وأشدُّ ما لاقيتُ مِن ألَمِ الجَوى
قُرْبُ الحَبيبِ وما إليه وُصولُ
كالعِيسِ في البَيداءِ يَقتُلُها الظَّما
والماءُ فوقَ ظُهورِها مَحْمولُ
فإنَّه شبَّه حالَه مِنَ الفِراقِ وألَمِ الشَّوقِ معَ قُرْبِ الدَّارِ، بحالِ الإبِلِ الَّتي تَحمِلُ الماءَ فوق ظَهرِها في الصَّحراءِ وتَكادُ تَموتُ عطَشًا.
ومِن أدواتِ التَّشْبيهِ أيضًا "كأنَّ": وهِي حرْفٌ أيضًا، لكنَّها تُخالِفُ الكافَ في أنَّ الَّذي يَقعُ بعدَها هو المُشبَّهُ لا المُشبَّهُ به، تقولُ: كأنَّ مُحمَّدًا أسَدٌ.
وتُخالِفُ الكافَ أيضًا في كوْنِها أقْربُ في الدَّلالةِ على المُشابَهةِ؛ فهِي تُسْتخدَمُ حين يَقْوى الشَّبهُ بَيْنَ المُشبَّهِ والمُشبَّهِ به حتَّى يُوشِكا أنْ يَكونا شيئًا واحِدًا، كقَولِه تعالى:
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: 41-42] ؛ فإنَّ العرْشَ الَّذي رأتْه بِلْقيسُ كان عرْشَها، ولكنَّها لم تَعلَمْ ذلك، وتَوقَّعتْ أنْ يكونَ نبيُّ اللهِ سُليمانُ عليه السَّلامُ قد صنَع مِثلَه تَمامًا للدَّرجةِ الَّتي تُوهِمُ أنَّه هو؛ ولِهذا قالت: "كأنَّه هو".
ومنه قولُ
الصَّاحِبِ بنِ عَبَّادٍ: الكامل
رقَّ الزُّجاجُ وراقتِ الخَمْرُ
فتَشابها فتَشاكَلَ الأمرُ
فكأنَّما خمْرٌ ولا قدَحٌ
وكأنَّما قدَحٌ ولا خمْرُ
يُريدُ الشَّاعرُ هنا المُبالَغةَ في وصْفِ الخمْرِ وآنِيتِها؛ حيثُ يصِفُ الزُّجاجَ معَ مدى رِقَّتِه وخِفَّتِه، والخمْرَ نفْسَها وهِي نَقيَّةٌ عذْبةٌ، حتَّى كأنَّهما صارَا شيئًا واحِدًا، فكأنَّك تَرى الخمْرَ ولا تَرى القدَحَ، أو تَرى القدَحَ ولا تَرى الخمْرَ. واسْتِخدامُ "كأنَّ" هنا يُفيدُ زِيادةَ التَّوْكيدِ وتَقْريبَ التَّشْبيهِ لدَرَجةٍ بَعيدةٍ.
ومِن أدَواتِ التَّشْبيهِ أيضًا بعضُ الأسْماءِ نحْوُ: "مِثْل، شبَه، شَبيه، مُماثِل، مُحاكي ..." كقولِك: مُحمَّدٌ مِثلُ الأسدِ، وليلى شَبيهَةُ القمَرِ، ومنه قولُ ابنِ الرُّوميِّ: الطويل
وأوْلادُنا مِثلُ الجَوارِحِ أيُّها
فقَدناهُ كان الفاجِعَ البيِّنَ الفَقْدِ
فالشَّاعِرُ هنا يُشبِّهُ أوْلادَه بأعْضاءِ الإنْسانِ الضَّروريَّةِ، وأداةُ التَّشْبيهِ هي الاسمُ "مِثلُ".
وقولُ الشَّاعِرِ: الرمل
يا شَبيهَ البدْرِ حُسْنًا
وضِياءً ومَنالَا
وشَبيهَ الغُصْنِ لِينًا
وقَوامًا واعْتِدالَا
أنتَ مِثلُ الورْدِ لَوْنًا
ونَسيمًا وملَالَا
ففي البيتِ الأوَّلِ شبَّه مَحْبوبَه بالبدْرِ في حُسْنِه وضِيائِه، وفي البيتِ الثَّاني شبَّهَه بلِينِ الغصْنِ، وفي البَيتَينِ اسْتَخدَم الأداةَ "شَبيه" وهِي اسمٌ، وفي البيتِ الثَّالثِ شبَّهَه بالورْدِ، وأتى بالأداةِ "مِثل"، وهِي اسمٌ كما مرَّ.
ومِنَ الأدَواتِ أيضًا بعضُ الأفْعالِ الَّتي تُفيدُ مَعْنى المُشابَهةِ والمُماثَلةِ، مِثلُ: "يُشبهُ، يُحاكي، يُضارِعُ، يُماثِلُ ...". ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
وساقيةٍ نزَلتُ بها وإلْفي
أوَدِّعُه كتَوْديعِ المَرُوعِ
فصَوْتُ أنينِها يَحْكي أنِيني
وفيْضُ دُموعِها يَحْكي دُموعي
شبَّه الشَّاعرُ هنا صوتَ أنينِ السَّاقيةِ بجِوارِه بأنينِه عندَ تَوْديعِه إِلْفَه، كما شبَّه دُموعَها -يُريدُ: تَدفُّقَ الماءِ منْها- بدُموعِه الَّتي انْهالت منه لفقْدِ حَبيبِه. والشَّاعِرُ هنا إنَّما أراد تَشْبيهَ أنِينِه بأنِينِ السَّاقيةِ، وبُكائِه بانْهمارِ مائِها، غيرَ أنَّه أتى به مَعْكوسًا، وسيأتي ذلك في بَيانِ أغْراضِ التَّشْبيهِ.
وتقولُ: زيدٌ يُشْبِهُ الأسدَ، وصوْتُ عليٍّ يُضارِعُ قرْعَ الطُّبولِ
[296] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 68)، ((حاشية الدسوقي على مختصر المعاني)) (3/ 145). .