المَبْحَثُ التَّاسع: التَّوجيهُ أوِ الإبْهامُ
وهُو: "أنْ يقولَ المُتكلِّمُ كَلامًا مُحْتمِلًا لمَعْنيَين مُتضادَّينِ، لا يَتميَّزُ أحدُهما مِنَ الآخَرِ، ولا يأتي ما يُميِّزُ أحدَهما؛ قصْدًا للإبْهامِ".
فمنه قولُه تعالى:
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء: 46] .
فقولُ اليَهودِ:
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يَحتمِلُ أمرَين: المدْحَ، أيْ: اسْمَعْ غيرَ مُسْمَعٍ مَكروهًا، مِن قولِهم: أسْمَعَ فُلانٌ فُلانًا، أيْ: سبَّه. ويَحتمِلُ الذَّمَّ: أيْ: لا سمِعتَ؛ دُعاءً عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أوِ: اسْمَعْ غيرَ مُسمَعٍ كَلامًا ترضاه، بل كلُّ ما تَسْمعُه لا يُرضِيك.
وكذلك قولُهم:
رَاعِنَا فهُو يَحْتمِلُ أنْ يكونَ فِعلَ الأمرِ مِن "راعى يُراعي"، أيْ: ارْقُبْنا وانْظُرْ إلينا نُحدِّثْك، ويَحْتمِلُ أنْ يكونَ للسُّخريةِ والذَّمِّ؛ فإنَّ الرَّاعِنَ: الخَطَّاءُ، وقيل: كانوا يقولون في الجاهِليَّةِ: "راعِنا" للسُّخريةِ؛ ولِهذا نهَى اللهُ المُؤمنينَ عن قولِها، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [البقرة: 104] .
وهذا القولُ منْهم مُحْتمِلٌ للأمرَين؛ فإنَّهم وإنْ كانوا يَجهَرونَ بالكُفْرِ فهم لا يَسْتطيعون الجَهْرَ بسَبِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولِهذا كانتْ تلك الجُملةُ مِن قَبيلِ التَّوجيهِ والإبْهامِ، حتَّى فضَحهم اللهُ تعالى وبيَّنَ مَقْصُودَهم بقولِهم هذ،ا فقال:
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [النساء: 46] [398] ينظر: ((تفسير الطبري)) (2/ 375)، ((الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل)) للزمخشري (1/ 517). .
ومنه أيضًا قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شُرَيحٍ الحَضْرميِّ لمَّا ذُكِر عندَه، فقال:
((لا يَتوسَّدُ القُرآنَ )) [399] أخرجه النسائي (1783)، وأحمد (15724) من حديث السائب بن يزيد رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فإنَّه مُحْتمِلٌ لمَعْنيَينِ: يَحْتمِلُ أنْ يكونَ مدْحًا وذمًّا؛ فالمدْحُ مَعْناه أنَّه لا يَنامُ اللَّيلَ عنِ القُرآنِ، ولكنْ يَتَهجَّدُ به، ولا يكونُ القُرآنُ مُتوسَّدًا معَه، بل هو يُداوِمُ قِراءتَه ويُحافِظُ عليها. والذَّمُّ مَعْناه: لا يَحفَظُ مِنَ القُرآنِ شيئًا ولا يُديمُ قِراءتَه، فإذا نام لم يَتوسَّدْ معَه القُرآنَ، وأراد بالتَّوسُّدِ النَّومَ
[400] ينظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 183)، ((تاج العروس)) للزبيدي (9/ 298، 299). .
ومنه قولُ بشَّارِ بنِ بُرْدٍ في خيَّاطٍ أعْوَرَ: الرمل
خاطَ لي عَمْرٌو قُباءً
ليتَ عَيْنَيه سواءُ
قُلْتُ شِعرًا ليس يُدرَى
أمَديحٌ أم هِجاءُ
فقولُه: "ليتَ عَينَيه سَواءٌ" يَحْتمِلُ أنَّه أرادَ له الخيْرَ، وهُو أنْ تَصِحَّ عَينُه العَوراءُ؛ لحُسْنِ خِياطتِه وجَميلِ صَنيعِه، ويَحْتمِلُ العكْسَ وأنَّه يَدعو عليه بالعَمى؛ لسُوءِ خِياطتِه ولِيَرحَمَ النَّاسَ مِن سُوءِ صَنْعتِه.
ومنه قولُ الباهِليِّ في زَواجِ
المأمونِ مِن بُورانَ بنتِ الحَسَنِ بنِ سهْلٍ: مجزوء الخفيف
بارَكَ اللهُ للحَسَنِ
ولبُورانَ في الخَتَنِ
يا إمامَ الهُدى ظفِرْ
تَ ولكنْ ببِنتِ مَنِ
فقولُه: "ببنْتِ مَنِ؟" لا يُدرَى أرادَ الشَّاعرُ بذلك بنْتَ مَنْ في الحَقارَةِ أم بنْتَ مَنْ في الرِّفْعةِ؟ ولِهذا لمَّا بلَغ
المَأمونَ ذلك، قال: واللهِ لا أدْري أخَيْرًا أرادَ أم شَرًّا
[401] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 315)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (4/ 628). ؟!
ويتَّضِحُ الفرقُ بيْن التَّوريةِ والتَّوجيهِ في أنَّ التَّوريةَ يُرادُ منها المعنى البعيدُ، ويَعلَمُ المستمعُ ذلك وإنْ تُوِهِّمَ لأوَّلِ وَهلةٍ، بخِلافِ التَّوجيهِ الَّذي يُرادُ به الإبهامُ، فلا يَتأكَّدُ السَّامعُ مِن المرادِ حَقيقةً.
انظر أيضا:
عرض الهوامش