المَبْحَثُ الخامسُ والعِشرونَ: أُسْلوبُ الحَكيمِ
وهُو: "تَلقِّي المُخاطَبِ بغيرِ ما يَترقَّبُه؛ إمَّا بترْكِ سُؤالِه والإجابَةِ عن سُؤالٍ لم يَسألْه، أو بحَمْلِ كَلامِ المُتكلِّمِ على غيرِ ما كان يَقصِدُ، تَنْبيهًا على أنَّه كان يَنبغي له أنْ يَسألَ هذا السُّؤالَ، أو يَقصِدَ هذا المَعْنى".
ومِن خِلالِ التَّعريفِ يَظهَرُ أنَّ أسْلوبَ الحَكيمِ نَوْعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: الإجابَةُ عن سُؤالٍ لم يَسألْهكقَولِه تعالى:
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 215] ؛ سألوا عمَّا يُنفِقونَه، فأجابَهم بمَصارِفِ الصَّدَقاتِ، تَنْبيهًا إلى أنَّ الأهمَّ أنْ يَسألوا عن مصارِفِها؛ فإنَّ الزَّكواتِ والصَّدَقاتِ لا تُقبَل إلَّا إذا صُرِفتْ في مَصارِفِها، أمَّا ما يُنفِقون فأيُّ شيءٍ في مَقدورِهم إنْفاقُه أجْزأَهم.
ومِثلُه أيضًا قولُه تعالى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] ؛ فإنَّهم سألوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سَببِ تَغيُّرِ شكْلِ الهِلالِ؛ حيثُ يَبدو أوَّلَ الشَّهرِ دَقيقًا نَحيفًا، ثمَّ يَزيدُ شيئًا فشيئًا حتَّى يَكتمِلَ في طَورِ البدْرِ، ثمَّ يَتناقَصُ مِن جَديدٍ، فأجابهم إلى ما هو أعْظَمُ، تَنْبيهًا لهم بأنَّ الأهمَّ مِن ذلك أنْ يَعلَموا أنَّ الهِلالَ عَلامةٌ على المَواقيتِ والمَناسِكِ.
ومنه أنَّ رجُلًا سأل بِلالَ بنَ رَباحٍ رضِي اللهُ عنه: مَنْ سبَق؟ فقال: سبَق المُقرَّبونَ، قال: إنَّما أسْألُك عنِ الخَيلِ، قال بِلالٌ: وأنا أجِيبُك عنِ الخيْرِ.
وقيل لتاجِرٍ: كم رأسُ مالِك؟ فقال: إنِّني أمِينٌ، وثِقةُ النَّاسِ بي عَظيمةٌ. فصرَف التَّاجِرُ سائِلَه عن إجابَةِ سُؤالِه إلى بَيانِ ما هو أعْظَمُ أثَرًا؛ فإنَّ هاتَينِ الصِّفتَينِ أجْلَبُ للرِّبْحِ وأضْمَنُ لنَجاحِ التِّجارَةِ.
وقيل لشَيخٍ: كم سِنُّك؟ فقال: إنِّي أنْعَمُ بالعافِيةِ؛ إشارَةً منه إلى أنَّ الأَوْلى بالسُّؤالِ إنَّما هي الصِّحَّةُ لا السِّنُّ.
النَّوعُ الثَّاني: تَلقِّي المُخاطَبِ بغيرِ ما يَترقَّبُ بحَمْلِ كَلامِه على غيرِ ما يُريدُ؛ تَنْبيهًا على أنَّه الأَوْلى بالقَصْدِفمنه قولُ
الحَجَّاجِ للقَبَعْثَرى: "لَأحمِلنَّك على الأدْهَمِ"، فقال القَبَعْثَرَى: "مِثلُ الأميرِ يَحمِلُ على الأدْهَمِ والأشْهَبِ"، فقال
الحَجَّاجُ: "أردْتُ بالأدْهَمِ الحَديدَ"، قال: "لأنْ يكونَ حَديدًا خيرٌ منْ أنْ يكونَ بَليدًا".
أرادَ
الحجَّاجُ بالأدهَمِ: القَيْدَ، وبالحَديدِ: المَعدِنَ، وحمَل الرَّجلُ الأدهَمَ على الفرَسِ، والحَديدَ على السَّريعِ مِنَ الخَيلِ، معَ أنَّه يَعلَمُ مُرادَ
الحجَّاجِ؛ تَنْبيهًا له على أنَّ امرَأً مِثلَ الأميرِ خَليقٌ بالوعْدِ لا الوَعيدِ، وبالبذْلِ لا القتْلِ.
ومنه قولُ الشَّاعرِ في الفخْرِ: الطويل
أتَتْ تَشْتكي عندي مُزاوَلةَ القِرى
وقد رأتِ الضِّيفانَ يَنحونَ مَنْزلي
فقلتُ كأنِّي ما سمِعتُ كَلامَها
هم الضَّيفُ جِدِّي في قِراهم وعجِّلي
فالشَّاعِرُ يذكُرُ أنَّ زَوْجتَه أتَتْ تَلومُه على كثْرةِ قِراه للضُّيوفِ، فحوَّل شكواها مِن كثْرتِهم إلى شَكْوى مِن قلَّتِهم، كأنَّه سمِعَها تَشْتكي قلَّةَ الضُّيوفِ، فقال لها: هؤلاءِ القادِمونَ ضُيوفٌ، فهيَّا اسْتَعدِّي وأكْرِميهم. وقد علِمَ الشَّاعرُ أنَّها تَلومُه على كثْرتِهم، لكنَّه أراد أنْ يَلفِتَ انْتِباهَها إلى أنَّ الجَديرَ بها أنْ تَسْعى إلى ما يَكْسِبُها الثَّناءَ وبَقاءَ الذِّكْرِ، لا أنْ تُقبِلَ على ما يُوجِبُ الذَّمَّ ويَجلِبُ النَّقيصةَ
[452] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 319)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 182). .
تَنْبيهٌ: يَشْترِكُ الأسْلوبُ الحَكيمُ والقوْلُ بالمُوجِبِ في أنَّهما إخْراجٌ للكَلامِ عن ظاهِرِه، إلَّا أنَّهما يَخْتلفانِ في الغايَةِ؛ فغايَةُ القولِ بالمُوجِبِ ردُّ كَلامِ المُتكلِّمِ وعكْسُ مَعْناه، في حين غايَةُ الأسْلوبِ الحَكيمِ تَنْبيهُ المُتكلِّمِ إلى ما هو أَوْلى وأهمُّ. فظهَر بذلك الفَرْقُ بينَهما، وأنَّهما ليسا شيئًا واحِدًا
[453] ينظر: ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم المدني (2/209). .