الفَرْعُ الثَّالثُ: اخْتِلافُ اللَّفظَينِ في هَيئةِ الحُروفِ مِنَ الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ والنَّقْطِ
وهُو على نَوعَينِ:
1- الجِناسُ المُحرَّفُ: وهُو ما كان بينَ اللَّفظَينِ اخْتِلافٌ في الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ فحسْبُ:
كقَولِه تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [الصافات: 72-73] ؛ فالخِلافُ في فاصِلَتيِ الآيتَينِ في حرَكةِ الذَّالِ؛ ففي الآيةِ الأُولى وقَعت الذَّالُ مَكْسورةً، وفي الأخرى وقَعتْ مَفْتوحةً. والكَلمتانِ وإن كانتا مِن جذْرٍ واحِدٍ فبينَهما اخْتِلافٌ في المَعْنى؛ فالأُولى اسمُ فاعِلٍ بمَعْنى: أرْسَلنا إليهم رُسُلًا يُنْذِرونَهم، والأخرى اسمُ مَفْعولٍ بمَعْنى: الَّذين أُرْسِلَ إليهم مَنْ يُنذِرُهم.
وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللَّهمَّ أَحسَنتَ خَلْقي، فأحسِنْ خُلُقي )) [465] أخرجه أحمد (3823)، وأبو يعلى (5181)، وابن حبان (959) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. ؛ فبيْنَ "خَلْقي" و"خُلُقي" اخْتِلافٌ في الحَرَكاتِ يَنتُجُ عنه اخْتِلافٌ في المَعْنى؛ فالخَلْقُ: الصُّورةُ والشَّكلُ، والخُلُقُ: واحِدُ الأخْلاقِ.
ومنه قولُهم: "جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ"؛ فالجِناسُ بينَ "البُردِ" بضمِّ الباءِ، وهُو الثَّوبُ، وبينَ "البَردِ" بفتْحِها، وهُو نَقِيضُ الحَرِّ.
وقولُ الشَّاعِرِ: البسيط
والحُسْنُ يظهَرُ في بيتَينِ رَونقُه
بيتٍ مِنَ الشِّعْرِ أو بيتٍ مِنَ الشَّعَرِ
فبيْنَ الشِّعرِ والشَّعَرِ جِناسٌ مُحرَّفٌ باخْتِلافِ الحَرَكةِ على الشِّينِ المُشدَّدةِ في الكَلمتَينِ؛ فالأُولى مَكْسورةٌ، والثَّانيةُ مَفْتوحةٌ، وبيتُ الشَّعْرِ: الخَيمةُ.
ومنه قولُ جَميلِ بُثَينَةَ: الطويل
أتى وهْوَ مَشْغولٌ لعُظْمِ الَّذي به
ومَنْ بات طُولَ اللَّيلِ يَرْعى السُّها سَها
بُثَينةُ تُزْري بالغَزالةِ في الضُّحى
إذا برَزتْ لم تُبقِ يومًا بِها بَهَا
ففي البيتِ الأوَّلِ تَكرَّرتْ كَلمةُ "سها" معَ اخْتِلافٍ في حَرَكةِ السِّينِ في المَوضِعَينِ؛ فالأُولى مَضْمومةٌ، والسُّها: كَوكبٌ صَغيرٌ في السَّماءِ، والثَّانيةُ مَفْتوحةُ السِّينِ، وهِي فعلٌ ماضٍ مِنَ السَّهْوِ، وهُو النِّسيانُ.
وفي البيتِ الثَّاني وقَع الجِناسُ في كَلمتَيْ "بِها بَها"؛ فالأُولى مَكْسورةُ الباءِ، وهِي حرْفُ جرٍّ، والهاءُ ضَميرُ الغائِبةِ، والثَّانيةُ مَفْتوحةُ الباءِ، وهِي تَسْهيلُ كَلمةِ (بَهاءٍ)، وهُو الجَمالُ والنُّورُ.
2- الجِناسُ المُصَحَّفُ: وهُو ما اتَّفَق فيه رُكنا الجِناسِ في عدَدِ الحُروفِ وحَركاتِها، واخْتَلفا في النَّقْطِ فحسْبُ:
كقَولِه تعالى:
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 79-80] ؛ فبيْنَ "يَسْقين" و"يَشْفين" جِناسُ تَصْحيفٍ؛ فحَركاتُ الحُروفِ واحِدةٌ في الكَلمتَينِ، لكنَّ النَّقْطَ في السِّينِ والشِّينِ اخْتَلفَ، كذلك نَقْطُ القافِ والفاءِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
فإنْ حلُّوا فليس لهم مَقَرُّ
وإنْ رحَلوا فليس لهم مَفَرُّ
فالجِناسُ المُصَحَّفُ بَيْنَ كَلمتَي: "مَقرٍّ" و"مَفرٍّ" باتِّفاقِ حَرَكاتِهما واخْتِلافِ النَّقْطِ بينَهما في القافِ والفاءِ.
وقولُ أبي فِراسٍ: الكامل
مِنْ بَحْرِ جُودِك أغْتَرفْ
وبفَضْلِ عِلمِك أعْتَرفْ
فالجِناسُ المُصحَّفُ بينَ "أغْتَرف" و"أعْتَرف" بالاخْتِلافِ في النَّقْطِ على الغَينِ والعَينِ.
وهذا النَّوعُ مِنَ الجِناسِ يَدخُلُ فيه بعضُ الأنْواعِ الأخْرى؛ فبينَ "أغْتَرف" و"أعْتَرف" جِناسٌ مُضارِعٌ؛ لأنَّ العَينَ والغَينَ مَخرَجُهما قَريبٌ، وبينَ "مَقرٍّ" و"مَفرٍّ" جِناسٌ لاحِقٌ؛ للتَّباعُدِ بينَ مَخرَجي القافِ والفاءِ.