المَبْحَثُ الأوَّلُ: السَّرِقاتُ الظَّاهِرةُ
تَنْقسِمُ السَّرِقاتُ الأدَبيَّةُ الظَّاهِرةُ إلى ثَلاثةِ أقْسامٍ، تَلتقي جَميعُها في أخْذِ اللَّاحِقِ المَعْنى تامًّا مِن غيرِ أنْ يُغيِّرَ فيه شيئًا، سواءٌ أخَذَه باللَّفظِ تامًّا، أم أخَذَه وأكْثرَ اللَّفظِ، أمِ اكْتَفى به دُونَ اللَّفظِ، وذلك على النَّحوِ الآتي:
1- النَّسْخُ أو الانْتِحالُ:وهُو أقْبحُ أنْواعِ الأخْذِ، وهُو: "أنْ يأخُذَ الشَّاعرُ أوِ النَّاثِرُ المَعْنى الَّذي سُبِق إليه ولفْظَه كلَّه أو أكْثرَه".
وهُو على أنْواعٍ:
أ- أن يَأخُذَ الشَّاعرُ المَعْنى واللَّفظَ كلَّه: كما ذُكِر أنَّ
عبدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ الشَّاعرَ دخَل على
مُعاويةَ فأنشَده: الطويل
إذا أنتَ لم تُنصِفْ أخاكَ وجَدتَهُ
على طرَفِ الهِجْرانِ إنْ كانَ يَعقِلُ
ويَركَبُ حدَّ السَّيفِ مِن أنْ تَضيمَهُ
إذا لم يَكنْ عن شَفْرَةِ السَّيفِ مَزْمَلُ
فقال له
مُعاويةُ رضِي اللهُ عنه: لقد أشْعَرتَ بَعدي يا
أبا بكْرٍ. ثمَّ دخَل عليه مَعْنُ بنُ أوْسٍ الشَّاعِرُ، فأنشَده قَصيدتَه المَشْهورةَ، وأوَّلُها: الطويل
لَعَمرُك ما أدري وإنِّي لأَوْجَلُ
على أيِّنا تَعْدو المَنيَّةُ أوَّلُ
ثم أنشَده البيتَينِ السَّابِقَينِ، فأقْبَل
مُعاويةُ على
عبدِ اللهِ، وقال: ألم تُخْبرْني أنَّهما لك؟! فقال: المَعْنى لي واللَّفظُ له، وهُو أخي مِنَ الرَّضاعةِ، وأنا أَوْلى بشِعْرِه!
ب- أنْ يأخُذَ الشَّاعرُ المَعْنى وأكْثرَ اللَّفظِ، ولا يُغيِّرَ منه إلَّا القافِيةَ أو نحْوَها: كقولِ امْرِئِ القَيسِ في مُعلَّقتِه: الطويل
وُقوفًا بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم
يقولونَ لا تَهلِكْ أسًى وتَجمَّلِ
ثم قال طَرَفَةُ بنُ العبْدِ: الطويل
وُقوفًا بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم
يقولون لا تَهلِكْ أسًى وتَجلَّدِ
فغيَّر كَلمةَ "تَجمَّل" وقال: "تَجلَّد" ليُوافِقَ رَويَّ قَصيدتِه.
ج- أنْ يأخُذَ المَعْنى وأكْثَرَ اللَّفظِ:فمنه قول الأُبَيْرِدِ اليَربوعيِّ: الطويل
فتًى يَشتري حُسْنَ الثَّناءِ بمالِهِ
إذا السَّنةُ الشَّهباءُ أعْوَزَها القَطْرُ
وقال
أبو نُواسٍ:
فتًى يَشتري حُسْنَ الثَّناءِ بمالِهِ
ويَعلَمُ أنَّ الدَّائِراتِ تَدُورُ
فالصَّدرُ واحِدٌ في البيتَينِ، معَ الخِلافِ في العجُزِ بينَهما.
2- المَسْخُ أوِ الإغارَةُ:وهُو أن يأخُذَ الشَّاعرُ بعضَ اللَّفظِ ويُغيِّرَ بعضَ النَّظْمِ. وهُو ثَلاثُ صُورٍ:
أ- أنْ يكونَ اللَّاحِقُ أبلَغَ مِنَ السَّابِقِ؛ لاخْتِصاصِه بحُسْنِ السَّبْكِ، أو زِيادَةِ المَعْنى، أو جَودَةِ الاخْتِصارِ، ونحْوِ ذلك.
فمنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
خلَقْنا لهم في كلِّ عَينٍ وحاجِبٍ
بسُمْرِ القَنا والبِيضِ عَينًا وحاجِبًا
يُريدُ أنَّهم حينَ لاقَوا أعْداءَهم فَقؤوا أعْينَهم حتَّى صارتِ العَينُ نفْسُها مِنَ الطَّعْنِ والرَّميِ كأنَّها عَينٌ يَعلوها حاجِبٌ.
فأتى ابنُ نُباتةَ فأخَذ هذا المَعْنى وغيَّر قليلًا مِن ألْفاظِه فقال: الطويل
خلَقنا بأطْرافِ القَنا في ظُهورِهم
عُيونًا لها وقْعُ السُّيوفِ حَواجِبُ
فأفادَ نفْسَ المَعْنى الأوَّلِ، غيرَ أنَّه أفادَ بكَلمةِ "في ظُهورِهم" الإشارَةَ إلى انْهِزامِ الأعْداءِ، وأنَّهم ولَّوهم ظُهورَهم هارِبينَ فارِّينَ، فلم يَكتَفوا مِنْهم بذلك، ولاحَقوهم وأشْبَعوهم قتْلًا وجَرْحًا.
ومنه أيضًا قولُ بشَّارِ بنِ بُرْدٍ: البسيط
مَنْ راقبَ النَّاسَ لم يَظفَرْ بحاجَتِه
وفازَ بالطَّيِّباتِ الفاتِكُ اللَّهِجُ
يُريدُ أنَّه لا بدَّ مِنِ اقْتِحامِ المَكارِهِ، وأنَّ مَنْ أرادَ حاجَةً لم يَعْبَأْ بالنَّاسِ ولا كَلامِهم؛ فإنَّه مَنِ اهْتمَّ بالنَّاسِ لم يَفُزْ بشيءٍ.
فأتى سَلْمٌ الخاسِرُ فأخَذ المَعْنى ومُستهَلَّ البيتِ وغيَّر فيه فقال: مخلع البسيط
مَنْ راقَبَ النَّاسَ ماتَ همًّا
وفازَ باللَّذَّةِ الجَسورُ
فأفادَ المَعْنى الأوَّلَ، معَ زِيادَةِ اخْتِصارٍ وجَودةِ سبْكٍ.
ب- أنْ يكونَ الثَّاني دُونَ الأوَّلِ في البَلاغَةِ، وهُو خَليقٌ بالرَّدِّ وعدَمِ القَبولِ.
فمنه قولُ أبي تَمَّامٍ: الكامل
هيْهاتَ لا يأتي الزَّمانُ بمِثلِه
إنَّ الزَّمانَ بمِثلِه لَبَخيلُ
يُريدُ الشَّاعرُ أنْ يُبيِّنَ أنَّ هذا الفَقيدَ قد بلَغ مِنَ السُّموِّ والرِّفْعةِ والشَّرفِ والمَكانةِ معَ جَميلِ أخْلاقِه ونُبْلِ صِفاتِه ما يَعِزُّ على الدَّهرِ أنْ يأتيَ بمِثلِه؛ فإنَّ الزَّمانَ لا يَجودُ بمِثلِه، بل يَضَنُّ به.
فأتى
أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي فأخَذ هذا المَعْنى وبعضَ ألْفاظِه، وقال: الكامل
أعْدى الزَّمانَ سَخاؤُه فسَخا بهِ
ولقدْ يكونُ بهِ الزَّمانُ بَخيلا
فصدْرُ البيتِ الأوَّلِ فيه مِنَ الصُّعوبةِ في المَعْنى ما ليس في بيتِ أبي تَمَّامٍ، كما أنَّ
المُتَنبِّيَ اسْتَخدمَ "يكونُ" بلفْظِ المُضارِعِ، ومُرادُه الماضي، إلَّا أنَّ الوزْنَ ألْجأه إلى ذلك.
ج- أنْ يكونَ الثَّاني مِثلَ الأوَّلِ في البَلاغَةِ والحُسْنِ، فيكونَ الثَّاني بَعيدًا عنِ الذَّمِّ، وللأوَّلِ فضْلُ السَّبْقِ. كقولِ أبي تَمَّامٍ: الكامل
لو حارَ مُرْتادُ المَنيَّةِ لم يَجِدْ
إلَّا الفِراقَ على النُّفوسِ دَليلا
يُريدُ الشَّاعرُ أنْ يذكُرَ أنَّ الفِراقَ صار وَسيلةَ الموْتِ، بحيثُ إنَّ المَنيَّةَ لو احْتارتْ في الوُصولِ إلى مَقْصودِها الَّذي قُضِي عليه بالموْتِ لَوجَدتِ الفِراقَ دَليلًا عليه.
فأخَذَه
أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي أيضًا وقالَ: البسيط
لولا مُفارَقةُ الأحْبابِ ما وجَدتْ
لَها المَنايا إلى أرْواحِنا سُبُلا
فأفادَ نفْسَ المَعْنى، معَ تَغييرٍ في النَّظْمِ وتَبديلٍ في الألْفاظِ، مِن غيرِ أنْ يكونَ بيتُ أحدِهما أَوْلى أو أحْسَنَ مِن بيتِ الآخَرِ.
ومنه قولُ الأحْوَصِ: الطويل
متى ما أقُلْ في آخِرِ الدَّهرِ مِدْحةً
فما هي إلَّا لابنِ ليلى المُكَرَّمِ
ومَعْنى البيتِ واضِحٌ، وهُو أنَّ الشَّاعرَ لا يَمدَحُ أبدًا غيرَ هذا المَمْدوحِ (ابن ليلى)، فمتى قال مدْحًا في أحدٍ فإنَّما هو لِهذا الرَّجلِ لا لغيرِه.
فأخَذ هذا المَعْنى
أبو نُواسٍ وقالَ: الطويل
وإنْ جرَتِ الألْفاظُ منَّا بمِدْحةٍ
لِغيرِكَ إنْسانًا فأنتَ الَّذي نَعْني
فتَساوَى معَ الأحْوصِ في قولِه دُونَ أنْ يَرتفِعَ عنه في
البَلاغَةِ وحُسْنِ السَّبْكِ.
3- السَّلْخُ أوِ الإلْمامُ: وهُو أنْ يأخُذَ الشَّاعرُ المَعْنى وَحدَه، دُونَ أنْ يأخُذَ مِنَ اللَّفظِ شيئًا. وهُو على ثَلاثِ صُوَرٍ أيضًا:
أ- أنْ يكونَ الثَّاني أحْسَنَ مِنَ الأوَّلِ في حُسْنِ السَّبْكِ والرَّصانةِ والبَلاغَةِ.كقولِ
البُحْتُريِّ: الطويل
تَصُدُّ حَياءً أنْ تراكَ بأوْجُهٍ
أتى الذَّنْبَ عاصيها فلِيمَ مُطِيعُها
يُريدُ الإشارَةَ إلى أنَّ المَصائِبَ قد يَصْطنعُها أناسٌ ويُعاقَبُ عليها آخَرونَ لا ذنْبَ لهم ولا جَريرةَ.
فأخَذَ هذا المَعْنى
أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي وقال: الوافر
وجُرْمٍ جرَّه سُفَهاءُ قومٍ
وحلَّ بغيرِ جارِمِه العَذابُ
فأفادَ نفْسَ المَعْنى إلَّا أنَّه كان أحْسَنَ منه سَبْكًا، فضْلًا عنِ اقْتِباسِه الألْفاظَ والمَعانيَ مِن قولِه تعالى:
أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا [الأعراف: 155] .
ب- أنْ يكونَ الأوَّلُ أبلَغَ مِنَ الثَّاني، فيكونَ الثَّاني مَذْمومًا.فمنه قولُ الأعْرابيِّ: السريع
ورِيحُها أطْيبُ مِن طِيبِها
والطِّيبُ فيه المِسْكُ والعَنبرُ
معَ قولِ بشَّارِ بنِ بُرْدٍ -وهُو دُونَه-: الرمل
وإذا أدْنيتَ منْها بَصَلًا
غلَبَ المِسْكُ على رِيحِ البَصَلْ
فالأعْرابيُّ فضَّل رِيحَ جَسدِها على طِيبِها الَّذي تَضعُه، وإنْ كان في الطِّيبِ المِسْكُ والعَنْبرُ، أمَّا بشَّارُ ففضَّل رائِحَتها على رِيحِ البَصَلِ وغلَّبه عليها، وهُو مَعْنًى رَكيكٌ مُبْتذَلٌ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
وعلى عَدوِّكَ يا ابنَ عمِّ مُحمَّدٍ
رِصْدانِ: ضَوءُ الصُّبحِ والإظْلامُ
فإذا تَنبَّه رُعْتَه وإذا هدا
سَلَّت عليه سُيوفَك الأحْلامُ
يُريدُ أنَّ عَدوَّ المَمْدوحِ صار يَتربَّصُ به شَيئَينِ: الصُّبحَ وما فيه مِن جُنودِك وسُيوفِك، والظَّلامَ حيثُ يَنامُ فيُلاقيك في النَّومِ فيَفزَعُ بذلك؛ ففي الصُّبحِ يَروعُ بك، وفي النَّومِ تُسَلُّ عليه سُيوفُ الأحْلامِ.
حيثُ أخَذ هذا المَعْنى
أبو الطَّيِّبِ المُتَنبِّي وقالَ: الوافر
يَرى في النَّومِ رُمحَكَ في كُلاهُ
ويَخْشى أنْ يَراه في السُّهَادِ
فأجادَ في أنْ جعَل الرُّمحَ يَخْترِقُ كُلى العَدوِّ، لكنَّه أخْفَق في أنَّه أراد أنَّه يَخْشى أنْ يَراه في اليَقْظةِ، فذكَر السُّهادَ، وليست كلُّ يَقْظةٍ سُهادًا؛ فإنَّ السُّهادَ امْتِناعُ النَّومِ في اللَّيلِ فحسْبُ.
ج- أنْ يكونَ مِثلَ الأوَّلِ في البَلاغَةِ والحُسْنِ.فمنه قولُ الأعْرابيِّ: الوافر
ولم يكُ أكْثرَ الفِتيانِ مالًا
ولكنْ كانَ أرْحَبَهم ذِراعا
المَعْنى واضِحٌ مِن أنَّ مَمْدوحَه وإنْ لم يكنْ أغْنَى النَّاسِ، فإنَّه كان أكْرَمَهم وأطْوَلَهم يدًا.
أخَذ هذا المَعْنى شاعِرٌ آخَرُ فقالَ: المتقارب
وليسَ بأوْسَعِهم في الغِنى
ولكنَّ مَعْروفَهُ أوْسَعُ
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعرِ في رِثاءِ ولَدِه: الكامل
الصَّبرُ يُحمَدُ في المَواطِنِ كلِّها
إلَّا عليكَ فإنَّه مَذْمومُ
يُريدُ أنَّ الصَّبرَ مَحْمودٌ عندَ فقْدِ كلِّ عَزيزٍ، إلَّا حينَ يَصيرُ الصَّبرُ على فقْدِك؛ فإنَّ السُّكوتَ عنِ البُكاءِ عليك مُرٌّ مَذْمومٌ.
اقْتَبس أبو تَمَّامٍ هذا المَعْنى وقال: الطويل
وقد كانَ يُدعَى لابِسُ الصَّبرِ حازِمًا
فأصْبَح يُدعَى حازِمًا حينَ يَجزَعُ
فلم يَزِدْ على السَّابِقِ ولم يَنزِلْ عن مَرتَبتِه في الحُسْنِ
[500] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 368)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (4/ 670). .