الفصل الثَّامِنُ: إنْتاجُ الأصْواتِ اللُّغويَّةِ
الأصْواتُ اللُّغويَّةُ هي الأصْواتُ الَّتي تَصدُرُ مِن آلَةِ النُّطْقِ لدى الإنْسانِ، واصْطَلح البَشَرُ على دَلالةِ تلك الأصْواتِ على المَعاني حين تُنظَمُ في كَلِماتٍ وجُمَلٍ؛ فاللُّغةُ كما قيل في تَعْريفِها: (أصْواتٌ يُعبِّرُ بها كلُّ قومٍ عن أغْراضِهم)
[390] ((الخصائص)) لابن جني (1/34). ، واهْتِمامُ اللُّغويِّ يَتركَّزُ حول هذه الأصْواتِ الَّتي تَتشكَّلُ منها اللُّغاتُ، أمَّا الأصْواتُ الأخرى الَّتي يَسمَعُها الإنْسانُ، فيَهتمُّ بها عُلَماءُ الطَّبيعةِ في عِلمِ الفِيزياءِ.
وإذا أراد اللُّغويُّ دِراسةَ أصْواتِ اللُّغةِ فعليه أن يَدرُسَ كَيفيَّةَ إنْتاجِ تلك الأصْواتِ، وأنْ يَعرِفَ خَصائِصَ كلِّ صَوتٍ، ويُحدِّدَ أسُسَ تَصْنيفِ الأصْواتِ إلى مَجْموعاتٍ؛ ليَقفَ على وُجوهِ التَّشابُهِ والاخْتِلافِ بينَها، ومِقدارِ التَّقارُبِ والتَّباعُدِ فيها. وممَّا يُساعِدُ على ذلك مَعْرِفةُ أعْضاءِ آلةِ النُّطْقِ عند الإنْسانِ وكَيفيَّةِ عَمَلِها.
إنَّ أعْضاءَ النُّطْقِ عند الإنْسانِ تَقومُ بوَظائِفَ أخرى مُهمَّةٍ لحَياةِ الإنْسانِ، مِثلُ تَقْطيعِ الطَّعامِ ومَضْغِه، وتَذوُّقِ الأشْياءِ، وشمِّ الرَّوائِحِ، واسْتِنْشاقِ الهَواءِ لتَنْقيةِ الدَّمِ مِن نَواتِجِ نَشاطِ خَلايا الجِسمِ، وغيرِها مِنَ الوَظائِفِ الَّتي لا تَسْتمرُّ الحَياةُ من دونِها؛ ولأهمِّيَّةِ هذه الوَظائِفِ ذهَب بعضُ العُلَماءِ إلى أنَّ عَمليَّةَ النُّطْقِ وَظيفَةٌ ثانويَّةٌ تَقومُ بها هذه الأعْضاءُ، وقلَّدهم بعضُ الباحِثين في عِلمِ الأصْواتِ مِنَ العَربِ في كَونِ النُّطْقِ وَظيفَةً ثانويَّةً، وأنَّها لم تكنْ مَوجودةً في حِقْبةٍ سابِقةٍ مِن تاريخِ حَياةِ الإنْسانِ على الأرضِ، وأنَّ وَظيفتَها قد تَعدَّلتْ في فَترَةٍ مُتأخِّرةٍ تبَعًا لِما تُقرِّرُه نَظريَّةُ التَّطوُّرِ، ومِن هؤلاء الدُّكتورُ أحْمَد مُخْتار عُمَر في كِتابِه ((دِراسةِ الصَّوتِ اللُّغويِّ))
[391] يُنظَر: ((دِراسة الصوت اللُّغوي)) لأحمد مختار عمر (ص99). والدُّكتورُ تمَّام حسَّان في كِتابِه ((مَناهِجِ البَحْثِ في اللُّغةِ))
[392] يُنظَر: ((مناهج البحث في اللغة)) لتمام حسان (ص65). وغيرُهما.
والقولُ بأنَّ هذه الأعْضاءَ لم تكنْ مَخْلوقةً للقِيامِ بوَظيفَةِ النُّطْقِ ثمَّ تَطوَّرتْ وَظيفتُها في حِقْبةٍ لاحِقةٍ مِن تاريخِ البَشريَّةِ بفَضْلِ ذَكاءِ الإنْسانِ، واسْتِجابةً للضَّرورةِ الاجْتِماعيَّةِ- قَولٌ لا دَليلَ عليه؛ فقد خلَق اللهُ الإنْسانَ وعلَّمَه البَيانَ، وهيَّأ أعْضاءَ النُّطْقِ لوَظيفَةِ الكَلامِ؛ يقولُ الدُّكتورُ عبدُ الرَّحمنِ أيُّوب: (كان مِنَ المُعْتقَدِ أنَّ عَمليَّةَ الكَلامِ تُمثِّلُ وَظيفَةً ثانويَّةً يَقومُ بها جِهازُ التَّنفُّسِ، وذلك باسْتِغلالِ الهَواءِ الخارِجِ مِنَ الرِّئَتَين عند عَمليَّةِ الزَّفيرِ في إنْتاجِ الأصْواتِ… ولكنَّ هذا الرَّأيَ لم يَعُدْ مَقْبولًا عندَ عُلَماءِ الصَّوتِ، وهم يَرون الآنَ أنَّ أعْضاءَ النُّطْقِ بالشَّكْلِ الَّذي هي عليه قد هُيِّئتْ للقِيامِ بعَمليَّةِ الكَلامِ بمِقدارِ ما شُكِّلتْ للقِيامِ بعَمليَّةِ التَّنفُّسِ وتَناوُلِ الغِذاءِ، واللِّسانُ الإنْسانيُّ مِنَ المُرونةِ بمِقدارٍ يَزيدُ بكَثيرٍ عمَّا تَتطلَّبُه عَمليَّةُ ابْتِلاعِ الطَّعامِ، وسَببُ هذا أنَّ المُرونةَ الزَّائِدةَ لازِمةٌ لإنْتاجِ مُخْتلِفِ الأصْواتِ اللُّغويَّةِ، والبُلْعومُ الإنْسانيُّ والقَصَبةُ الهَوائيَّةُ قد شُكِّلَتا بحيثُ تُلائِمان بَينَ عَمليَّتَيِ التَّنفُّسِ والتَّغذِّي، والأذُنُ الإنْسانيَّةُ قد شُكِّلتْ لتَتلاءَمَ معَ اسْتِقبالِ الأصْواتِ الكَلاميَّةِ، لا لمُجرَّدِ اسْتِقبالِ أيِّ صَوتٍ؛ ولِهذا فقد بلَغتْ مِنَ الدِّقَّةِ بحيثُ تُدرِكُ أقَلَّ الفُروقِ الصَّوتيَّةِ، وخاصَّةً هذه الفُروقَ الَّتي يَلزَمُ إدْراكُها لإدْراكِ الكَلامِ)
[393] ((الكلام إنتاجه وتحليله)) لعبد الرحمن أيوب (ص27). .
لِهذا فإنَّ الأَولى لِدارِسي الأصْواتِ أن يَتَّجِهوا إلى دِراسةِ أعْضاءِ النُّطْقِ مُباشَرةً، ويَتَعرَّفوا عَمَلَها في إنْتاجِ الأصْواتِ اللُّغويَّةِ، بَدَلًا مِنَ الحَديثِ عن أشْياءَ مُفْترَضةٍ لم يَقُمْ عليها دَليلٌ، معَ الاسْتِفادةِ مِنَ الحَقائِقِ الَّتي يُقدِّمُها عِلمُ التَّشْريحِ وعِلمُ وَظائِفِ الأعْضاءِ لتَوضيحِ طَبيعةِ عَمَلِ تلك الأعْضاءِ
[394] يُنظَر: ((المدخل إلى علم أصوات العربية)) لغانم قدوري الحمد (ص43 - 47). .
طَريقةُ إنْتاجِ الأصْواتِ اللُّغويَّةِ: (عندَما يَستعِدُّ الإنْسانُ للكَلامِ العاديِّ يَسْتَنْشِقُ الهَواءَ فيَمتلِئُ صَدرُه به قَليلًا، وإذا أخَذ في التَّكلُّمِ فإنَّ عَضَلاتِ البَطْنِ تَتقلَّصُ قبل النُّطْقِ بأوَّلِ مَقطَعٍ صَوتيٍّ، ثمَّ تَتقلَّصُ عَضَلاتُ القَفَصِ الصَّدريِّ بحَرَكاتٍ سَريعةٍ تَدفَعُ الهَواءَ إلى أعلى عبْرَ الأعْضاءِ المُنْتِجةِ للأصْواتِ، وتُواصِلُ عَضَلاتُ البَطنِ تَقلُّصاتِها في حَرَكةٍ بَطيئةٍ مَضْبوطةٍ إلى أن يَنتهيَ الإنْسانُ مِنَ الجُملةِ الأُولى، فإذا فرَغ منها فإنَّ عَمليَّةَ الشَّهيقِ تَملأُ الصَّدرَ ثانِيةً وبسُرعةٍ اسْتِعدادًا للنُّطْقِ بالجُملةِ التَّاليةِ، وهكذا)
[395] يُنظَر: ((فن الإلقاء)) عبد الفتاح مقلد (ص: 26). .
وهذا يَعْني أنَّ العَمليَّةَ الكَلاميَّةَ تَتِمُّ في شَكْلِها الأساسيِّ عن طَريقِ التَّحكُّمِ في هَواءِ الزَّفيرِ الصَّاعِدِ بَينَ الرِّئتَينِ، وقد تَحدُثُ بعضُ الأصْواتِ مِن هَواءِ الشَّهيقِ بصُورةٍ اسْتِثنائيَّةٍ، مِثلُ الأصْواتِ المَسْموعةِ مِنَ الأطْفالِ، ونَسْتعمِلُها أحْيانًا في حالةِ النَّشيجِ أو الانْتِحابِ
[396] يُنظَر: ((دِراسة الصوت اللُّغوي)) لأحمد مختار عمر (ص111-112). .
وهناك عَوامِلُ أخرى تُسهِمُ في إنْتاجِ الصَّوتِ اللُّغويِّ، أهمُّها ثَلاثةٌ: حالةُ الوَتَرَين الصَّوتيَّين عند إنْتاجِ الصَّوتِ، والنُّقطةُ الَّتي تَعتَرضُ فيها آلةُ النُّطْقِ تَيَّارَ النَّفَسِ، ومِقدارُ ذلك الاعتِراضِ ونَوعُه
[397] يُنظَر: ((المدخل إلى علم أصوات العربية)) لغانم قدوري الحمد (ص61). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش