الفَصلُ الخامس والأربعون: أبو العَبَّاسِ ثَعْلَبٌ (ت: 291 هـ)
أَبُو العَبَّاس، أحمدُ بنُ يَحْيَى بن زَيْد بن سَيَّار الشَّيْبَانِي المُلَقَّب بِثَعْلَب، النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، المُقْرِئ، شَيْخُ العَرَبِيَّة، إمَامُ الكُوفِيِّين في النَّحْوِ وَاللُّغَةِ.
مَوْلِدُه:وُلِد سَنةَ مائَتَينِ. وقيل: إحدى ومائَتَينِ. وقيل: أربع ومائَتَينِ. والذي يدُلُّ على أنَّه وُلِد في سَنةَ مائَتَينِ أنَّه قال: (رأيتُ
المأمونَ لَمَّا قَدِم مِن خُرَاسَان في سَنةَ أربع ومائَتَينِ وقد خرج من باب الحديدِ يريدُ الرُّصَافَة والنَّاس صَفَّان، فَحَمَلَنِي أبي على يَدِه، وقال: هذا
المأمونُ، وهذه سَنةَ أربعٍ، فحَفِظتُ ذلك عنه إلى السَّاعة، وكان سنِّي تقديرًا يومئذٍ أربعُ سنينَ).
مِن مشايخِه:إبراهيمُ بنُ المْنْذِر، وعَلِيُّ بن المُغِيرَة الأَثْرَم، وسَلَمَةُ بنُ عَاصِم، ومُحَمَّدُ بنُ سَلَّام الجُمَحِيُّ، وعُبَيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ القَوَارِيري، والزُّبَيرُ بنُ بَكَّار.
ومِن تَلامِذَتِه: نِفْطَوَيْه، والأَخْفَش الصَّغِير، وابنُ الأنْبَاري، وأبو عُمَر الزَّاهِد، وابنُ عَرَفَة، وإبراهيمُ الحَرْبِي.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان ثَعْلَبٌ مَشْهُورًا بِالصِّدْق والحِفظِ، وذُكِر أَنَّهُ سَمِع مِن القَوَارِيرِيِّ مِائةَ ألفِ حَديثٍ.
وكان ثِقَةً، حُجَّةً دَيِّنًا صَالِحًا؛ جاءه رَجُلٌ فسأله عن مسألةٍ، فقال له ثَعْلَبٌ: (لا أدري)، فقال الرَّجُلُ: (مِثْلُك يقول: لا أدري، وإليك تُضْرَبُ أكْبَادُ الإِبِلِ، وإليك الرِّحلةُ مِن كلِّ بَلَدٍ؟!) فقال: (لو أنَّ لأُمِّك بعَدَدِ "لا أدري" بَعْرًا لاستَغْنَتْ).
وقال أبو بَكر بنُ مجَاهِدٍ: (قال لي ثَعلَبٌ: اشتَغَلَ أصحابُ القُرآنِ بالقُرآنِ ففازُوا، واشتغَلَ أَصحابُ الحَدِيثِ بِالحَدِيثِ ففازُوا، واشتغَلَ أصحابُ الفِقْهِ بالفِقْهِ ففازُوا، واشغَلتُ أَنا بزَيدٍ وعَمْرٍو، فَلَيتَ شِعْرِي ماذا يَكُونُ حالِي فِي الآخِرَةِ؟! فانصَرَفْتُ مِن عِندِه، فرأيتُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِلكَ اللَّيلةَ فِي المَنامِ، فَقالَ لِي: أَقرِئْ أَبا العَبَّاسِ مِنِّي السَّلامَ، وقُلْ له: أنتَ صاحِبُ العِلمِ المُستَطِيلِ).
وَمِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ:إِذَا كُنْتَ قُوتَ النَّفْسِ ثُمَّ هَجَرْتَهَا
فَكَمْ تَلْبَثُ النَّفْسُ الَّتِي أَنْتَ قُوتُهَا
سَتَبْقَى بَقَاءَ الضَّبِّ فِي المَاءِ أَوْ كَمَا
يَعِيشُ بِبَيْدَاءِ المَهَامِهِ حُوتُهَا
أَغَرَّكَ مِنِّي أَنْ تَصَبَّرْتُ جَاهِدًا
وفي النَّفْسِ مِنِّي مِنْكَ مَا سَيُمِيتُهَا
فَلَوْ كَانَ مَا بِي بِالصُّخُورِ لَهَدَّهَا
وَبِالرِّيحِ مَا هَبَّتْ وَطَالَ خُفُوتُهَا
فَصَبْرًا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
فَأَشْكُو هُمُومًا مِنْكَ فِيكَ لَقِيتُهَا
عَقيدتُه:كان ثَعْلَبٌ ثِقةً في دينِه، صالحًا ديِّنًا، صاحبَ سُنَّةٍ، على اعتِقادِ السَّلَفِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ.
قال إبراهيمُ الحَربيُّ: (بلَغَني أنَّ أبا العبَّاسِ أحمَدَ بنَ يحيى النَّحْويَّ قد كَرِه الكلامَ في الاسمِ والمُسَمَّى، وقد كَرِهْتُ لكم ما كَرِه أحمَدُ بنُ يحيى، ورَضِيتُ لكم ولنَفْسي ما رَضِيَ)
[245] ينظر: ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقفطي (1/ 177). .
قال
الخَطيبُ البَغْداديُّ: (وكان ثِقةً حُجَّةً، ديِّنًا صالحًا، مشهورًا بالحِفْظِ وصِدْقِ اللَّهْجةِ)
[246] ينظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/448). . وقال تاجُ الدِّينِ ابنُ السَّاعي: (إمامُ الكُوفيِّينَ في النَّحْوِ واللُّغةِ والدِّيانةِ)
[247] ينظر: ((الدر الثمين في أسماء المصنفين)) لابن الساعي (ص: 293). .
نَقَل عنه
اللَّالَكائيُّ: (
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] : أقبَلَ، و
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] : علا، واستوى وَجْهُه: اتَّصَل، واستوى القَمَرُ: امتَلَأ، واستوى زيدٌ وعَمْرٌو: تشابَها واستوى فِعْلاهما وإن لم تَتَشابَهْ شُخوصُهما. هذا الذي يُعرَفُ مِن كَلامِ العَرَبِ)
[248] ينظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 443). .
ونقل عنه أيضًا: (القَدَريَّةُ مَن يزعُمُ أنَّه يَقدِرُ، ونحن نقولُ: لا نَقْدِرُ إلَّا بقَدَرِ اللهِ وبعَونِ اللهِ وتَوفيقِ اللهِ، وإن لم يفعَلْ ذلك بنا لم نَقدِرْ، فكيف يكونُ القَدَريُّ من زَعَم أنَّه لا يَقدِرُ؟ هذا محالٌ ضالٌّ، ولا أعلَمُ عَرَبيًّا قَدَريًّا). قيل له: يقَعُ في قُلوبِ العَرَبِ القَولُ بالقَدَرِ؟ قال: (مَعاذَ اللهِ! ما في العَرَبِ إلَّا مُثْبِتٌ القَدَرَ خَيْرَه وشَرَّه، أهلُ الجاهليَّةِ والإسلامِ، ذلك في أشعارِهم وكَلامِهم كثيرٌ)
[249] ينظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 780). .
وقال
السَّمعانيُّ في تَفسيرِ قولِه تعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] : (قال الفرَّاءُ وثَعلبٌ: إنَّ العَرَبَ تُسَمِّي ما تَوصَّلَ إلى الإنسانِ: كَلامًا، بأيِّ طَريقٍ وصَل إليهِ، ولكنْ لا تُحَقِّقه بالمَصْدرِ، فإذا حُقِّقَ الكلامُ بالمَصْدَرِ، لم تكُنْ إلَّا حقيقةُ الكلامِ، وهذا كالإرادةِ، يُقالُ: أراد فُلانٌ إرادةً، فيكونُ حَقيقةَ الإرادةِ، ولا يُقالُ: أرادَ الجِدارَ أنْ يَسقُطَ إرادةً، وإنَّما يُقالُ: أرادَ الجِدارَ، مِن غيرِ ذِكرِ المصدَرِ؛ لأنَّه مَجازٌ، فلمَّا حقَّق اللهُ كَلامَه مُوسَى بالتَّكليمِ، عُرِف أنَّه حَقِيقةُ الكلامِ مِن غيرِ واسِطةٍ. قال ثَعْلبٌ: وهذا دَليلٌ مِن قَولِ الفرَّاءِ أنه ما كان يقولُ بخَلقِ القُرآنِ)
[250] ينظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 503). .
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((الفصيح))، وكتاب: ((اختلاف النَّحْويِّين))، وكتاب: ((القراءات))، وكتاب: ((المصُون))، وكتاب: ((معاني القُرآنِ))، وكتاب: ((إعراب القُرآنِ))، وكتاب: ((ما تَلْحَن فيه العَامَّة))، وكتاب: ((الوقف والابتداء))، وكتاب: ((معاني الشعر))، وكتاب: ((الأوسط))، وكتاب: ((حدُّ النَّحْو)).
وفاتُه:تُوفِّي سَنةَ إحدى وتسعينَ ومِائَتَينِ، وسبب ذلك أنَّه خرج مِن الجامِعِ يومَ الجُمُعةِ بعدَ العَصرِ، وكان قد لَحِقَه صَمَمٌ ولا يسمَعُ إلَّا بعد تَعَبٍ، وكان في يَدِه كِتَابٌ يَنظُر فيه في الطَّريق، فصدمَتْه فَرَسٌ فَأَلْقَته في هُوَّةٍ، فَأُخْرِج منها وهو كالمُخْتَلِط، فَحُمِل إلى مَنْزِلِه على تلك الحالِ وهو يتأوَّه مِن رَأْسِه، فمات من الغد
[251] يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/ 448)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 173)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (2/ 536)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (1/ 173)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (1/ 102)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 725)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 86)، ((الأعلام)) للزركلي (1/ 267). .