الفَصلُ السَّادس والثلاثون: ابْنُ خَالَوَيْه (ت: 370 هـ)
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالَوَيْهِ بن حَمْدَان الهَمَذَانِيُّ، نزيل حَلَبٍ، النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، المُفَسِّرُ، المُقْرِئ، ذُو النُّونَيْن، صَاحِبُ المُصَنَّفَاتِ.
مِن مَشَايِخِه:أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِي، ومُحَمَّدُ بنُ بَشَّار الأَنْبَارِيُّ، وابنُ مُجَاهِد، و
ابنُ دُرَيْد، و
نِفْطَوَيْه، وأبو عُمَر الزَّاهِد، ومُحَمَّد بن مَخْلَد العَطَّار.
ومِن تَلَامِذَتِه:عُثْمَانُ بنُ أحمَدَ بنِ الفُلُوِّ، والقَاضِي المُعَافى بن زكريَّا النَّهْرَوَانِي، وأبو أحمد بن عدي الحافظ.
سَبَبُ تَلْقِيبِه بِذِي النُّونَيْن:لُقِّب بِذِي النُّونَيْن؛ لأنَّه كانَ يكتبُ في آخِرِ كتُبِه: الحُسَينُ بنُ خَالَوَيه، فيُطَوِّلُهما في خطِّه، وهما: نونُ الحُسَين، ونونُ ابن.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان ابنُ خَالَوَيْه نَحْويًّا من كِبَار النُّحَاة، إِمَامًا في اللُّغَة والعَرَبيَّة وَغَيرهمَا من العُلُوم الأَدَبِيَّة، وكان أَحَدَ أَفْرَادِ الدَّهْرِ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِن أَقسَامِ العِلْم وَالأَدَب، وكَانَت الرِّحلةُ إِلَيْهِ من الآفَاقِ.
أَصْلُه مِن هَمَذَان، زار اليَمَنَ وأقام بِذَمَار مُدَّةً، وانتقل إلى الشَّامِ فاستوطن حَلَب، وعَظُمَت بها شُهْرَتُه؛ فَأَحَّلَه بَنُو حمَدْان مَنْزِلَةً رَفِيعَةً.
وكانت له مع
المُتَنَبِّي مَجَالِسُ ومَبَاحِثُ ومُنَاظَراتٌ عند سَيْفِ الدَّوْلَة، وعَهِد إليه سَيْفُ الدَّوْلَة بتَأْدِيب أَوْلَادِه.
عقيدتُه:اضْطَربت أقوالُ المترجمين له، فقال ابنُ أبي طي:
((كان إماميًّا عالِمًا بالمذهَبِ)) [358] ينظر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (3/ 140). ، قال
ابنُ حَجَرٍ:
((وقد ذُكِرَ في كتابِ "ليس" ما يدُلُّ على ذلك)) [359] ينظر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (3/ 140). .
وقال
الذَّهبيُّ في تاريخِه:
((كان صاحِبَ سُنَّةٍ)) [360] ينظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 321). ، وقال صلاحُ الدِّينِ الصَّفَديُّ:
((كان زاهدًا متعبِّدًا عفيفًا نزهًا على طريقةِ السَّلَفِ)) [361] ينظر: ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (12/ 201). وقال
ابنُ حَجَرٍ:
((يُظهِرُ ذلك تقرُّبًا لسَيفِ الدَّولةِ صاحِبِ حَلَبٍ)) [362] ينظر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (3/ 140). .
وقد أنكَرَ الدُّكتورُ عَبدُ العال سالم مكرم محقِّقُ كِتابِ "الحُجَّة في القِراءاتِ السَّبْع" أن يكونَ ابنُ خالَوَيهِ إماميًّا، مُستَنِدًا إلى أنَّه لو كان إماميًّا لاشتَهَر أمْرُه، وفضَحَه أعداؤه ومنافِسوه في وقتٍ كانت تُعَدُّ فيه الهَفَواتُ، وأنَّه لو كان
المتنَبِّي يُحِسُّ بأنَّه إماميٌّ لهجاه، وأظهر عَوارَه لسَيفِ الدَّولةِ السُّنِّيِّ؛ ليُبعِدَه من بلاطِه، ويَطرُدَه من بلادِه، ولَمَا سَكَتَ عنه
أبو عليٍّ الفارسيُّ في رسائِلِه التي كان يبعَثُ بها إلى سَيفِ الدَّولةِ مُدافِعًا عن نَفْسِه من التُّهَمِ التي كان ينسُبُه إليها ابنُ خالَوَيه، وأنَّه لو كان إماميًّا لَما تعبَّد على المذهَبِ الشَّافعيِّ؛ لأنَّ
الشَّافعيَّ سُنِّيٌّ، وليس تأليفُه لكتابِ «الإماميَّة» يجعَلُه إماميًّا، فالرَّجُلُ مُولَعٌ بالثَّقافةِ الواسِعةِ، وبالتأليفِ في مجالاتِها المختَلِفةِ؛ ومن ثَمَّ ألَّفَ كتابَه ليدُلَّ على أنَّه مُلِمٌّ بأحداثِ عَصْرِه وبتاريخِ مجتَمَعِه
[363] ينظر: ((الحجة في القراءات السبع)) (ص: 16). .
وفي كُتبِه ما يدُلُّ على حُسنِ اعتقادِه؛ فمنها أنَّه أقرَّ بأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ تعالى غيرُ مخلوقٍ، فقال: (والجَعلُ يكونُ الخلْقَ، ويكونُ التَّصييرَ؛ قال اللهُ تعالى:
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، أي: خَلَق، وقال:
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] ، أي: صَيَّرناه وبيَّنَّاه)
[364] ينظر: ((إعراب ثلاثين سورة)) لابن خالويه (ص: 191). .
ونقَلَ عنه ابنُ العَديمِ قولَه: (كنتُ عندَ سَيفِ الدَّولةِ، وعندَه ابنُ بنتِ حامدٍ، فناظَرَني على خَلْقِ القرآنِ، فلمَّا كان تلك اللَّيلةُ نِمتُ،، فأتاني آتٍ فقال:لِمَ لَمْ تَحْتَجَّ عليه بأوَّلِ القصَصِ
طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: 1 - 3] ، والتِّلاوةُ لا تكونُ إلَّا بالكلامِ)
[365] ينظر: ((بغية الطلب فى تاريخ حلب)) لابن العديم (2/ 757). .
كما أثبَتَ صِفاتِ اللهِ تعالى، فقال: (إنَّ جبَّارًا في صِفةِ اللهِ هو الَّذي عِبادُه على ما أرادَ وأحْيا وأماتَ، وهي صِفةٌ لا تَليقُ إلَّا باللهِ، وكذلك الكِبرُ رِداءُ اللهِ، فإذا جاء المخلوقُ لِيَتشبَّهَ بمَن لا يُشبِهُه شَيءٌ وارتَكَبَ ما ليْس له، ونَازَعَ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ رِداءَه، وكان مَذمومًا له)
[366] ينظر: ((إعراب القراءات السبع وعللها)) لابن خالويه (2/ 269). ، وقال أيضًا: (والَّذي أذهَبُ إليه أنَّ هذه الأسماءَ كلَّها صِفاتٌ للهِ تبارَك وتعالَى، وثَناءٌ عليه، وهي الأسماءُ الحُسنى؛ كما قال اللهُ:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] )
[367] ينظر: ((إعراب ثلاثين سورة)) لابن خالويه (ص: 14). .
وإنْ كان قدْ أوَّلَ بعضَ الصِّفاتِ، كقولِه في الاستواءِ: (والاستواءُ على ثَلاثةِ أوجُهٍ: يُقالُ: استَوى الشَّيءُ بعْدَ الاعوجاجِ، كالخشَبِ والقَناةِ، واستَوى الأمرُ: استقامَ بعْدَ الاضطرابِ، واستَوى: عَلا وقَهَر بالسُّلطانِ والَعَظمةِ، ومنه قولُه تعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، والاستواءُ: الاستيلاءُ؛ يُقال: استَوى الأميرُ على بلَدِ كذا، أي: استَولى)
[368] ينظر: ((شرح مقصورة ابن دريد)) لابن خالويه (ص: 337). .
أمَّا اتِّهامُه بالإماميَّةِ ففي كُتبِه ما يُناقِضُ ذلك؛ فمِنه اختيارُ قولِ أهلِ السُّنَّةِ في أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ ليْس بكافرٍ؛ فقال: (واختلَفَ النَّاسُ في الكبائرِ؛ فقال قومٌ: كلُّ مَن ارتَكَب كَبيرةً فهو في النَّارِ خالدًا مُخلَّدًا، وقال أهلُ السُّنَّةِ: كلُّ مَن ارتكَبَ ذَنْبًا صَغيرًا أو كبيرًا ليْس الشِّركَ باللهِ، فإنَّ اللهَ تعالَى جائزٌ أنْ يَغفِرَ له)
[369] ينظر: ((إعراب القراءات السبع وعللها)) لابن خالويه (2/ 289). .
ومنه تَبريئُه ل
أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رَضِي اللهُ عنها، وتَسميتُه مَن خاضَ في عِرضِها مُنافقًا، قال: (وكان الأصلُ في ذلك أنَّ النَّاسَ لَمَّا أفاضُوا في الإفكِ وحديثِ
عائشةَ، كان الرَّجلُ يَلْقى الآخَرَ فيقولُ: أمَا بَلَغَك حديثُ
عائشةَ؟ لِتَشيعَ الفاحشةُ في الَّذين آمَنوا، فأنزَلَ اللهُ تعالى في بَراءتَها، وأرغَمَ أُنوفَ المنافقينَ، فقال:
أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور: 26] ، يعني
عائشةَ وصَفوانَ بنَ المُعطَّلِ)
[370] ينظر: ((إعراب القراءات السبع وعللها)) لابن خالويه (2/ 103). .
ولكنَّه وإنْ لم يكن إماميًّا فهو شِيعيٌّ يُحِبُّ آلَ البيتِ ويُوالِيهم، دونَ أنْ يَنتقِصَ مِن الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وقدْ تَجلَّى ذلك في كُتبِه؛ فمنه قَولُه في تفسيرِ قَولِه تعالى:
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8] :
((فيه عَشَرةُ أقوالٍ، أحسَنُها: عن وِلايةِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه!)) [371] ينظر: ((إعراب القراءات السبع وعللها)) لابن خالويه (2/ 525). ، وقولُه في تَفسيرِ قولِه تعالى: : (المنذرُ: النبيُّ عليه السَّلامُ، والهادي: عليٌّ رَضِي اللهُ عنه)
[372] ينظر: ((إعراب القراءات السبع وعللها)) لابن خالويه (2/ 437). ، وربَّما كان تَشَيُّعُه مُجاراةً للتَّيَّارِ الشِّيعيِ السَّائدِ في زَمانِ البُويهيينَ، ومُداهَنةً لسَيفِ الدَّولةِ الحَمْدانيِّ المتشيِّعِ
[373] قال الذهبي في ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)) (16/187): (فيه تشيع). ، وخوفًا على مَنزلتِه منه أنْ يَظفَرَ بها غيرُه لِمُوافَقةِ الأميرِ في الهوى والمعتقَدِ. واللهُ أعلمُ بحالِه.
مِن مَوَاقِفِه:- دَخَل يومًا على سَيْف الدَّوْلَة بن حَمْدَان فلمَّا مَثَل بين يديه، قال له: اقْعُد، ولم يقُلِ: اجْلِس، قال ابنُ خَالَوَيْه: (فَتَبَيَّنْتُ بذلك اعْتِلَاقَه بأَهْدَابِ الأَدَبِ، واطِّلَاعَه على أَسْرَارِ كَلَامِ العَرَب)، وإنَّما قال ابنُ خَالَوَيْه هذا؛ لأن المُخْتَار عند أَهْل الأَدَب أن يُقَال للقَائِم: اقْعُدْ، وللنَّائِم أو السَّاجِدِ: اجْلِسْ
[374] ينظر: ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (3/1031)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/178). .
- وذُكِر أنَّ سَيْف الدَّوْلَة الحَمْدَانِي سَأَل جَمَاعَةً مِن العُلَمَاء بِحَضْرَتِه ذَات لَيْلَة: هَلْ تَعْرِفُون اسْمًا مَمْدُودًا جَمْعُه مَقْصُورٌ؟ فقالوا: لا، فقال لابنِ خَالَوَيْه: ما تقول أنت؟ قال: أنا أعرِفُ اسمينِ، قال: ما هما؟ قال: لا أقولُ لك إلَّا بألْفِ دِرهَمٍ؛ لئلا تُؤْخَذَ بلا شُكْرٍ، وهما: صَحْرَاءُ وصَحَارَى، وعَذْرَاءُ وعَذَارَى
[375] ينظر: ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (3/1031)، ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (2/199). .
ومِن شِعْرِه:إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ المَجَالِسِ سَيِّدًا
فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ صَدَّرْتَهُ المَجَالِسُ
وَكَمْ قَائِلٍ قَدْ قَالَ إِنَّكَ رَاجِلٌ
فَقُلْتُ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فارِسُ
وله أيضًا:الجُودُ طَبْعِي وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَالُ
فَكَيْفَ يَبْذُلُ مَنْ بِالقَرْضِ يَحْتَالُ؟
فَهَاكَ حَظِّي فَخُذْهُ اليَوْمَ تَذْكِرَةً
إِلَى اتِّسَاعِي فَلِي فِي الغَيْبِ آمَالُ
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((شرح مقصورة ابنِ دُرَيد))، و((مختَصَر في شواذِّ القُرآنِ))، و((إعراب ثلاثينَ سورة من القُرآنِ العزيز))، و((الجُمَل)) في النَّحْو، وكتاب: ((الاشتقاق))، وكتاب: ((البديع فِي القرَاءَات السَّبع))، وكتاب: ((ليس)) -وهو يدُلُّ على اطِّلاعٍ عظيمٍ؛ فإن مَبْنَى الكِتَاب مِن أَوَّلِه إلى آَخِره على أنَّه ليس في كلام العَرَب كذا وكذا-.
وَفَاتُه:تُوفِّي بحَلَبٍ سَنةَ سبعينَ وثلاثِ مِائة
[376] يُنظَر: ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 230)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (3/ 1030)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (1/ 359)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (2/ 178)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 321)، ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (12/ 200)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/ 403)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 121)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (3/ 140)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (1/ 529)، ((الأعلام)) للزركلي (2/ 231). .